بقلم محمد سعيد أبوالنصر
تحتفل معظم دول العالم وبلدانه في الأول من شهر أيار (مايو) من كل عام بيوم العمال العالمي، وهو مناسبة سنوية للاحتفال بالعُمال ،ويعدّ من الأيام المهمة في تاريخ العالم؛ لأن العمال لم يحصلوا على حقوقهم إلَّا بعد صراع ومظاهرات عبر السنين راح ضحيتها عشرات القتلى وآلاف المعتقلين ،ويوم العمال يرمز إلى احترام، وتقدير العُمال، والموظّفين في كافة قطاعات العمل، لمُساهمتهم مساهمة فعّالة في نهوض مجتمعهم، عن طريق القيام بالأعمال الموكولة إليهم ، والمهام المطلوبة منهم.
منزلة العمل :
للعمل في الإسلام مكانةٌ كبيرة ومنزلة رفيعة؛ حيث ينظر الإسلام إليه نظرةَ احتِرام وتكريم وإجلال فعن طريقه تعمر الديار، وتزدهر الأوطان، ويحدث الاستقرار، رُوِيَ أَنَّ لُقْمَانَ الْحَكِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لِابْنِهِ يَا بُنَيَّ اسْتَعِنْ بِالْكَسْبِ الْحَلَالِ فَإِنَّهُ مَا افْتَقَرَ أَحَدٌ قَطُّ إلَّا أَصَابَهُ ثَلَاثُ خِصَالٍ : رِقَّةٌ فِي دِينِهِ وَضَعْفٌ فِي عَقْلِهِ وَذَهَابُ مُرُوءَتِهِ ، وَأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ اسْتِخْفَافُ النَّاسِ.
فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ:
أمر الله سبحانه وتعالى بالانتشار في الأرض والسعي في طلب الرزق فقال تعالى {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10]، ويقول سبحانه {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15] إن الإسلام حثَّ على العمل والسعي في طلَب الرزق؛ عَنْ الْمِقْدَامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ"
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لاَ تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا."وَلَا تَلْتَفِتُ إِلَى جَمَاعَةٍ أَنْكَرُوا ذَلِكَ وَقَعَدُوا فِي الْمَسَاجِدِ أَعْيُنُهُمْ طَامِحَةٌ وَأَيْدِيهِمْ مَادَّةٌ إِلَى مَا فِي أَيْدِي النَّاسِ يُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمُ الْمُتَوَكِّلَةَ، وَلَيْسُوا كَذَلِكَ، يَتَمَسَّكُونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: 22] وَهُمْ بِمَعْنَاهُ وَتَأْوِيلِهِ جَاهِلُونَ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمَطَرُ الَّذِي هُوَ سَبَبُ إِنْبَاتِ الرِّزْقِ، وَلَوْ كَانَ الرِّزْقُ يَنْزِلُ عَلَيْنَا مِنَ السَّمَاءِ لَمَا أُمِرْنَا بِالِاكْتِسَابِ وَالسَّعْيِ فِي الْأَسْبَابِ، قَالَ تَعَالَى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك: 15] ؛ وَقَالَ تَعَالَى: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة: 267] .
طلب العمل فريضة :
يَقُولُ مُحَمَّد بْنَ الْحَسَنِ :"طَلَبُ الْكَسْبِ فَرِيضَةٌ كَمَا أَنَّ طَلَبَ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ، وَهَذَا صَحِيحٌ لِمَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ: «طَلَبُ الْكَسْبِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ» ، وَلِأَنَّهُ لَا يُتَوَسَّلُ إِلَى إِقَامَةِ الْفَرْضِ إِلَّا بِهِ فَكَانَ فَرْضًا لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَدَاءِ الْعِبَادَاتِ إِلَّا بِقُوَّةِ بَدَنِهِ، وَقُوَّةُ بَدَنِهِ بِالْقُوتِ عَادَةً وَخِلْقَةً. وَتَحْصِيلُ الْقُوتِ بِالْكَسْبِ وَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ فِي الطَّهَارَةِ إِلَى آلَةِ الِاسْتِقَاءِ وَالْآنِيَةِ، وَيَحْتَاجُ فِي الصَّلَاةِ إِلَى مَا يَسْتُرُ عَوْرَتَهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَحْصُلُ عَادَةً بِالِاكْتِسَابِ"
نماذج من أعمال الأنبياء والصحابه :
مهمة الأنبياء تبليغ الدعوة وتوصيل الرسالة وبالرغم من انشغال الأنبياء بالدعوة إلى الله وتبليغ رسالتهم إلى أممهم وأقوامهم ، كانت لهم أعمالهم وكَانُوا يَكْتَسِبُونَ قال - سبحانه -: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ ﴾ [الفرقان: 20]، "أَيْ قَدْ كَانُوا بَشَرًا مِنَ الْبَشَرِ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ مِثْلَ النَّاسِ، وَيَدْخُلُونَ الْأَسْوَاقَ لِلتَّكَسُّبِ وَالتِّجَارَةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِضَارٍّ لَهُمْ وَلَا نَاقِصٍ مِنْهُمْ شَيْئًا، كَمَا تَوَهَّمَهُ الْمُشْرِكُونَ فِي قَوْلِهِمْ {مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها }[الفرقان: 7- 8] الآية"والآية أصلٌ في تناوُل الأسباب وطلَب المعاش بالتجارة والصناعة وغير ذلك"
ولقد اختلفت أعمال الأنبياء ليكونوا الأسوة والقدوة للبشر في امتهان أنواع الأعمال المختلفة" فَآدَمُ زَرَعَ الْحِنْطَةَ وَسَقَاهَا وَحَصَدَهَا وَدَاسَهَا وَطَحَنَهَا وَعَجَنَهَا وَخَبَزَهَا وَأَكَلَهَا؛ وَنُوحٌ كَانَ نَجَّارًا، وَإِبْرَاهِيمُ كَانَ بَزَّازًا، وَدَاوُدُ كَانَ يَصْنَعُ الدُّرُوعَ، قال تعالى عنه: ﴿ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ ﴾ [الأنبياء: 80]، وقال أيضًا: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ، أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [سبأ: 10-11].
وَسُلَيْمَانُ كَانَ يَصْنَعُ الْمَكَاتِلَ مِنَ الْخُوصِ، وَزَكَرِيَّا كَانَ نَجَّارًا،.
وموسى وشعيب ومحمد صلوات الله تعالى عليهم رعاة للأغنام، وَكَانُوا يَأْكُلُونَ مِنْ كَسْبِهِمْ.
وعمل صلى الله عليه وسلم أيضاً في التجارة فخرج إلى الشام في تجارة عمه وزوجه خديجة رضي الله عنها.
وأخبر نبيُّنا محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّه كان يعمَل برعي الأغنام؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا رَعَى الْغَنَمَ فَقَالَ أَصْحَابُهُ وَأَنْتَ فَقَالَ نَعَمْ كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لِأَهْلِ مَكَّةَو( قراريط ) جمع قيراط وهو جزء من النقد وقيل قراريط اسم موضع قرب جياد بمكة "
وقد فقه صحابة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ذلك، فاجتَهدوا في العمل لكسب الرزق؛" حيث رُوِي أنَّ أبا بكرٍ الصِّدِّيق رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كان يعمل بَزَّازًا ، وكان َعُمَر بن الخطاب يَعْمَلُ فِي الْأَدِيمِ (الجلد). وكان َعُثْمَانُ بن عفَّان تَاجِرًا يَجْلِبُ الطَّعَامَ فَيَبِيعُهُ. وَعَلِيٌّ كَانَ يَكْتَسِبُ فَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ كَانَ يُؤَاجِرُ نَفْسَهُ وقد أجر نفسه أكثر من مرَّة ليكسب قوت يومِه
حقوق العمال
العمل في الإسلام واجب والتسول مرفوض ومحظور إلَّا في أضيق الأوقات وأحلج الظروف ،ولقد كرَّم الإسلام العمال ورعاهم ، ومنحهم حقوقًا ما كانوا يأخذوها إلَّا في ظلال الإسلام العادل فالإسلام جاء بمبادئ تضمن حقوق العمال قاصدًا من وراء ذلك توفير الحياة الكريمة وإقامة العدالة الاجتماعية. ، والإنسان مطلوب منه جملة أشياء لحاجاته ومطلوبات مَنْ يعول كالمطعم والملبس والمسكن والدواء وآلات الحرفة الخ المطلوبات ، ولا يتحقق ذلك له إلَّا بالعمل، ومن واجب الدولة أن تهيّئ وتسهل سُبل العمل والكسب لكل قادر عليه بما يكفيه ويكفي أسرته، وأن تيسر له من التعليم والتدريب ما يؤهله لهذا العمل، حتى يستطيع العامل تأمين نفقاته العائلية ليصون كرامته ويحفظ إنسانيته ، وعلى الدولة أن تقوم "بإيجاد المشاريع النافعة لتشغيل الأفراد، ولا تنفق موارد الدولة على التوافه من الأمور، وعلى ما لا ينفع، "كل ذلك لمحاربة للفقر والبطالة، ولقد ضرب لنا النبي النموذج الواضح في مساعدة المحتاجين إلى العمل ومن ذلك ما ذكرته السنة الفعلية للرسول - صلى الله عليه وسلم - ،عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُهُ، فَقَالَ: «أَمَا فِي بَيْتِكَ شَيْءٌ؟» قَالَ: بَلَى، حِلْسٌ " نَلْبَسُ بَعْضَهُ وَنَبْسُطُ بَعْضَهُ، وَقَعْبٌ"أي قدحٌ " نَشْرَبُ فِيهِ مِنَ الْمَاءِ، قَالَ: «ائْتِنِي بِهِمَا»، قَالَ: فَأَتَاهُ بِهِمَا، فَأَخَذَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ، وَقَالَ: «مَنْ يَشْتَرِي هَذَيْنِ؟» قَالَ رَجُلٌ: أَنَا، آخُذُهُمَا بِدِرْهَمٍ، قَالَ: «مَنْ يَزِيدُ عَلَى دِرْهَمٍ مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا»، قَالَ رَجُلٌ: أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمَيْنِ فَأَعْطَاهُمَا إِيَّاهُ، وَأَخَذَ الدِّرْهَمَيْنِ وَأَعْطَاهُمَا الْأَنْصَارِيَّ، وَقَالَ: «اشْتَرِ بِأَحَدِهِمَا طَعَامًا فَانْبِذْهُ إِلَى أَهْلِكَ، وَاشْتَرِ بِالْآخَرِ قَدُومًا " آلة للنجر والنحت " فَأْتِنِي بِهِ،»، فَأَتَاهُ بِهِ، فَشَدَّ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُودًا بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: «اذْهَبْ فَاحْتَطِبْ وَبِعْ، وَلَا أَرَيَنَّكَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا»، فَذَهَبَ الرَّجُلُ يَحْتَطِبُ وَيَبِيعُ، فَجَاءَ وَقَدْ أَصَابَ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ، فَاشْتَرَى بِبَعْضِهَا ثَوْبًا، وَبِبَعْضِهَا طَعَامًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هَذَا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَجِيءَ الْمَسْأَلَةُ نُكْتَةً فِي وَجْهِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَصْلُحُ إِلَّا لِثَلَاثَةٍ: لِذِي فَقْرٍ مُدْقِعٍ، أَوْ لِذِي غُرْمٍ مُفْظِعٍ، أَوْ لِذِي دَمٍ مُوجِعٍ "
وموضع الاستدلال من هذا الحديث أن العامل العاجز عن إيجاد فرصة عمل رفع أمره إلى ولي الأمر، وقد استجاب له ولى الأمر على الفور "فالرسول - صلى الله عليه وسلم - حرص على تأمين العمل لهذا الأنصاري، ووضع له خطة إنتاجية (خمسة عشر يوماً)، استطاع من خلالها أن يوفّر للأنصاري الاكتفاء الذاتي، في ظلّ وجود رأس مالٍ بسيط (درهم واحد) وما قام به الرسول هو ما ينبغي على الدولة فعله تجاه العامل ، فلا يصح من الدولة أن تهمل شبابها وتترك الناس يتسولون من الدول فرص عمل عبر سفرهم في البحار وقد تأكلهم الحيتان أو يبتلعهم البحر، أو عبر الهروب وسط الجبال وقد يموتون من العطش ،وكل هذا ناتج عن تقصير الدولة ، وما يشاهد هو إعلانات وصفوف طويلة لا آخر لها ،وأوراق تطلب من هؤلاء الشباب وأموال تهدر من أجل تجهيز الورق ، وأوقات تموت ولا ترجع والنتيجة صفر كبير ولا عمل الَّا لمن يملك المحسوبية والواسطة، والشقاء والتسول والبطالة لهؤلاء الشباب الذين لا يجدون يدًا تساعدهم ولا قلبًا يحن عليهم ، فالقلوب ماتت والأيادي قطعت الا النادر ، والنادر لا يقاس عليه ،والإسلام في مبادئه حارب المحسوبية وجرم الرشوة وجعل الكفاءة والصلاحية والاستحقاق هي أساس التمييز بين الأفراد في فرص العمل
إسناد العمل إلى مَن تَتوافَر فيه الكفاية له:
الأعمال في الإسلام توزع على حسب القدرة والكفاءة والأهليَّة، ونحن نقرأ في كتابنا المجيد القرآن الكريم على لسان يوسف - عليه السلام -: ﴿ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ﴾ [يوسف: 55]، وفى قوله تعالى: «إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ» إشارة إلى الصفات التي تؤهل يوسف لهذا الأمر الذي ندب نفسه له، والتي بغيرها لا يتحقق النجاح، ولا يؤمن الزلل والعثار.. وأبرز تلك الصفات هنا صفتان.. هما: الحفظ، والعلم.. والحفظ هو الضبط، والحزم في تنفيذ الخطّة التي رسمها العلم. :فقوله «إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ» أي إني أحفظها من الضياع، فلا يختلس فيها مختلس، ولا تضيع فيها الأمانات، ولا ينفق منها إلا في موضعه، ولا يبذر فيها، ولا يقتر في مواطن الإنفاق {عَلِيمٌ} ذُو عِلْمٍ وبصرَ بِمَا يَتَوَلَّاهُوعليم بما يصلح وما لا يصلح، وبوجوه الحاجة، وبوجوه الإسراف، فلا يخرج مال إلا بحقه، ولا يجمع إلا بحقه،فهو بعلمه قد كشف عن الداء، وعرف الدواء، وبحزمه وضبطه قادر على أن يحمل المريض على التزام ما يرسمه له من أسلوب الحياة، وما يقدّم إليه من دواء، وإن كان مرّا.. فالمشكلة التي تواجه مصر في هذا الوقت كانت محتاجة إلى الحزم الصارم، وأخذ الناس على طريق مرسوم لا يحيدون عنه، وإلا كان الهلاك والبلاء! ..إن مصر يومئذ كانت تستقبل سبع سنوات من الخصب والخير، ثم تستقبل بعدها سبع سنين من الجدب والقحط.. فإذا لم تعمل من يومها حسابا لغدها، وإذا لم تستبق من سنوات الخصب ما يسدّ حاجتها في سنوات الجدب، كان في ذلك البلاء الشامل، الذي يأتي على كل حياة فيها.. وأمر كهذا لا بد أن يكون الحزم والضبط أول خطة يختطها ولىّ الأمر مع الناس، ويأخذهم بها، وإلا فإن الناس قد ينسون في يومهم ما هم في حاجة إليه لغدهم، إذ النفس مولعة بحبّ العاجل، لا تلتفت كثيرا إلى المستقبل وتوقعانه، وفى ذلك ضياع لهم، حين تقع الواقعة بهم، ولم يكونوا قد أخذوا عدّتهم لها.ومن أجل هذا، قدّم الحفظ على العلم: «إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ» . فالصفتان، وإن كانتا مطلوبتين لمواجهة هذا الأمر هنا، إلا أن الحفظ أولى، وأهم من العلم.. إذ قد يستغنى الحفظ هنا عن العلم، ويتحقق للناس بعض الخير، أو كثير منه.. على حين أنه لو استغنى العلم عن الحفظ لما تحقق للناس، في هذه الحال، خير أبدا، ولكان العلم مجرد حقائق مرسومة في كلمات، أو مودعة في كتاب.. فإذا اجتمع الحفظ والعلم، اجتمع الخير كلّه.وهذا القول تأكيد لثقة يوسف أن القادم في هذا البلد يحتاج لحكمة إدارة ، لا تبعثر ما سوف يأتي في سنين الخصب؛ لتضمن الاطمئنان في سنين الشدة ، وتلك مهمة تتطلب الحفظ والعلم .
وفى القرآن الكريم موقف شبيه بهذا الموقف، يحكي قصة ابنة الرجل الصالح شعيب حين طلبت من أبيها استِئجار نبيِّ الله موسى - عليه السلام واستعماله في تدبير شؤونه.. إذ قالت: ﴿ يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ﴾ [القصص: 26] "فوصفت «موسى» بالصفتين المطلوبتين في الأمر الذي هو مطلوب له، وهو القيام على رعى أغنام شعيب، ورعايتها، وتثميرها، وهذا أمر يحتاج إلى يد قوية عاملة، ترتاد مواقع العشب، والماء، دون أن يدفعها عنها أحد.. كما أنه يحتاج إلى «الأمين» الذي يرعى هذه الأمانة التي في يديه، وأن يعطيها من جهده، وإخلاصه، ما يعطيه لما هو في ملكه وخاصة شئونه..وهكذا توضع الأمور في نصابها، حين يوضع الرجال في أماكنهم المناسبة لهم.. فلكلّ عمل أهله الذين يحسنونه، فإذا قام على العمل من لا يحسنه، أفسده، وأضاع الثمرة المرجوّة منه.ولَمَّا طلب أبو ذرٍّ - رضِي الله عنه - من النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنْ يستعمِلَه في الولاية ضرَب بيده على منكبه عَنْ أَبِى ذَرٍّ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلاَ تَسْتَعْمِلُنِى قَالَ فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى مَنْكِبِى ثُمَّ قَالَ « يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ ضَعِيفٌ وَإِنَّهَا أَمَانَةٌ وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْىٌ وَنَدَامَةٌ إِلاَّ مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا وَأَدَّى الَّذِى عَلَيْهِ فِيهَا ». فأبو ذرٍّ هنا لا تنقصه الأمانة، فهو صحابي جليل من صحابة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وإنما الذي ينقصه الكفاءة، وهو ما أشار إليه - عليه الصلاة والسلام - بقوله: "يا أبا ذرٍّ، إنَّك ضعيف"، والمقصود أنَّ في طبع هذا الصحابي الجليل لينًا ورقة لا تناسب ما تقتَضِيه الولاية من قوَّة وشدَّة تُرهِب الظالم المعتَدِي وتردعه عن الاعتداء والظلم.
وقد جعَل - صلَّى الله عليه وسلَّم - من علامات الساعة إسناد العمل إلى مَن ليس له بأهل؛ عن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ بَيْنَمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَجْلِسٍ يُحَدِّثُ الْقَوْمَ جَاءَهُ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ مَتَى السَّاعَةُ فَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُ فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ سَمِعَ مَا قَالَ فَكَرِهَ مَا قَالَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ لَمْ يَسْمَعْ حَتَّى إِذَا قَضَى حَدِيثَهُ قَالَ أَيْنَ أُرَاهُ السَّائِلُ عَنْ السَّاعَةِ قَالَ هَا أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَإِذَا ضُيِّعَتْ الْأَمَانَةُ فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ قَالَ كَيْفَ إِضَاعَتُهَا قَالَ إِذَا وُسِّدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ
وقد راعى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وصحابته الكرام هذا الأمرَ فيما يخصُّ الولايات والمسؤوليات، فوضعوا كلَّ عامِلٍ في مكانه المناسب، ومن ذلك على سبيل المثال: أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - اختار معاذ بن جبل - رضِي الله عنه - ليوليه القضاء في اليمن؛ لفقهه ورجاحة عقله، واختار مصعب بن عمير - رضِي الله عنه - ليكون داعية الإسلام في المدينة؛ لحكمته وعلمه وحسن أسلوبه، واختار عمر بن الخطاب - رضِي الله عنه - عامِلاً على الصدقات؛ لحزمه وعدله، واختار خالد بن الوليد - رضِي الله عنه - قائدًا للجيش؛ لمهارته وحنكته العسكرية، واختار بلالاً - رضِي الله عنه - لبيت المال؛ لزهده وتَقواه وحسن تَدبِيره، واختار أبو بكرٍ - رضِي الله عنه - زيدَ بن ثابت - رضِي الله عنه - لمهمَّة جمعِ القرآن؛ لعلمه وقوَّة حفظه...
فيجب أنْ يكون معيارُ اختِيار العامل وتوظيفه هو أهليَّته لهذا العمل، لا قرابته من المسؤول أو صداقته، أو وجود مصلحة شخصيَّة في اختياره وتقديمه على غيره، أو نحو ذلك من المعايير الزائفة.
إنَّ الأمَّة التي تَشِيع فيها المحاباة والوساطات، وتَعبَث فيها المصالح الشخصيَّة بالمصالح العُليَا لها، فتَتجاهَل أقدارَ الأكفاء وتُهمِلهم وتقدِّم عليهم مَن دونهم - لا شكَّ أنَّ ذلك سيُولِّد لديها اضطرابًا، ويُوجِد عندها ضعفًا وعجزًا يدبُّ في أوصالها ومختلف مؤسَّساتها، ويُعِيق تقدُّمها ونموَّ اقتصادها ويضعها في آخر الرَّكب بين الأُمَم.إن الحق في "توفير فرص العمل للجميع هو حق إنساني يستحقه الإنسان، بصفته الإنسانية المحضة، لا بصفته من أبناء طبقة خاصة أو أسرة معيّنة، وقد نصّ الإعلان الإسلامي لحقوق الإنسان في المادة رقم (13) على أن :" العمل حق تكفله الدولة والمجتمع لكل قادر عليه، وللإنسان حرية اختيار العمل اللائق به، مما يحقق به مصلحته ومصلحة المجتمع، وللعامل حقه في الأمن، والسلامة، وفي الضمانات الاجتماعية الأخرى كافة، ولا يجوز تكليفه بما لا يطيقه أو إكراهه أو استغلاله أو الإضرار به"
نشرت فى 3 مايو 2017
بواسطة janjeel