إبراهيم أحمد

الأسرة، المعرفة، الحياة

authentication required

يوم الجمعة 28 يناير كان اليوم الذى عبرت فيه عن رأيى و شاركت مع مئات الآلاف من المصريين و ربما الملايين فى كل ربوع مصر، فى مظاهرات احتجاجية، لم أرى مثلها من قبل.

كنت متواجدا فى منطقة الهرم، فى شارع الهرم بالتحديد، بعد صلاة الجمعة، وجدت عشرات الآلاف من الرجال و الشباب و النساء و الشيوخ تتوافد من كل الشوارع الجانبية و تتجمع و تهتف  و يعلو صوتها بالتدريج، وقفت النساء على جانبى الطريق و التحمت جموع المتظاهرين القادمين من الشوارع  فى نهر طريق الهرم و بدأ الأمن المركزى يخرج هو الآخر مكونا متاريس بشرية تعترض الطريق على كل النواصى لتمنع التحام الحشود. بعد أقل من 15 دقيقة تكون أعداد هائلة مكونة من عشرة آلاف أو يزيد فى منطقة مدخل نفق الجيزة. و كنت فى وسط هذه الجموع و كان الهتاف رائعا حماسيا..

مصر مصر مصر مصر...ثورة فى كل شوارع مصر...ثورة ثورة حتى النصر. كنت أكرر كل الهتافات إلا هتاف واحد لم أستطع حتى النطق به فى السر لأنى لست من أنصاره البته... الشعب يريد إسقاط النظام.. كنت أهتف بدلا منه..الشعب يريد إصلاح  النظام.

و لاحظت فى البداية تعامل الأمن بإحترام مع المتظاهرين، وبعد ذلك بدأ يمنع الحشود من العبور من خلال النفق للوصول إلى ميدان الجيزة ثم ميدان التحرير. كان هناك حاجز بشريا من ثلاثة صفوف من الأمن المركزى يعترض الطريق أسفل النفق.

بعد محاولات الحشود من التواصل مع الأمن و الضغط عليهم للعبور من النفق حاول المتظاهرون اختراق صفوف الأمن فبدأ إطلاق أول القنابل المسيلة للدموع و التى تلاها بعد ذلك العشرات فى خلال أقل من نصف الساعة،  بعد إطلاق القنبلة، ذعر المتظاهرون و حاولوا التراجع لتفادى القنبلة و لكن.. كان و منذ اللحظات الأولى للتجمع لاحظت وجود رجلا يركب دراجة نارية فى ظهير المتظاهرين ويعطى أوامر لنا، اصمدوا، لا تتفرقوا، اضغطوا عليهم لتفتحوا ثغرة، اثبت.. لعلى ساذجا و لكنى قلت لنفسى يمكن أن  يكون متظاهرا قديما و يعرف كيف يدير تظاهرة؟! لاحظت أنه فى أواخر الأربعينات من عمره، و يركب دراجة نارية تقليدية قديمة، و لاحظت أنه لا يهتف و إنما يتابع الحشود كأنه القائد.

بعد اشتداد الكر و الفر و بعد سماع تعليمات "القائد"، استطعنا اختراق حاجز الأمن المركزى و هذا كان الوقت الذى رأيت فيه السماء تمطر قنابل دخان، تفرق المتظاهرون و أيضا الأمن المركزى بسبب الدخان و انتابتنى كحة عنيفة جدا لم أستطع معها التنفس فبحثت عن مكان به هواء نظيف أو على الأقل بدون دخان، و استرحت قليلا و بعد ذلك رجعت إلى النفق لأرى الحشود و قد ازدادت كثافة و ما زالت تهتف سلمية.. سلمية.. سلمية.

فى هذه اللحظة رأيت عشرات الآلاف فى مشهد يهز الوجدان يحتشدون فى شارع الهرم عند النفق، من كل الأعمار، حتى النساء و الأطفال تهتف فى الشرفات، هالنى المشهد و نظرت لرجل يقف بجانبى  عمره أيضا فى أواخر الأربعينات و لا يهتف و هو الآخر يتابع المشهد بحظر، فقلت له ببراءة و إعجابا بنزول المصريين بهذا الكم إلى المظاهرات "لا يستطيع أى جهاز أمنى فى أى دولة أن يمنع أو يسيطر على تظاهرة يقوم بها الشعب كله" فنظر لى الرجل بطرف عينه و أكمل متابعة التظاهرة بدون تعليق!

لم أفكر كثيرا فى تصرف هذا الرجل على الرغم من غرابته. و إنما أيقنت فى خضم هذا المشهد الجلل أن الشعب المصرى سيذق طعم الحرية لا محالة...

فى هذه الليلة، ليلة يوم السبت 29 يناير، كانت ليلة لن ينساها المصريون. كنا نسمع و نحن فى البيوت ضجة كبيرة جدا فى شارع الهرم و تخنقنا رائحة دخان لحريق لا نعرف من أين يأتى و عرفنا بعد ذلك أن هذه الضجة ناتجة من تدمير قسم شرطة العمرانية فى أول طريق الهرم و حرق عربة الأمن المركزى و إطلاق المحجوزين و مسجلين خطر من التخشيبة، و لاحقا سرقة قسم الشرطة بالكامل. و طبعا باقى أعمال التخريب و الحرق و البلطجة و  التآمر التى حدثت فى مصر هذه الليلة العصيبة أكبر من أن توصف بالإيجاز و سنقرأ عنها بالتفصيل و التحليل فى كتابات المؤرخين و المحللين السياسين.

فى نهار يوم السبت تجولت فى شارع الهرم لأعرف ما حدث و أطمئن على المنطقة. فوجدت قسم الشرطة المنهوب ببواباته المحطمة و عربة الأمن المركزى محروقة ، مدرعات و دبابات القوات المسلحة على المنشآت الحيوية، مبنى المحافظة، مبنى البنك المركزى و مطبعة البنكنوت، و الفنادق الكبرى. أما عن أعمال التخريب فكانت مفاجأة تامة بالنسبة لى، فرأبت الملاهى الليلية الكبرى إما محطمة مثل ملهى "الليل" أو محروق بالكامل مثل ملهى "الأندلس" و "الموعد" و فندق أوروبا محروق و الكثير من الكافيهات المشبوهة، و بعض المحال القليلة التى تحطم واجهاتها الزجاجية، فيما عدا ذلك كانت باقى المحال و الفنادق و البنوك سليمة بالكامل!

طبعا توقفت عند تلك الملاحظات، و ذلك الاستهداف الدقيق و كأنه خطة تخريبية.  لماذا يفكر أى طرف أو أى قوى من القوى السياسية فى مصر أن تنتقى فى ما تخربه هكذا؟ و لصالح من؟

هل الشعب حقا يريد إسقاط النظام؟ أم يريد الحرية، و التغيير، و العدالة الإجتماعية؟

إسقاط النظام القائم فى الدولة ينتج عنه ذهاب شرعبة النظام الحاكم و انهيار منظومة مؤسسات الحكم التى تعمل فى تناسق و اتزان يضمن الاستمرار فى الحكم. و أن النظام الجدبد مهما كان نبل الثورة الناتج عنها  يأتى ضعيفا غير متسق و يحتاج عادة إلى سنوات عديدة للإتزان و النضج. و بالتالى كنت مقتنعا أننا لا نريد إسقاط النظام و إنما نحتاج التصحيح و الإصلاح، و يكفبنا ثورة واحدة كانت هى أيضا بيضاء! و كانت أيضا ثورة على الفساد! و جائت ثورة يوليو بالاعتقالات و قمع الحريات و تعفن سياسى قضى على التقدم وحتى الآن و بعد 60 سنة مازلنا نعانى  - أو قبل 25 يناير على الأقل - من فساد لم يسبق له مثيل  فى مصر الحديثة. لهذا السبب و بالرغم من استجابة الحكومة و السيد الرئيس و نائبه لكل مطالب المتظاهرين - يبدو لى أن هذا الإصرار العجيب على إسقاط النظام مريبا جدا. أتفهم أن تكون ثورة تصحيحية ولكن لا أتفهم إسقاط النظام. أنا لا أحب الفوضى.

لماذا يصر المتظاهرون على التظاهر فى الميدان بعد تحقيق غالبية مطالب الثورة؟ لا أعلم تماما و لكن..

بعضهم يقول يجب ألا يضيع دم الشهداء هدراً و هذه هى الفرصة من الإنتقام من النظام.

بعضهم خائف من الإعتقال بعد فض المظاهرات و الإلقاء به في غياهب المعتقلات.

و بعضهم لا يعرف كيف تعمل الثورات و يريد أن يتم تحقيق كل المطالب فى أسرع وقت ممكن، إما سيستمر حتى الموت!

و الكثير منهم لا يثق فى النظام و يرى أن كل هذه التجاوبات من النظام ليست إلا مناوشات لإلتفاف النظام على الثورة و إحتوائها.

أما البعض الآخر و -  هو الأهم و الأخطر - لا يريد أى شيئ سوى إسقاط النظام.

من يوم 28 يناير أو قبل ذلك بدأ مخطط مريب و لا أفهمه، مخطط يمشى بالتوازى مع المظاهرات أو "الثورة" و هى بحق ثورة. مخطط يركب الثورة لتحقيق مطامع أخرى.

كانت الأيام العشر الماضية بحق الأيام الأكثر خوفا، و غموضا، و غرابة، و دهشة، أسرع من استيعابنا، و كان يقودنا فيها الشباب المقدام الحر و يفتح لنا فيها هذا الشباب طاقة نور و أمل و لكن الخوف كل الخوف من أن يدخل من هذه الطاقة شياطين لم تكن لتتمكن من مصر إلى من خلال ركوب هذه الثورة التى طالما إنتظرناها.

بعد الوصول إلى هذه المرحلة من تحقيق المطالب يجب على المتظاهرين التوقف فورا قبل أن يقود القاطرة المندفعة من الشباب تيارات أخرى تريد الفوضى لكى تسود. 

أتمنى من الله أن يتم الثورة على خير و أن تكون لنا بداية عصر ذهبى تخطو فيه التنمية فى مصر بخطى واسعة و مضاعفة فى ظل الحرية و العدل. و أتمنى أيضا و بناء على ملاحظاتى على الأحداث المريبة فيما يجرى الآن، أتمنى أن تكون الثورة ذاتها ليست إلا إنقلابا فاشلا على الحكم من قبل جماعات تستهدف الوصول إلى حكم مصر من خلال الركوب على ثورة شعبية نقية من أى أغراض سوى العزة و الحرية و الكرامة لشعب مصر.

اللهم احفظ شعب مصر من الفتنة. اللهم اغسل ثورتنا بالماء و الثلج و البرد.

  • Currently 69/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
22 تصويتات / 955 مشاهدة
نشرت فى 4 فبراير 2011 بواسطة ibrahim

الترجمة

عدد زيارات الموقع

819,620