يبحث الإنسان طوال الوقت عن السعادة، فإن لم يجدها فى مكان ما، ذهب يبحث عنها فى مكان آخر، وإن لم يشعر بها مع شريك حياته، راح يبحث عن شريك جديد ، حتى ولو كان هذا الشريك مؤقتا فى حياته، يتنسم معه نسيم الحرية وينطلق بعيدا عن قيد الزوجية الخانق، ثم لا يلبث أن يعود إلى حياته الواقعية، فى انتظار مغامرة أخرى جديدة! وهكذا الرجال خاصة فى المجتمع العربى، ربما لأن التقاليد الشرقية قد تغفر للرجل أن تكون له بعض النزوات التى يعود بعدها إلى عشه من جديد، ولكنها تحرم ذلك على النساء، لأسباب دينية واجتماعية . وغالباً ما يحدث هذا "الزوغان" من الحياة الزوجية الروتينية فى خريف العمر، بعد الأربعين أو الخمسين؛ نظرًا لما يعترى الزوج من فتور وملل بعد تلك السنوات الطويلة التى قضاها فى ربقة الزواج، ونادرًا ما يكون ذلك بين الشباب، إلا أن تكون زوجاتهم من النوع الذى لايطاق.
أما الزوجات، فهن أيضا يشعرن بالملل بعد مرور سنوات طويلة على الزواج، خاصة بعد زواج الأبناء، وهنا تتجه الزوجة إلى العزلة والانطواء، ويسيطر "الخرس الزوجى" على البيت !
وهنا نستعرض بعض الحالات التى انطلق فيها الأزواج خارج عش الزوجية، ثم عادوا بعد نزوة أو أكثر، وكذلك بعض حالات الملل الزوجى التى أصابت الزوجات، ثم نتعرف على آراء الخبراء فى أسباب هذا التغير الكبير الذى يصيب بعض الأزواج والزوجات بعد سنوات الزواج الطويلة.
فتقول "م. س" (سيدة في الخامسة والأربعين من عمرها)، تبدو عليها مسحة من الجمال:: تزوجت منذ أكثر من عشرين عاماً بعد علاقة حب دامت قرابة سنة قبل الزواج، وخلال سنوات زواجنا كانت السعادة ترفرف علي حياتنا وتفوق ابني في دراسته وتزوجت ابنتي من شخصية مرموقة، ولكن في الآونة الأخيرة حدث ما لم يكن في الحسبان، فقد بدأ زوجي يتغير كثيراً، وكنت أراه دائماً في قمة أناقته وفي قمة الغموض، ولاحظت أنه يتحدث كثيراً في الهاتف بصوت هامس ولم تعد له مواعيد ثابتة عند النزول أو الخروج من المنزل وكثيراً ما يتأخر في عمله بحجج مختلفة، ولقد كنت أكذب ظني وأقول: إنه قد تعب من كثرة العمل وضغوط الحياة وهو يريد نوعا من الترفيه، ولكن حدثت الطامة الكبري عندما اكتشفت أن لزوجي صديقةً يقابلها باستمرار مما أثار غيرتي وجرح كرامتي. وبدأت النزاعات والخلافات تصب علي منزلنا بعد سنوات الحب والعشرة، وصارحته بما اكتشفته واعترف بأنها كانت نزوة عابرة بسبب علاقة قديمة جمعته مع تلك المرأة أيام الشباب وتجددت حين التقاها بعد سنوات، وقال لى: إنه اكتشف غلطته وحاول إصلاحها وقطع علاقته بها، ولقد تفهمت نزوة زوجي آنذاك وحاولت أن أنسي له خيانته، وقلت لنفسي: إنه يمر بمرحلة كل رجل تجاوز الخمسين من عمره وهي مرحلة المراهقة الثانية، إلا أنني اكتشفت بعد ذلك أنه يكذب ولا يزال علي علاقته بتلك السيدة، وشعرت بأننى بين نارين لأننى لا أستطيع أن أبوح بسري هذا خوفاً علي سمعة زوجي وأولادي، ولا أستطيع أيضاً أن أعيش مع هذا المراهق الكبير.
أما "م. د" موظف بأحد شركات الاتصالات (53 سنة)، فيقول: زوجتي أصبحت تميل إلي العزلة والاستغراق في أحلام اليقظة وسماع الأغاني العاطفية، وراحت تغير ألوان ملابسها فتنتقي منها الألوان الزاهية والموديلات التي تليق بفتاة في العشرينات، ولم تعد تهتم ببناتها ولا بي كزوج، وصارت أكثر تفكيراً في نفسها وطلباتها، كما أصبحت كثيرة الشكوي ودائماً ما تردد أنني لم أكن أبداً فارس أحلامها وأن زواجها مني أكبر خطأ في حياتها، وتتهمني بأنني لم أقدر مميزاتها أو شخصيتها وأنني أصبحت فاتراً عاطفياً تجاهها رغم أنني أحبها جداً، ولكني لا أستطيع التعبير عن هذا الحب مراعاة لظروف سننا، ورأيتها تغرق في وحدتها وحزنها فاقترحت عليها أن تغير من أسلوب حياتها حتي لا تشعر بالملل، فبدأت بالاشتراك في دورة كمبيوتر وشعرت بأنها تولد من جديد حين تترك البيت، وتقضي عدة ساعات في هذه الدورة مع فتيات صغيرات تملأهن الحيوية والرغبة في الحياة، وبدأت تهتم بنفسها بل تبالغ في هذا الاهتمام حتي لفت ذلك نظر إحدي قريباتها فوصفتها "بالمتصابية"، فهي تشعر بأنها تعود مراهقة من جديد وتفرح أحياناً بهذا الشعور، ولكنها تفزع حين تشعر أن الأمر ربما يخرج عن سيطرتها حين تتمني أشياء لا تتناسب مع سنها، وأحياناً أخري تشعر بالاشمئزاز من نفسها فتهمل مظهرها وتنعزل بعيداً عن الناس وتفقد الاهتمام بكل ما حولها، وفي لحظات أخري تشعر بميل إلي الزهد في الحياة فتقبل علي الصلاة والصيام فتستعيد صفاءها وتوازنها من جديد، وترضي بما قسمه الله لها، وتعترف بأنها فقدت أشياءً كأنثي ولكنها اكتسبت أشياء أخري كأم.
الصراحة والحب
أما آراء المختصين، فقد تباينت حول تغير بعض الأزواج والزوجات ؛ حيث يقول د. إلهامي عبد العزيز أستاذ علم النفس بجامعة عين شمس: حينما يبدأ الرجل أو المرأة في الوصول لدرجة معينة من الاستقرار في الحياة فإنه قد يتجه إلى النظر إلي شخص آخر غير شريك حياته، ويستوي في ذلك الرجل والمرأة ويحدث ذلك غالباً بعد الأربعين تقريباً، وكأنما عاد مرة أخري إلي مرحلة المراهقة، ودافعه في ذلك أنه يريد أن يشعر بأنه محبوب وأنه موضع تقدير وحب ، ويحدث ذلك – غالبا - في الأسر التي تري المرأة فيها أو الرجل أنه قد امتلك الطرف الآخر من خلال الإنجاب أو طول العشرة، وبالتالي تفتر العلاقات ويندر التعبير للآخر بالحب وبأنه موضع تقدير، فكلاهما يري أن الآخر ينبغي أن يدلل علي ذلك من خلال الجهد المبذول سواء جهد الرجل في العمل أو جهد المرأة سواء في العمل أو المنزل.
ويؤكد د. عبد العزيز: حينما لا يستطيع الفرد أن يعبر عن مشاعره للآخر فإن ذلك يفقد الآخر ثقته بذاته ويجعله يبحث عمن يشعره بأنه مرغوب وبأنه محبوب، وبالتالي تظهر مظاهر المراهقة الثانية، فضلاً عن استغراق الطرف الآخر بالاهتمام بالأبناء أو شئون المنزل أو بالعمل دون التعبير عما يشعر به مما يفقد الحياة رونقها، فكل منا يبحث عن الحب سواء كان طفلاً أو مراهقاً أو راشداً، وحينما يفتقد إليه في المكان الذي ينبغي أن يجد فيه دفء هذا الحب، فإنه يلجأ إليه خارج هذا النطاق.
وعن إمكانية تجنب هذه المرحلة ينصح: علينا أن نتدرب علي أن نعبر عن مشاعرنا للآخرين حباً أو غضباً، لأن لعب دور الضحية في كثير من الأحيان يجعلنا نبحث عن الحب بعيداً عمن يلعب معنا دور الجلاد، وأيضاً يمكن حل هذه المشكلة لو تمتع الزوجان بالقدر المطلوب من الصراحة والصداقة، فالمراهقة الثانية في معظم حالاتها سلوك تعويض عن الشعور بافتقاد معين أو فراغ عاطفي خاصة بعد الإحساس بمرور الزمن ، ويجب أن يتعلم الزوجان أن أول مبدأ من مباديء القضاء على الصراع بينهما هو البقاء أي عدم لجوء أحد الزوجين إلي الفرار، لأن الزوجين اللذين يبقيان الخلاف مكبوتاً مدفوناً تعصف مع الأيام الروابط بينهما فلا يستطيعان رأب الصدع، ولا يلبثان أن يرضخا لأفكارٍ مختلفةٍ تزين لهما محاسن الانفصال بعد هذا العمر الطويل أو العيش داخل بيت يخلو من الحب والمودة.
أمراض نفسية
أما عن أسباب تلك الأزمة بين الأزواج والزوجات، فيقول د. محمد مهدي أستاذ الطب النفسي بجامعة السويس: تلك الأزمة تحدث عند المرأة والرجل بعد سن الأربعين؛ حيث تراودهم أفكار وتساؤلات لم تكن تخطر ببالهم قبل ذلك، فقد كانوا طيلة حياتهم السابقة مشغولين بالدراسة والخطبة والزواج ورعاية الأطفال وبناء الأسرة، أما الآن وقد كبر الأولاد وانشغل الاثنان عن بعضهما البعض، فقد أصبح كلا منهما يشعر بالوحدة خاصة مع تسلل التغيرات الجسدية شيئاً فشيئا، فلم تعد المرأة بجمالها وحيويتها وأنوثتها وأيضاً الزوج لم يعد مثل ذي قبل فقد أحس بمرور الوقت أنه تحول إلي شيخ كبير، وحتي الأبناء نراهم يفضلون مصاحبة أصدقائهم علي الجلوس مع أبويهم، وهنا تراود أبوين طائفة من التساؤلات فأين جهودهم في إرساء قيم التفوق والنجاح في أبنائهم؟! فهم الآن يتمردون علي حياتهم فأين أحلامهم في أسرة ناجحة مترابطة ؟!..فلم تعد تجمعهم أحاديث السمر ولم يتبق لهم إلا الوحدة والملل والكآبة والخوف من المستقبل وما تخبئه الأيام، وبسبب كل هذا قد يعاني البعض من بعض الأمراض النفسية كالقلق والاكتئاب أو الهستيريا أو توهم المرض أو الرهاب أو أي مرض نفسي آخر.
ومن زاوية اخرى، يرى د. رشاد عبد اللطيف استاذ علم الاجتماع بجامعة عين شمس، أن أحد الأقاويل التي تقال ونسمعها كثيراً أن كبر السن يظهر فى الخمسين، وأن هناك اضمحلالاً جسدياً وذهنياً يبدأ من هذا العمر، وهذه النظرة التشاؤمية لكبر السن يمكن محوها بسهولة فالكثير من كبار السن هم الذين يقودون مجتمعاتنا، فكثير من العلماء والعباقرة بدأوا إبداعاتهم بعد سن الخمسين، ولكن هل يبدأ كبر السن عندما يصاب الإنسان بدرجة من العجز؟!.. إن هذا يفرغ الإنسان من قيمته الإنسانية إذا لم يتلاءم مع هذه المعطيات، فالثابت أن الإنسان في سن الخمسين من العمر يكون جسمه لا يزال متمتعا بقدرات جيدة ودرجة من المقاومة للمرض إلي جانب اكتسابه صلابة نتيجة جهوده وخبراته السابقة، إلي جانب أن العقل يستخدم إمكانات الجسم بصورة أكثر عقلانية، وإذا اعتني الإنسان بنفسه فإن قدراته الجسدية قد تصمد إلي وقت طويل ربما للسبعينات أو الثمانينات من العمر، ونخلص من ذلك القول إلى أننا يجب ألا ندع أحدا يخبرنا متي نبدأ فى الكبر من العمر بل نحدده نحن بأنفسنا، وأننا يمكننا الرد علي هذه الأقاويل بممارسة الحياة بصورة إيجابية ونستمتع بالحياة بكل لحظة ما دام ذلك في إطار مقبول اجتماعياً.
ساحة النقاش