التّناقضات الكاشفة عن المرأة القيمة
قراءة في نصّ للشّاعر الفلسطينيّ فراس حجّ محمّد
مادونا عسكر/ لبنان
- النّصّ:
قاسية كحلم البارحة
رهيفة اللّحنِ
هاربة على شفا حفرة من أداء الرّقصِ
موجعة كغصنٍ مثقلٍ بالثّمرْ
عاريةٌ كضوءْ
واضحةٌ كأسرارِ النَّبِيّْ
بين يديّ وحيْ
غامضةٌ كفلسفةٍ وجوديّةْ
وفيها كلّ شيّْ
- القراءة:
"المرأة مخلوق بين الملائكة والبشر." بلزاك
تجتمع التّناقضات في العالم ليتشكّل حدّ من الكمال، وتجتمع التّناقضات في الشّخص لتتبيّن بشرّيته الكاملة. وفي هذا النّصّ القائم على التّناقضات تنكشف بعض من رؤية الكاتب عن "المرأة" وليس عن امرأة محدّدة يصفها ببساطة. فهو يعبّر عقليّاً عن فلسفة الكينونة الأنثويّة، ووجدانيّاً كشاعر عن البعد الكونيّ للمرأة الّتي تحمل في ظاهرها وعمقها ما نسمّيه تناقضات لتتجلّى أمامنا المرأة/ الشّخص بقيمتها الإنسانيّة وأبعادها الأرضيّة والكونيّة.
ابتُنيَ النّصّ على جملة (وفيها كلّ شيّ)، وانطلق منها ليسبر أعماق الكينونة. فهذه الجملة تلخّص المعنى الكامن في قلب الشّاعر، وتستفيض في ذات الوقت لتطرح فلسفة الشّاعر كرؤية خاصّة عن المرأة الأصل. وحتّى ولو اختتم الشّاعر نصّه بهذه الجملة إلّا أنّها مفتوحة على البداية غير المرئيّة ما قبل السّطر الأوّل. ولعلّ تفلّت الشّاعر من صياغة عنوان للنّصّ يمنح القارئ آفاقاً رحبّة ليقرأ ما قبل النّص وما بعده. ويشكّل حرف العطف (و) فصلاً بين النّصّ ككلّ وبين الجملة الختاميّة (فيها كلّ شيّ) ليكون النّصّ منفصلاً ومرتبطاً بالظّاهر والعمق، بالمرأة الإنسان والمرأة الملاك، بالمرأة الأنثى والمرأة الكينونة. والمرأة في النّصّ حقيقة لا خيال، ولا يرنو الشّاعر إلى توصيف امرأة من الخيال أو امرأة يرجو حضورها. إنّه يعود بنا إلى الجذور الإنسانيّة للمرأة الّتي تلمّس حقيقتها.
(قاسية/ رهيفة/ هاربة/ موجعة/ عارية/ واضحة/ غامضة) عبارات قد تدلّ في الظّاهر على تناقضات متضاربة من العسير أن تجتمع في امرأة واحدة. إلّا أنّها في العمق تشكّل لوحة تكامليّة أبانت عن بشريّة موغلة في وجوديّة المرأة ككائن يمتلك قوّةً خاصّة تتفرّد بها وحدها (قاسية كحلم البارحة). وهنا يبرز امتداد للحلم من جهة كونه حقيقة مرجوّة لا سراباً يعجز الشّاعر عن بلوغه. لكنّ حلم البارحة اختبار حياتيّ وجدانيّ عاشه الشّاعر بمرارته وقسوته رابطاً إيّاه بقسوة المرأة ليمنح هذه القسوة طابعاً إيجابيّاً. فالبارحة بما يحمل من اختبارات فكريّة ونفسيّة ووجدانيّة يحفر في الإنسان تعليماً ومنهجاً خاصّين به. ولعلّ القسوة الّتي يتحدّث عنها الشّاعر تندرج في هذا الإطار معتبراً أنّ قسوة المرأة طبع شخصه بفكر جديد بل جعله يكتشف جذوره في المرأة. فالحديث ليس عن امرأة قاسية، بل عن صلابة المرأة الّتي تستحيل رهافة في مرحلة ما بعد الحلم، أي في الحاضر. ما يكوّن لدينا فكرة عن التّمايز في قناعة الشّاعر بين المرأة كقيمة والمرأة كأنثى، إذ إنّها امتداد للماضي وتجذّر في الحاضر والمستقبل (رهيفة اللّحن). واللّحن المترادف مع الموسيقى يدخل القارئ بملائكيّة المرأة من حيث التّحليق الرّوحيّ الّذي يفترض جهاداً خاصّاً وشاقّاً لبلوغ اللّذّة الرّوحيّة. فيرتبط السّطر الأوّل بالثّاني، وكأنّي بالشّاعر يتأمّل هذا الكائن القيمة تدريجيّاً ويرافقه بجهاد روحيّ وفكريّ وجسديّ ليبلغ ما أمكن بلوغه من معرفة ويقين دون السّعي إلى الامتلاك؛ لأنّه يعرف في قرارة ذاته أنّ الامتلاك يؤدّي إلى الفقد. ما عبّر عنه في السّطر الثّالث (هاربة على شفا حفرة من أداء الرّقصِ). وإذا كان الرّقص أداء وتعبيراً جسديّاً إلّا أنّه يقود الإنسان ليتلمّس عمقاً ما في نفسه. كما أنّه يعبّر بشكل أو بآخر عن الحرّيّة المرتبطة بالكون. واجتماع لفظ الهروب مع لفظ الرّقص دلالة على رحابة الكون الّذي ينطوي في داخل المرأة الّتي يتحدّث عنها الشّاعر. هذا الكون المثقل بالعطاء (موجعة كغصنٍ مثقلٍ بالثّمرْ) الغنيّ بالحياة على الرّغم ممّا يوصف بالضّعف. فالتّناقض في هذا السّطر يستبين من خلال لفظيْ (غصن/ مثقل) ولفظيْ (موجعة/ الثّمار). فالغصن على الرّغم من هزاله ونحافته يمنح الحياة (الثّمار)، ويحتمل ما يحتمل ليكون سنداً لها.
يزول التّناقض في القسم الثّاني من النّص ليبدأ الكاتب بصياغة العمق الّذي ينفي ما بان في ظاهر القسم الأوّل من تناقضات. فتنكشف لنا المرأة/ السّرّ أو اللّغز. وكأنّي بالشّاعر يتأمّل أسرار الكون انطلاقاً من المرأة، أو يتأمّل المرأة انطلاقاً من الكون.
عاريةٌ كضوءْ
واضحةٌ كأسرارِ النَّبِيّْ
بين يديّ وحيْ
غامضةٌ كفلسفةٍ وجوديّةْ
فيمزجها بالطّبيعة (الضّوء) والأبعاد الكونيّة اللّامرئيّة (أسرار النّبيّ/ وحي) والبعد الوجودي للإنسان (غامضة كفلسفة وجوديّة). ولعلّه في ذلك يتأمّل وجوده كرجل وكإنسان ومدى امتداده من المرأة. ويتّجه في هذه الدّلالات اللّفظيّة إلى التّجرّد الخالص؛ ليجعل من المرأة القيمة حقيقة ملموسة فكريّاً وروحيّاً واختباراً معرفيّاً إنسانيّاً. وما خلوّ هذا النّصّ من أيّ فعل إلّا دلالة على تأمّل خاصّ بالشّاعر قاده بشكل أو بآخر إلى ارتشاف بعدٍ من أبعاد الحقيقة.