فراس حج محمد

موقع يختص بمنشورات صاحبه: مقالات، قصائد، أخبار

"هبوط" شريف الجهني صعود البلاغة لمراقٍ بعيدة

فراس حج محمد/ فلسطين

"هبوط"
رَفَلَ في ثوبه الفضفاض فتعثر، فبدت سوأته، فطفق يخصف عليها من ورق الصُحف "والبنكنوت".

 

سأبدأ مع هذا النص بما قاله صديقنا الكاتب المصريّ فتحى إسماعيل حول هذه القصة القصيرة جدا "نص محكم ومقابلات بلاغية اكتست بثياب اجتماعية... استلهام التاريخ والخطيئة الأولى لآدم وإسقاطها على واقعنا"، وعدّها نموذجا ناضجا من نماذج  القصة القصيرة جدا، وقد حقّ له هذا الرأيّ، فإن النص بدت فيه مقومات النص السردي القابل للتأويلات والمفتوح على مصرعيه السياسي/ الاقتصادي والاجتماعي متعاضدا مع أفق ثقافي عصريّ متشبثا باللغة القديمة، وكأن شريف الجهني لخص فيه مقومات ثقافته العصرية والتراثية وأفكاره ومعتقداته السياسية!

لماذا "يهبط" الجهني هنا؟

إنه هبوط من أجل ارتقاء البلاغة وصعودها، لا شكّ بأنه "هبوط" لحاجة التقاط الفكرة التي ربما مرّ عليها ملايين البشر هنا وهناك ولم يلتفتوا لها، فكانت حدقتا الجهني البلاغية لها بالمرصاد، فوثقتها في نصّ "محكم" البناء السردي، والغريب في هذا النص أن كل الأفعال تابعة للفعل الأول، موظفا الكاتب ببراعة حرف العطف الفاء، وهو بعُرْف النحاة للترتيب والتعقيب، بدون مهلة بين ما يتبعها وبين ما يسبقها، مما يشعرنا نحن القراء بحركة دراماتيكية معينة بتتابع أفعال كلها أفعال تدل على الحركة (رفل، تعثر، يخصف)، وأما الفعلان المتبقيان (بدت، طفق)، فهما يدلان على حركة ما، مع ما أسند إليهما، فبدت سوأته، تدل على أن ثمة حركة زالت فيها أغشية ما ليصبح عاريا، و(طفق) فعل من أفعال الشروع في عرف النحاة، وتكاملت صورة الفعل الحركية مع الفعل (يخصف)، وبالتالي ضجت القصة بمشهدية متحركة سريعة، تمرّ سريعا، كأنها لقطة سينمائية بأفعالها المتتابعة، والرابط المستخدم وهو حرف العطف الفاء، وهنا بدا ما قال عنه أ. فتحي أن النصّ محكم البناء!

اعتمدت القصة على موضوع اجتماعي – اقتصادي له ظلال سياسية، فقد ظهرت تلك الشخصية المتحدث عنها/ الغنيّ أو المتنفذ، وهو يرفل بثياب فضفاضة، ويثير الفعل (يرفل) دلالات نفسية أيضا تشي بسلوكيات ذلك الشخص المتكبر المتغاوي، سلوك مذموم، يذمه الجهني، ولكنه لا يصرح، يترك إيماءاته في الفعل الثاني (يتعثر)، لقد حكم عليه الجهني بالوقوع، وهذا الوقوع إما مادي وإما معنوي، فكلّ من اغتر بنفسه وأصابه الغرور هو شخص لا بدّ أنه متعثر لا محالة، ومن تعثر فوقع ستبدو سوأته الفكرية والسلوكية، ومن ثم نشاهد تصرف الشخصية لمداراة أخطائها وعثراتها، فينشغل أولا بتغطية تلك السوأة الظاهرة، ولكن بماذا يغطيها؟ إنها أوراق الصحف، ويبدو اللمز والغمز من طرف خفي على الإعلام الذي يحاول أن يتستر على كثير من هؤلاء المتنفذين مالا وسلطة أو جاها وثقافة، ومع تلك الصحف يبدو المال الفاسد حاضراً بأوراق "البنكنوت"، إنه اجتماع فاسدين (شخص متنفذ ومال وإعلام)، إذن سيبدو ذلك الهبوط الذي قصده الكاتب عنوانا صارخا لقصته القصيرة جدا، وقد وضعه بين علامتي تنصيص، كأنه يريد لنا أن نتنبه جيدا للعنوان والتصرفات، وليعطي الهبوط معنى أخلاقيا وانحرافا دلاليا غير ما هو معتاد في أذهاننا.

كل تلك الجلبة وهاتيك المشهدية تحملها اللغة، وقد تميزت باعتمادها على اللغة التراثية والقصص الديني، وتحديدا قصة آدم عليه السلام، فيحضر مشهد آدم عندما أكل من الشجرة مخالفا أمر ربه، فأول ما بدت سوأته (العورة)، بدت تخصف عليه أوراق الشجر، إن الجهني يعود إلى أصل الفعل البشري الذي كان من خطأ آدم وخطيئته، وها هي نفسها في أبنائه، ولذلك بدت اللغة المستخدمة (السوأة، طفق يخصف) متناسقة مع الموضوع والقصة، وتختصر كلاما كثيرا.

ولم تقتصر المفردات على الموروث فقط، بل استعان الكاتب بألفاظ معاصرة (الصحف، والبنكنوت)، وذلك ليقدم لنا الفكرة المتأصلة في الطابع البشري الموغل في القدم في عصر السرعة والمال والإعلام والتقدم المادي! وكأنّ الإنسان بطبائعه هو هو لم يتغير ولن يتغير!

قصة بمشهديتها شكلت نصا بارعا، لم يكن صديقنا فتحي إسماعيل مبالغا عندما قال عن هذا النص الصاعد مراقي البلاغة "إن لم تكن هذه هي الـ ق.ق.ج فماذا غيرها؟".    

المصدر: فراس حج محمد
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 291 مشاهدة
نشرت فى 17 يناير 2014 بواسطة ferasomar

فراس عمر حج محمد

ferasomar
الموقع الخاص بــ "فراس حج محمد" »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

721,415

فراس حج محمد

نتيجة بحث الصور عن فراس حج محمد كنانة أون لاين

من مواليد مدينة نابلس في فــلسطين عــام 1973م، حاصل على درجة الماجستير في الأدب الفلسطيني الحديث من جامعة النجاح الوطنية. عمل معلما ومشرفا تربويا ومحاضرا غير متفرغ في جامعة القدس المفتوحة. 

عمل محررا لغويا في مجلتي الزيزفونة للأطفال/ رام الله، وشارك في إعداد مواد تدريبية في وزارة التربية والتعليم الفلسطينية، وكان عضوا في هيئة تحرير مجلة القانون الدولي الإنساني/ الإصدار الثاني الصادرة عن وزارة التربية والتعليم في فلسطين.

نشر العديد من المـقالات والقـصائد في مـجالات النشر المختلفة الإلـكترونية والصحف والمجلات في فلسطين والوطن العربي وبريطانيا وأمريكا وكندا والمكسيك. وشارك في ندوات وأمسيات شعرية ومؤتمرات في فلسطين.

الكتب المطبوعة: 

رسائــل إلى شهرزاد، ومــن طقوس القهوة المرة، صادران عن دار غُراب للنشر والتوزيع في القاهرة/ 2013، ومجموعة أناشيد وقصائد/ 2013، وكتاب ديوان أميرة الوجد/ 2014، الصادران عن جمعية الزيزفونة لتنمية ثقافة الطفل/ رام الله، وكتاب "دوائر العطش" عن دار غراب للنشر والتوزيع. وديوان "مزاج غزة العاصف، 2014، وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في القصة القصيرة جدا- دار موزييك/ الأردن وديوان "وأنت وحدك أغنية" عن دار ليبرتي/ القدس وبالتعاون مع بيت الشعر في فلسطين، وكتاب "يوميات كاتب يدعى X"، وكتاب "كأنها نصف الحقيقية" /الرقمية/ فلسطين، وكتاب "في ذكرى محمود درويش"، الزيزفونة 2016، وكتاب "شهرزاد ما زالت تروي- مقالات في المرأة والإبداع النسائي"، الرقمية، 2017، وديوان "الحب أن"، دار الأمل، الأردن، 2017. وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في الرواية"، مكتبة كل شي، حيفا، 2017. وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في متنوع السرد"، مؤسسة أنصار الضاد، أم الفحم، 2018، وديوان "ما يشبه الرثاء"، دار طباق للنشر والتوزيع، رام الله، 2019، وكتاب "بلاغة الصنعة الشعرية"، دار روافد للنشر والتوزيع، القاهرة، 2020. وكتاب "نِسوة في المدينة"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله، وعمّان، 2020. وكتاب "الإصحاح الأوّل لحرف الفاء- أسعدتِ صباحاً يا سيدتي"، دار الفاروق للنشر والتوزيع، نابلس، 2021. وكتاب "استعادة غسان كنفاني"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله، وعمّان، 2021، وكتيّب "من قتل مدرّس التاريخ؟"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2021. وديوان "وشيء من سردٍ قليل"، وزارة الثقافة الفلسطينية، رام الله، 2021. وديوان "على حافّة الشعر: ثمّة عشق وثمّة موت"، دار البدوي، ألمانيا، 2022. وكتاب "الكتابة في الوجه والمواجهة"، الرعاة وجسور ثقافية، رام الله وعمان، 2023. وكتاب "متلازمة ديسمبر"، دار بدوي، ألمانيا، 2023. وكتاب "في رحاب اللغة العربية"، دار بدوي، ألمانيا، 2023، وكتاب "سرّ الجملة الاسميّة"، دار الرقمية، فلسطين، 2023. وكتاب "تصدّع الجدران- عن دور الأدب في مقاومة العتمة"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله وعمّان، 2023، وديوان "في أعالي المعركة"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2023، وكتاب "مساحة شخصية- من يوميات الحروب على فلسطين"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2024، وكتاب "الثرثرات المحببة- الرسائل"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2024، وكتاب "فتنة الحاسة السادسة- تأملات حول الصور"، دار الفاروق للثقافة، نابلس، 2025. 

حررت العديد من الكتب، بالإضافة إلى مجموعة من الكتب والدواوين المخطوطة. 

كتب عن هذه التجربة الإبداعية العديد من الكتاب الفلسطينيين والعرب، وأجريت معي عدة حوارات ولقاءات تلفزيونية.