مقدمة كتاب ملامح من السرد المعاصر- قراءات في متنوع السرد
هذا هو الجزء الثالث من كتاب "ملامح من السرد المعاصر"، وهو جزء أعدت فيه تأكيد ما كنت بحثته في الكتابين السابقين، وخاصة فيما يتعلق بفن القصة القصيرة جدا وفن الرواية، وأضفت في هذا الجزء فنونا سردية غيرهما، فقد تناولت بالدراسة فن الخطبة، والكتابة الغرافيتية، والمذكرات، والحكاية الشعبية، وتوقفت عند مجموعة من الأعمال الدرامية، من مسلسلات وأفلام عربية وأجنبية، وخصصت فصلا لأدب السجون والمعتقلات، وفصلا آخر حول أدب الأطفال من خلال مجموعة من الأعمال التي قدمها الكاتب الفلسطيني محمود شقير وصدرت عن جمعية الزيزفونة لثقافة الطفل.
وفي هذه المقدمة أود أن أشير إلى الجامع الذي يجمع هذه الفنون معا ويجعلها في فلك السرد، ويمنطقها ضمن منطق التحليل النقدي. إن مفهوم "النص" ينطبق عليها جميعا، مما يصح بداية أن تكون جميع هذه النصوص التي وقفت عندها في فصول هذا الكتاب مؤهلة للتفكيك ومعرفة تيمات الخطاب المنتج. جاء في تعريف النص:"مجموعة الملفوظات (أو العبارات) اللسانية التي تخضع للتحليل؛ فالنص هو "نموذج سلوك لساني سواء كان منطوقا أو مكتوبا"، وعليه يتنوع النص بين النسيج اللفظي المكتوب أو النسيج اللفظي المقول، فتدخل فيه كل الفنون الكتابية بأنواعها الشعرية والنثرية، والفنون الأدائية التمثيلية والغنائية والمسرحية وحتى الرقص والموسيقى باعتبارها فنوناً تحمل خطابا معينا، وتؤدي رسالتها "النصية" على طريقتها الخاصة في التعبير، ومن هنا بحثت في الأعمال الدرامية وفن الخطبة والكتابة الغرافيتية، باعتبارها أيضا نوعا من السرد بمفهومه العام.
وأما السردية فإنني أنحاز هنا لتعريف رولان بارت الذي قال عنه: "إنه مثـل الحياة علم متطور من التاريخ والثقافة". وإن كان هذا التعريف ممتدا شاملا لكل ما في الحياة، كأن كل نص هو سرد في نهاية المطاف، أليس النص نوعا من الحكي، والحكي جزءا أصيلا من السرد؟ وعليه فإن كل نص من هذه النصوص أو المظاهر الأدبية هو سرد وينتمي إلى السرد بصورة أو بأخرى. فـ "الـسرد بوصفه أداة من أدوات التعبير الإنساني" يدخل في كل أنواع النصوص، ويعطيها شيئا من ملامحه وبعضا من وسائله ورسائله.
لقد توقفت في الفصل الأول عند بعض الأفكار النقدية في التعامل مع النصوص والكتاب، وعرضت فيه كتابين نقديين، الأول كتاب الناقد وليد أبو بكر "ظاهرة التثاقف وآثارها المدمرة على السرد"، وكتاب "النقد الأدبي في الوطن الفلسطيني والشتات" للناقد حسام الخطيب.
لقد تنوعت المادة المقروءة في هذا الكتاب، لعلها في هذا التنوع تساهم في إغناء المشهد الثقافي وبيان بعض من ملامحه، وبهذا أكون في هذا الكتاب مع الكتابين السابقين قد حاولت، على قدر الجهد والطاقة، بيان أهم ملامح السردية العربية، وإن كنت هنا، في هذا الكتاب، معنيا بتنوع الظاهرة السردية أكثر من إضاءة الملامح الفنية للظاهرة نفسها، وإن لم تخل الوقفات التحليلية من ذلك على كل حال.
وتنبغي الإشارة إلى أنني لم أتوقف في هذه الكتب الثلاثة عند فن المسرحية، وأما القصة القصيرة فكنت قد تناولت شيئا منها في الكتاب الأول "ملامح من السرد المعاصر- قراءات نقدية في القصة القصيرة جدا"، وفي كتاب "شهرزاد ما زالت تروي". ربما أتاحت لي الظروف أن أتحدث عنهما بإسهاب في جزء قادم في المستقبل.
وأخيرا، أسأل الله أن أكون قد وفقت فيما طرحت من مسائل وما ناقشت من نصوص، مع الاعتراف بالنقص والخلل دائما، فالكمال لله وحده.