Dr. Maher Elsawaf

الطريق إلي التقدم والتنمية يقوم علي العلم والمعرفة وحرية التعبير

 

 

 

الكتابان المقدسان

أ.د محمد عثمان الخشت

أستاذ فلسفة الدين ـ رئيس جامعة القاهرة 

لا يمكن تأسيس خطاب دينى جديد، بدون إعادة ضبط الميزان فى ثقافتنا بين الكلمات والأعمال، وتحويل النظر نحو البحث العلمى فى أعمال الله وليس فى كلماته فقط. إن الكلمات تأخذ معناها من الواقع، وليس من عقول عنكبوتية تتوسع فى الاستدلال من كلام على كلام بواسطة كلام! ثم تشرح الكلام بالكلام، ثم تعود لتختصر الكلام فى متون، ثم تعود لتشرح المتون، ثم تعلق الحواشى على المتون، ثم تعيد إنتاج الشروح والحواشى والمتون فى نص واحد، ثم تعيد الكَرة من جديد فى الاستدلال من كلام على كلام بواسطة كلام، وتزعم أنه التجديد! ولا تدرى أنها تدور فى حلقة مفرغة من الاجترار مثلما تجتر الناقةُ طعامها!.


إن لله تعالى كلمات، وإن لله تعالى أعمالا. فإذا أردت أن تعرف كلماته سبحانه فارجع إلى المتن المقدس، فهو كلمة الله المكتوبة. وإذا أردت أن تعرف أعمال الله فارجع إلى الطبيعة، فهى كلمته المتعينة والمتجسدة فى العالم. ومن هنا يُطلق الكتاب المقروء على كلمات الوحى آية وآيات، (وَلَقَدْ أنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ) (البقرة :99)، (تِلْكَ آيَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالحَقِّ) (البقرة: 252). ويُطلق على قوانين الطبيعة وظواهرها أيضا آية وآيات، (ِإنَّ فِى خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِى تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (البقرة: 164)، (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ. وَجَعَلْنَا فِى الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ. وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ. وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (الأنبياء: 30 - 33).


إن 
اكتشاف قوانين الطبيعة وظواهرها بيقين علمى عبر البحث العلمى فى المعامل والأرض والبحار والسموات و عوالم البيولوجيا، والسهر على معرفة الحقائق الكونية الثابتة ، هو مدخل لاكتشاف الطبيعة ككتاب مقدس لأعمال الله، (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِى الْآفَاقِ وَفِى أَنْفُسِهِمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) (فصلت :53).

وآيات الطبيعة يقينية الثبوت عن الله، لكن قوانينها يجب أن يكتشفها الإنسان بنفسه، ولن يتمكن من اكتشافها بدون 
البحث العلمى فى قوانين الطبيعة وظواهرها. ولا شك عندى أن جهود العلماء لفهم الطبيعة إنما هو عمل مقدس يكتشف أعمال الله، (الَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِى خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ. ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ) (الملك: 3-4).


وترفع كلماتُ الله الموحى بها، فى مكان عليّ من التقدير، آيات الطبيعة المتعينة واكتشاف انتظام الكون وانتظام قوانينه، وتجاور بين الاثنين فى رتبة التقديس، (تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ. إِنَّ فِى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَفِى خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ. وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ. تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ) (الجاثية: 2-6)، (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ. وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ. وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ. وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِى بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ. وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ. وَلَهُ مَنْ فِى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ. وَهُوَ الَّذِى يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (الروم: 21- 27).

إن متعة ومباهج الحقائق الطبيعية والقوانين الرياضية الراسخة، لا تقل عن متعة ومباهج آيات الوحى المقروء، بل إن الاثنين وحي؛ أحدهما وحى فى شكل كلمات وثانيهما وحى فى شكل ظواهر وقوانين طبيعية. ومن هنا فمن المغالطة والانحراف فى التفكير، السير على شاكلة الذين يتركون 
البحث العلمى ويهجرون تخصصاتهم الطبية والفيزيائية والكيمائية والرياضية ويكتفون بانتظار اكتشاف الأمم الأخرى للعلم، ثم عندما يكتشف الآخرون شيئا يقولون فخرا مدارين عجزهم إنه عندنا فى الكتاب! ولم نجد لديهم القدرة على اكتشاف القوانين العلمية قبل أن يكتشفها الآخرون، بينما الكتاب يدعونا إلى اكتشاف الكون وآيات الله المتعينة فى الطبيعة مثلما يدعونا إلى تدبر آياته المقروءة. أما أولئك الذين ينعقون بامتلاكنا لنواصى العلم فى الماضى، فإنهم يقتاتون على نظريات علماء الكون ليدغدغوا مشاعر العوام، فى حين كان يجب عليهم المساهمة العلمية الحقيقية فى اكتشاف الكون. إنهم مثل الأطفال الذين ينتظرون آباءهم العائدين بالرزق من الخارج بعرق جبينهم، لكنهم لا يستطيعون جلب الرزق بأنفسهم، ويكتفون بالفخر بغنى آبائهم وصور أجدادهم المعلقة على جدران الحوائط!

ليس مقصدى هنا هو الانجراف فى التفسير العلمى للقرآن دون ضوابط، فهذه قضية أخرى لها حديث آخر مفصل وتمييز ضرورى، بل مقصدى هو إعادة ضبط الميزان فى ثقافتنا بين الكلمات والأعمال، وتحويل النظر نحو 
البحث العلمى فى أعمال الله وليس لكلماته فقط، كما قلت أعلاه.

إن القرآن كتاب مقدس، وإن الطبيعة كتاب مقدس. وليست العلوم الطبيعية والرياضية أقل شأنا من علوم الدين، وليست العلوم الاجتماعية والإنسانية الجديدة أدنى مرتبة من علوم التراث. كلها علوم تبحث فى أجزاء من الوجود الطبيعى والإنسانى والاجتماعى على مختلف درجاته ومن زوايا مختلفة. وعلوم الدين نفسها (وليس الدين ذاته) علوم بشرية تبحث فى كلمات الله وتدخل فى نطاق العلوم الاجتماعية والإنسانية. إن علوم الدين بشرية، لكن الوحى ذاته إلهى، فعلوم الدين هى جهود بشرية نسبية تصيب وتخطئ فى فهم الوحى المطلق من حيث مصدره. علم البشر نسبى، لكن علم الله مطلق. والحقيقة المطلقة لا يعلمها إلا المطلق سبحانه. ولم يعط اللهُ علمه كاملا لمخلوق، ولو قلنا بغير ذلك لوقعنا فى لون من ألوان الشرك وخرجنا عن حدود التوحيد الخالص. الوحى من حيث مصدره مطلق، لكن آراء علماء الدين بشرية نسبية قابلة للصواب والخطأ، لكنها ليست مشكوكا فيها. وللمرة السبعين، إن النسبى غير المشكوك فيه فى كل مراجع العالم.

 

 

Dr.maher elsawaf الأستاذ الدكتور محمد ماهر الصواف

drelsawaf
نشرالثقافة الإدارية والسياسية والإجتماعية والإقتصادية »

عدد زيارات الموقع

281,236

ابحث