الكفاءة الاجتماعية د. محمد كمال مصطفى
استشارى إدارة تنمية الموارد البشرية
هل يمكن أن تكون للنفس رائحة مثل الجسم ، الذى قد تكون رائحته ذكية ومقبولة وجاذبة إذا ما كان نظيفاً ويتبع عادات صحية تحافظ على نظافته ورائحته ، وعلى العكس يمكن أن تكون رائحته كريهة طاردة إذا ما كان غير نظيف ويتبع عادات سلبية غير صحيحة لا تحافظ على نظافته وتجعل رائحته كريهة منفرة ؟
والإجابة هى أن النفس مثل الجسم تماماً يمكن أن تكون ذا رائحة ذكية أو ذا رائحة كريهة .. ولكن متى وكيف تكون رائحة النفس ذكية ؟ ومتى تكون رائحتها كريهة ؟
أولاً : النفس الذكية ، هى تلك الذات التى تمتلك الذكاء العاطفى ، والذكاء الاجتماعى معاً ، على أن تدير هذا الذكاء لصالح الآخرين قبل صالحها ، وهى التى تؤمن أن صالحها لن يتحقق إلا من خلال صالح الآخرين .. هى تلك الذات التى ترفض أن الآخر هو العذاب أو هو العدو أو المنافس الشرس ، هى تلك الذات التى تعتقد أن المكان يتسع لنا جميعاً ، والتى ترفع شعار أنا معك حتى لو لم تكن أنت معى ، هى تلك الذات التى تستفسر ولا تستنكر عندما تتحاور معك أو معه ، هى تلك الذات التى لا تقول أنا وإنما نحن ، ولا ترفض هو أو هى ، وتؤمن عن اعتقاد جازم بالمساواة والاحتكام المطلق لمعيار الكفاءة ، وتتبلور قيمها فى قبول الآخر ، وتوحيد مستويات التعامل معه ، ولديها جهاز داخلى اسمه الضمير الحى الذى يمنعها من الإضرار بالآخر ، ويدفعها إلى فعل كل ما ينفع الآخر .
وبالطبع ستكون النفس الكريهة عكس ما سبق ..
وعلى أى الأحوال فقد تقول ما هذا الكلام الذى يتسم بالمثالية والرومانسية ، ويبتعد عن الواقعية .. وقد أكون معك ، وأقول لك ليكن ما سبق هو التعريف الرومانسى للنفس الذكية .
ولكن تعالى معى استناداً إلى ما سبق أيضاً لنعرف أو حتى نتعارف على تعريف اجتماعى أو إدارى للنفس الذكية ، ثم نرصد رائحتها بعد ذلك .. ألا توافقنى أن النفس الذكية هى تلك الذات التى تمتلك الكفاءة الاجتماعية ، وهنا ستسأل ما هى الكفاءة الاجتماعية ؟ .. والإجابة هى أنها امتلاك الفرد للقدرة على استخدام الذكاء الاجتماعى ، والذكاء العاطفى عند أعلى درجة من الفاعلية ، بما يحقق التواءم والتكيف مع الذات ، والآخر ، والنظم الاجتماعية المحيطة به ( البيئة الاجتماعية بكل مكوناتها ) على أن يكون هذا التواءم إيجابياً ، أى يحقق صالحه وصالح الآخرين عند أعلى مستوى يتناسب مع قدراته العقلية وغير العقلية ، مع أكبر قدر من الشعور بالرضا الإيجابى ، وليس تكيفا سلبياً يتسم بالقبول عن عجز أو رضا بالواقع واستسلام له .
وهنا قد تعيد السؤال وما هو الذكاء العاطفى والذكاء الاجتماعى ، وما الفرق بينهما ؟
• الذكاء العاطفى هو ببساطة القدرة على فهم الذات وإدارتها .. لتصل إلى درجة التعاطف مع الذات ومع الآخر .. أى حالة الامتناع عن القسوة على النفس أو على الآخر دون مبرر موضوعى أو منطقى أو سبب حقيقى يدعو إلى ذلك . لذلك كانت عناصر ومكونات الذكاء العاطفى هى :
* الوعى بالذات ، من أنت؟ وماذا تملك من قدرات عقلية وغير عقلية ؟ وماذا تريد؟
* إدارة الذات ، كيف تحقق ما تريد فى ضوء المتاح والممكن من قدرات وكيف تنمى هذه القدرات .
* تحفيز الذات ، كيف تكون مدفوعاً من ذاتك ، ومن الرغبة الصادقة والإرادة الفاعلية والحقيقية فى تحقيق ما تريد ، وليس مدفوعاً من تشجيع الآخرين ؟
* التعاطف ، كيف تتقبل ذاتك ، وكيف تحاسب نفسك دون قسوة غير موضوعية وبطريقة تدفعك إلى التفاؤل والإقدام على الحياة ، وليس بطريقة تولد الإحباط ، والأهم فى التعاطف ، هو كيف تسامح الآخرين ؟ والتسامح لا يعنى التغاضى عن أخطاء الآخرين المتعمدة أو تجاوز الإهمال والتسبب ، ولكنه يعنى تقدير ظروف الآخرين ، ومساعدتهم والتعاون معهم فى حل مشاكلهم .
* الذكاء الاجتماعى ، هو القدرة على التكيف والتواءم مع الآخر ، وكسب ثقته والوصول إلى التفاهم والتعاون المشترك معه ، والذى لا يمكن الوصول إليه إلا إذا تم إدراك حاجته ، والعمل معه على الوفاء بها.
لذلك كانت عناصر ومكونات الذكاء الاجتماعى هى:
- الوعى بالموقف : والتى تعنى القدرة على رصد المواقف المختلفة ، وتفسير سلوك الأفراد فى هذه المواقف ، وفهم أهدافهم ، وتوقع ردود أفعالهم .
- حدة الإدراك ، وسرعة رد الفعل : والذى يعنى ببلورة إدراك الموقف فى تشكيل رد فعل سريع ومناسب للموقف ، على أن يعكس هذا الفعل حضور مؤثر لك فى الموقف.
- الأصالة : وتعنى بالنسبة للذكاء الاجتماعى الثبات النسبى على مبادئ أخلاقية، تشكل صورتك لدى الآخرين ، وتحدد مشاعرهم تجاهك ( ما يصل إليه الأفراد من حكم نهائى عنك ، شخص ذو خلق أم العكس ) .
- الوضوح : القدرة على عرض وصياغة وتفسير وتوصيل أفكارك وآرائك ، وتقديم وجهات نظرك إلى الآخرين بما يؤدى إلى قبولهم لك ، وثقتهم فيك ، وتعاونهم معك .
- التعاطف : وهنا يعنى ذلك الإحساس المشترك بالآخرين ، والمشاركة الصادقة معهم وصولاً إلى التعاون الإيجابى ، والذى قد لا يكون فى صالحك أولاً ، بل قد يكون فى صالحهم هم أولاً ، ثم صالحك معهم أو بعدهم .
هذا هو الذكاء العاطفى ، والذكاء الاجتماعى اللذان يكونان معاً الكفاءة الاجتماعية ، التى هى أساس النفس الذكية .
أما عن رائحة النفس الذكية ما رأيك لو تم تعريف رائحة النفس الذكية بالضد أو التضاد، أى أن أقدم لك مظاهر رائحة النفس الكريهة ، لتعرف أن العكس هو رائحة النفس الذكية .
تظهر رائحة النفس الكريهة عندما :
• تقتحم الآخر بحديث معلب جاهز مسبقاً ، لا يستشعر الآخر فيه الصدق ، ويحس أنك ممثل ماهر .
• تصر على ترديد الحكاية الواحدة أكثر من مرة فى جلسة واحدة أو فى كل جلسة .
• تسيطر عليك فكرة معينة ، تصر على بيعها وترويجها إلى الآخرين بالحق وغير الحق، وبالمنطق أو الفهلوة ، ويكون الآخرين غير متقبلين لهذه الفكرة .
• تتحدث إلى الآخر بسرعة شديدة ، وتدقق دون توقف ، وفى نفس الوقت لا تنظر إليه ، ولا تشاركه .
• عندما تحدث غازات البطن الاجتماعية والتى تتمثل فى افتقار الوعى بالموقف ، كأن تقول أشياء فى وقت غير مناسب ، أو تفعل أشياء لا تتفق مع الموقف ( نكته فى جنازة ) ، أو تعليق ساخر فى موقف جاد ، أو الخروج على الإجماع دون مبرر ، أو تقديم اقتراح بعيداً عن السياق المطروح ، وليس فيه أى قدر من الإيجابية .
• عندما تمارس عادة نشر قشر الشعر الاجتماعى على الآخرين ، والتى تعنى بفرض سلوكك عليهم ( الضحك ، أو التحدث بصوت عالى ، دون مبرر ، ودون مراعاة للآخرين ، أو استغلال أدب الآخرين فى طلب خدمات لا تتناسب وطبيعة علاقاتك معهم ، أو عندما تسابق الآخرين لاحتلال أماكن مميزة ، أو تكسر وتخترق الصفوف أو النظام الذى التزم به الآخرين .
• عندما لا تبالى بالآخر ، ولا تشعره بالاحترام والتقدير ، كنوع من فرض الذات ( كارت إرهاب) دون أى سبب أو وجه حق .. وهذا هو أبرز حالات قشر الشعر الاجتماعى . ومع هذا تكون أبرز حالات رائحة النفس الكريهة هى حالة ( أنت مش عارف أنت بتكلم مين ؟ )
أما أبرز حالات رائحة النفس الذكية هى الاهتمام بالآخر والإنصات إليه ليس تفضلاً عليه وإنما عن اعتراف به ، وعن اعتقاد صادق بأنه يملك معرفة أو تجربة أو رأى يمكن أن تستفيد به أو يكون مدخلاً لتعاون مشترك معه . والآن بعيداً عن السياسة ، هل أنت معى أن الكثير من القادة والمديرين ، أو من يعملون فى مجال العمل العام قد يفتقدون النفس الذكية ، ورائحة النفس الذكية .
• ألا تسمع كل يوم عشرات المرات من الكثير من الأفراد فى مختلف المستويات ، أنت مش عارف أنت بتكلم مين ؟
• ألا تسمع وترى العديد من العاملين فى مجال العمل العام حديثهم المعلب السريع المتدفق، الذى لا تشعر فيه بأى مصداقية ؟
ولكن يظل الأهم ، هو أنه قد يمتلك الكثير ممن يطلون علينا فى التليفزيون ، وممن يكتبون فى الصحف والمجلات ، وممن يعملون فى العمل العام كل مقومات الذكاء الاجتماعى والعاطفى كما وردت فى هذا المقال ولكن قد ينقصهم شىء واحد هو التعاطف الصادق مع الآخر ، والأهم بل والأكثر أهمية أنهم يوجهون كل طاقاتهم وذكائهم الاجتماعى والعاطفى إلى مصالحهم حتى ولو كانت على حساب مصالح الآخر .
وهنا أتوقف لأننى قد ارتكبت خطأ شديداً .. فالذكاء العاطفى والذكاء الاجتماعى .. والكفاءة الاجتماعية ، والنفس الذكية ، ورائحة النفس الذكية ، لابد وأن تكون لصالح الآخر أولاً .. وأن تتم ممارسة هذه المصطلحات فى الواقع تحت مضمون أن مصالحنا تتحقق من خلال مصالح الآخرين .. أما ما سبق الإشارة إليه من قدرات الكثير ممن يعملون فى العمل العام أو الكثير ممن يطلون علينا فى التليفزيون والكثير ممن يكتبون فى الصحف فى محاولة مستميتة لاحتواء الآخر والتأثير فيه فهذه مهارات اتصال وليست ذكاء اجتماعى وعاطفى .
فهناك فرق بين الذكاء الاجتماعى والعاطفى من ناحية وبين مهارات الاتصال من ناحية أخرى ، حتى وإن كانت مهارات الاتصال هى أهم آليات الذكاء الاجتماعى والعاطفى .. فالفرق هو صالح الآخرين أولاً فى الذكاء الاجتماعى والعاطفى .
أما فى مهارات الاتصال فهو وصول الرسالة إلى المستقبل والتأثير فيه .. حيث يكون مضمون التأثير هو ما يقصده المرسل وما يسعى إليه ، والذى قد يكون فى صالح المستقبل أو فى غير صالحه .
والآن هل ترى بعيداً عن السياسية أنهم يملكون الذكاء الاجتماعى والعاطفى ، أم يملكون مهارات الاتصال ؟ أم يملكون ماذا ؟
Top of Form