علي الديناري

موقع دعوي يشمل نسمات من القرأن وشروح بعض الأحاديث ومدرسة الدعوةأسرة المسلمة والفكر والقضايا المعاصرة

 

ليس هذا رثاءً لفقيد؛  وإنما هو درسٌ من الحياة في صفات الله العلي الكبير المتعال الذي وسع كل شيء رحمة وعلما ً؛ وربما لن أكتب في هذا الدرس من كتاب الله آية مقروءة لكنها آية من آيات الله الحادثة التي نعيشها في حياتنا.

عندما بلغني خبر وفاته تدفقت الدموع كما تدفقت في خاطري سيرته وتتابع أمامي شريط حياته.

كانوا يقولون إنه لم يركع لله ركعة، وكان صاحبه يسخر منه ويقول: إنه يتحدث في المجالس عن فضل الصف الأول وهو لم يدخل يوما ً مسجدا ً!

* أما هو فقد قال عن نفسه أنه كان يهرب من المدرسة ليرعى أمه.. فقد مات أبوه وتركه صغيراً.. ولم يترك له من الميراث شيئا ً.. إلا أمه التي كانت تحبه حبا ً شديدا ً، وكان هو بارا ً بها يقبل يدها فتدعو لوحيدها أدعية يحبها.. لأنه يرى أثر هذه الأدعية في تذليل الصعاب أمامه في معركة الحياة التي كلف فيها برعاية أمه والإنفاق عليهاوهو لا يزال في سن يحتاج فيها إلي من ينفَق عليه.

* علمته الحياة كيف يصبر ويتحمل ،ويثابر ويصابر حتى يستطيع الإنفاق على أمه ونفسه ؛ حتى صار هذا الصبر وهذه المثابرة هي مؤهله في الحياة الذي يتفوق به على أقرانه ويصل به إلى مراده ويمارس هوايته في الحياة.

كانت أحب هواياته إليه هي خدمة الناس وخصوصا ً أقاربه.. ومن أجل هذه الهواية صابر كثيرا ً وثابر كثيرا ً.. كما أنه استمتع بهذه الهواية كثيرا ً وسعد بها في حياته.

* عندما بلغ عمره الثامنة عشر عاما ً تم تعيينه عاملا ً في المستشفى العام فاعتبرها فرصة عظيمة.. وبحكم اقترابه من الممرضين أمكنه أن يتعلم ضرب الحقن .. ومادام كذلك  فلن يحتاج أكثر من معرفة أسماء بعض المسكنات.. وبعدها فسوف يمكنه أن يمارس دور الطبيب الممارس في أي مكان يعيش فيه.

 

لم تمض أيام طويلة حتى أصبح "سعيد" يقتنى علبة أنيقة بها سرنجة زجاجية لضرب الحقن وبحوزته أكثر من أمبول حقن مسكنة .. وكانت هذه العلبة هي رفيقته دائما ً في زياراته الكثيرة لأقاربه!

* ولم تمض أيام طويلة حتى تعدت خدماته محيط الأقارب والجيران إلى محيط القرية كلها، ولم يعد محتاجا ً لاصطحاب العلبة اللامعة فقد أدت دورها في الإعلام بقدرته على الإسعاف وإنقاذ المواقف!

لم يقنع "سعيد" بمجرد ضرب الحقن وعلاج المغص وما شابه ذلك  فمؤهلاته في الحياة جعلت طموحاته لا تتوقف .. كما جعلت الفرص المنادية عليه كثيرة.

* طلبت إدارة المستشفى عاملا ً لعيادة الأسنان وأحجم غيره بينما وجدها هي فرصته.. وعندما سخر منه صاحبه مغتاظا ً من كثرة تنقله بين الأعمال ضحك "سعيد" واتهم صاحبه بأنه لا يعرف شيئا ً في الحياة؛ ثم تطوع بتفهيمه فقال:

(صلي على النبي عليه الصلاة والسلام).. أنا مادمت سأعمل في عيادة الأسنان فبالتأكيد سأقف بجوار الطبيب وهو يخلع أسنان المرضى.. أليس كذلك؟

* قال صاحبه: وما الذي يفيدك في هذه الوقفة ؟!

أجابه "سعيد" مغتاظا ً فقد حسب أن الإشارة كافية لكنه قال:.. هل يجد أحد فرصة ليتعلم خلع الأسنان ويتركها؟

ولكن صاحبه كان كثيرا ً ما يجعل من "سعيد" مادة فكاهته:

يحسب "سعيد" أنه يوما ً ما سيشتغل في البلد دكتور أسنان!!

* ولكن لم تمض أيام طويلة حتى حقق أمنيته في إجابة طلب اللاجئين إليه شاكين أسنانهم لإراحتهم منها.

عندما طلب الدفاع الشعبي متقدمين إليه يتدربون على حراسة المنشآت عام 1969.

تقدم سعيد ونفذ خطته وزرع الأرز بجوار محطة الكهرباء التي كلف بحراستها مستغلا ً الأرض الفضاء والماء المتسرب من المحطة هدرا ً.

* وعلى الرغم من أن "سعيد" خالط الأبالسة من الممرضين والممرضات والمتاجرين بآلام المرضى وسمح لنفسه بتقليدهم في بعض أفعالهم.. إلا أنه لم يطلب من أحد من قريته مقابلا ً ولا نظر إلى مقابل كثيرا ً كان أو قليلا ً.. ولا تأخر عن أحد في ساعة من ليل أو نهار خصوصا ً وطلب الإسعاف صعب بينما "سعيد" قريب وهو منا وعلينا.

 

وعلى الرغم من أن  كثيرا ً من أقاربه كانوا يكرهون فيه فرض الرأي والسيطرة.. والإفتاء  في كل شيء.. والتدخل فيما لا يعنيه.. واستسهال كل شيء.. وتبسيط الأمور أكثر من اللازم.. إلا أنهم كانوا يحبونه أو يشعرون أنهم لا يستطيعون الاستغناء عنه.. فهم سيتكلمون كثيرا ً ويترددون أو يقفون عاجزين عن حل مشكلتهم ولكن "سعيد" كان سريعا ًفي أخذ القرار جريئا ً على الفعل متطوعا ً به.

 

* كان الناظر إلى "سعيد" من بعيد يرى رجلا ً بعيدا ً عن الدين، لا تظهر عليه سمات الصالحين فهو ليس واعظا ً من الوعاظ ولا مقرئا ً ولا كان سنيا أطلق لحيته.. ولا رآه أحد يوما ً ذاهبا ً إلى المسجد .. بل إنه لم يركع لله ركعة ولا وقف في الصلاة بين يديه كان عالي الصوت مجادلا ً صاخبا ً.

 

كثير الضحك والتعليقات الساخرة المحرجة، معجبا ً بنفسه، متصدرا ً في المواقف، جريئا ً في القول والفعل ، شديد اللهجة ، مغترا ً برأيه ، يملأ البلد بحركته فهو يعمل عاملا ً، وممرضا ً، ومزارعا ً وتاجرا ً ومجندا ً في الدفاع الشعبي!

 

لكن المقربين من "سعيد" يرون فيه بجوار ذلك كله طيبة قلب لا تبدو لغيرهم.. فقد كان يطلب من ابن أخته أن يقرأ عليه القرآن فيبكى!.. ولم يندم على فوات التعليم إلا لأنه كان يتمنى تعلم القرآن.. وحاول قراءة القرآن ولكن لم يستطع فتحسر.

 

وأكثر ما اشتهر به في عائلته هو صلته للرحم، ومساندته للمحتاج وعطفه على الأيتام، وتبنيه لحل الأزمات، وتطوعه بالدور الفاعل فيها، وكرمه وجوده بما عنده.

 

وكان أصحابه يحبون فيه تهوين المصائب على أهلها.

 

* هذا هو الفصل الأول من حياة سعيد والذي لا يهمنا.. إلا لأنه مقدمة للفصل التالي الذي ستبهرنا فيه.. بل وتذهلنا عظمة الخالق جل وعلا في معاملته لمخلوقيه وعبيده.

والآن تأمل معي ................

* لقد أراد الله أن يستدعى عبده "سعيد" لدخول بيوته في الأرض، وليركع له ويسجد بعد أن أصبح ما بقى له من عمر أقل مما مضى، وبعد أن عاش أكثر عمره وخالط الطيب والخبيث ونال من الدنيا ونالت منه وخلط عملا ً صالحا ً وآخر سيئا .

* فالسؤال الآن:

* كيف جاء به إلى بيوته؟

* هل ترى أصابه بمرض أو مصيبة الجأ ته إلى خالقه ؟

* كيف وهو الذي فرج الله به الكثير من الكرب والمصائب.. وشفى الله به من أمراض؟

* هل ترى كسره ليزيل عنه الغرور؟

* كيف وقد جبر به المنكسرين ؟

* أتراه نزل به الفقر المدقع حتى لا يجد في صدره إلا الهم الذي يكفه عن المرح والفرح والاستهتار بنوازل الحياة ؟

* كيف وقد كان واصلا ً للرحم؟!

* وكيف وله رصيد من دعوات أمه يدفع الله به الأذى؟

* وله نصيب من دعوات المكروبين  تحيط به؟

* كيف إذاً أخذ الرحمن الرحيم بيد هذا الإنسان ليخر لله ساجدا ً وراكعا ً؟

* لمعت فكرة في عقل "سعيد" أعجبته وزها بها كعادته.. أصبح "سعيد" يتحدث كثيرا في مجالسه عن احتياج المنطقة لجمعية خيرية، وعندما سأله المقربون منه باستغراب:

* مالك والجمعية الخيرية!

* وهل أنت من أهلها؟

* وما الذي ستستفيد ه من هذا المشروع ؟

* ضحك سعيد وقال: صلي على النبي عليه الصلاة والسلام.. إذا أقمنا الجمعية سنحتاج إلى مستوصف طبي أليس كذلك؟

فردوا عليه قائلين: نعم.

* يشرح سعيد كيف سيستفيد هو من هذا المستوصف من كل النواحي!!! ويضحك سعيد بكل سعادة.. وإعجاب بالفكرة.. وقد كان سعيد بني مرحلة من مقر الجمعية ولكن كانت هناك عقبة يسيرة.. فطن لها هو إذ كيف سيصبح مؤسسا ً لجمعية خيرية ومسجد وهو لا يصلى؟!!

* هنا أصبحت الصلاة سهلة واستخدم سعيد المصلاة التي كانت عنده للضيوف فقط.

وأصبحت زوجته تداعبه بقوله: وهل عرفت الصلاة إلا بعد مشروع الجمعية؟!

* مضت الأيام وفشل المشروع ولم يستكمله وخرج المشروع من رأسه وحياته.. ولكن بعد أن أدخل إلى حياة "سعيد" حياتها وروحها وطعمها ونظامها فقد انتظمت صلاته.

* وهكذا استدرج الحليم الكريم "سعيدا ً" إلى بيته من الباب الذي يحبه "سعيد"! وأخذه إلى الصلاة من اليد التي يحب سعيد أن يؤخذ منها !

* تماما كما فعل سبحانه بكثير من محبي الدنيا الذين علم في قلوبهم خيرا قبل إيمانهم فقالوا رضي  الله عنهم: "والله لقد دخلنا الإسلام وما نريد إلا الدنيا ثم أصبح رسول الله(صلى الله عليه) وسلم أحب إلينا من أنفسنا".

إن أحدا لم يدرك ولا حتى "سعيد" نفسه أن فشل مشروع الجمعية بعد نجاحه في إدخال سعيد إلى بيت الله، وإدخال الصلاة إلى بيته وحياته هو بداية الطريق إلى الآخرة؛ وهو في مرحلة جديدة هي مرحلة التمهيد لخاتمة "سعيد".. ولكن الله تعالى كان يريدها له خاتمة حسنة أحسبه كذلك.

ومضت الأعوام وسار قطار العمر إلى أن وصل إلى الأيام الأخيرة.. حيث حل بساحته مرض الموت فوجده من المصلين في صبره ورضاه وتوكله على الله وفى ذكره لربه واستغفاره له.. فختم عمره مقبلا ً على ربه وكان آخر كلامه من الدنيا ذكر الله .

* لم تكن خاتمة "سعيد" وحدها هي التي أجرت دموعي.. ودعتني لتأمل حياته.. والوقوف طويلا ً عند الباب الذي فتحه له ربه اللطيف الرحيم من أبواب الدنيا ليعبر منه إليه.. وإلى الآخرة، وليقف بين يديه في الدنيا قبل وقوف الآخرة ، وليكفر عن سيئاته ويجدد توبته قبل أن يناديه الموت!! وهو باب يستحق أن نقف ونتأمله طويلا ً.

وكم لله من لُطفٍ خفيٍّ                   يدِقُّ خفاه عن فهم الذكيِّ

ولكن أضف إلى ذلك إكرام الله له بعد موته..

* لقد حفظ سعيد في حياته أيتاما ً في دنياهم وساندهم في مواجهة متاعب الحياة.. لكن الله تعالى أكرم منه فقد حفظ أبناءه في دنياهم.. وزاد على ذلك حفظهم في دينهم وتكفل بهدايتهم وإعانتهم على سلوك الطريق المستقيم.

والذي ينظر إلى أبناء سعيد الآن يجد تربيةً يعجز عنها كثير من الأساتذة بل والشيوخ والدعاة.. لأنها هداية ربانية تكفل بها الرب الكبير،العليم الحكيم. 

* سبحانك ربى وسعت كل شيء رحمة وعلما ًَ وأنت اللطيف الخبير

العبدُ عبدٌ ما سلك ...الكُلُّ حتى لو مُلُك

أنت الذى أجرى الفلَك

والمُلكُ لك ،والخَلقُ لك

والأمرُ لك ...لولاك كل شىء قد هلك ( قالها أبو نواس وهو متعلق بأستار الكعبة)

 

اللهم خذ بأيدنا إليك أخذ الكرام عليك.. اللهم يسرنا لليسري.. وجنبنا العسري.

اللهم نسألك الشوق إلى لقائك ولذة النظر إلى وجهك الكريم في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة.

آمين

 

 

 

 

 

التحميلات المرفقة

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 385 مشاهدة
نشرت فى 20 يوليو 2017 بواسطة denary

ساحة النقاش

على الدينارى

denary
موقع خاص بالدعوة الى الله على منهج أهل السنة والجماعة يشمل الدعوة والرسائل الإيمانية والأسرة المسلمة وحياة القلوب »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

346,387