جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
في الستينات هاجرنا من السويس الى الواحات الداخلة بالوادي الجديد
في هذه البلاد البعيدة استمتعنا مع أهلها الطيبين بالحياة المفعمة بالحب والصفاء والأمان والكرم؛ فأهل هذه البلاد ينسجون المتعة ويتفنون في الاستمتاع والسعادة بكل مناسبة سعيدة مع كل خطوة أو مرحلة فيها.إن لهم في الحياة نهجا خاصا يجعلهم راضين سعداء رغم قلة الامكانيات
ومن المناسبات التي كانوا يتفنون في إخراج فرحتهم الفطرية بها مناسبة الحج المعظم .
فمسيرة السفر للحج تبدأ من وقوع القرعة على بعض الأسماء المتقدمة للحج،
والقرعة عندهم لها مدلول روحاني فلم يكن هناك طريق للحج غير القرعة فمن لم تصبه القرعة فلن يحج ولم يمنحه الله تعالى شرف زيارته لبيته وغالبا ما يسر الناس بعضهم لبعض أن هذا من سوء أفعاله لذا كان يستحق المواساة
إذا وقعت القرعة على مريد الحج أقبلت البلد على تهنئته باختيار الله له وذهب الناس للقائه وتوصيته بالدعاء لهم واجتمعت النساء فى درب البيت ـ وهو مساحة كبيرة ملحقة بالبيت متعددة الأغراض ـ فتنشد النساء أناشيد الحج مع ضرب دفوف الفرح والتهنئة (بشر يابشيري دا وِلد العم رايح بلدنا)
ومن أغاريد الحج والفرح : ياليلة بيضا وعليَّ وَحدي وانا فرحانة وعدوّي مُرزي
ياليلة بيضا وعليَّ والدار وانا فرحانة والعدو محتار
فإذا حان يوم السفر اجتمع الأهل والأحباب والجيران عند بيت المسافر في الصباح الباكر لتوديعه الى الأتوبيس بالزغاريد والاناشيد وربما استدعوا له "طبلة مدبولي" التي لاتُستدعى إلا في أجمل الأفراح
وكان وضع الأتوبيس يساعد في إعطاء السفر مذاقا خاصا فلا توجد وسيلة مواصلات غيره ولاينطلق من مركز الدخلة بكل قراه الى العالم كله إلا أتوبيس واحد فقط لاغير يبدأ رحلته من مدينة موط صباحا فيصل مساء الى أسيوط همزة الوصل بيننا وبين وادي النيل السعيد
وكنا عندما نمر على قرية في طريق الأتوبيس نرى أعداد ا كبيرة من أهل القرية متجهة للأتوبيس فيندهش بعض الركاب :كل هؤلاء سيركبون معنا ولايوجد مكان أصلا؟ لكن بعد قليل يعود هؤلاء جميعا ولايركب إلا واحد أو اثنان هكذا يودعون المسافر؟
بعد الوداع يبقى الدور على أهل بيت الحاج حيث يبدأون في الاستعداد لاستقباله بدهان البيت بالجير الأبيض ثم يستدعون كاتب البلد وكانت موط لاتعرف خطاطا بارعا في الكتابة إلا الحاج محمد الشريف رحمه الله فيأتي بوقاره المعهود يسطر جدران البيت كله بسطرين مزخرفين بينهما مسافة يكتب فيها الأشعار والعبارات الجميلة ومن هذه الأشعار:
هنيئاً لعينٍ شاهدت أرض مكة وطافت ببيت الله سبعاً ولبتِّ
ومن زمزمٍ تزمزمت وتنعمت وفي حجِر اسماعيل صلت رُكيعةِ
على عرفاتٍ يجمع اللهُ شملنا ويُحط عنا وزرنا والخطيئةِ
ثلاثة أيامٍ أقمنا في منى ورابعُ يومٍ أمرنا برجعةِ
ياربنا نولنا نزور روض محمدٍ نبيٌّ شريف بقرآنٍ وسنةِ
أما بوابة البيت فيخصها الخطاط برسم قبة كبيرة مزخرفة ثم يكتب ديباجة محفوظة ثابتة تبدأ بالقرآن ثم اسم الحاج وسنة الحج
ثم يستدعون رسامامن الأقارب يجامل أهل البيت ويشاركهم الفرحة برسوم بدائية على الجدران مثل سفينة او جمل ثم الكعبة وكل ذلك يتم تحت تأثير أناشيد الحج التي يغنيها النساء على ضرب الدفوف
أما وصول الحاج فينتظره أقاربه وجيرانه كل يوم بعد انتهاء الحج مساء في محطة الأتوبيس
فلم تكن هناك وسيلة للاتصال به كاليوم .
ففي المحطة يجد الحاج العائد فوجا كبيرا من مستقبليه بالفرح والأغاريد والزغاريد والطبل فيزفونه حتى يصل بيته ثم يتركونه الى الصباح فلم تكن هذه البلاد تعرف السهر وكانت عودة الأتوبيس هي ساعة انتهاء اليوم عند من له غائب ينتظر عودته أما غيره فصلاة العشاء هي بداية الاستعداد للنوم
في الصباح تذبح الذبائح أمام بيوت الحجاج ويتوافد أهل البلد كلهم لتهنئتهم فتصبح البلد كلها في عرس وفرحة بعودة الحجاج بسلامة الله بعد سفر كان شاقا وغياب كان طويلا عما هو الآن وكنت أرى والدي رحمه الله عائدا من تهنئة الحاج ومعه مسبحة خضرا تتلألأ في الظلام وكان يحكي لنا مما حكاه الحجاج من وقائع واشواق وروحانيات الحج وحفظت من والدي أن رؤية الكعبة تجذب زائرها اليها جذبا روحانيا معينا
ساحة النقاش