التدوير: استقراء ووصف وتحليل

التدوير في الشعر .. دراسة في النحو والمعني والإيقاع (8)

 

كان الدافعُ إلى هذا الاستقراءِ الناقِص جملةُ افتراضاتٍ مبهَمة، أو قُلْ: أحاسيس غامِضة ملَكَتْ صاحِبَ البحثِ، فقد تسنَّى له وهو يقوم بدَرْسِ العَروضِ لطلاَّب الجامعات أن يُدرِكَ كثرةَ ورود التَّدْوير في بحورٍ بعينها دون بحورٍ أخرى؛ فافترَض - بناءً على كثرةِ التَّدْوير في المجزوءات، وبعضِ البحور التامَّة وعلى رأسها الخَفيف[1] - أنَّ هناك بحورًا ليس مِن هدفها الإِيقاعي الإِفصاح تمامًا عن نغمِ الشَّطر، فمِن سِماتها الإيقاعيَّة انسياح الشَّطر الأوَّل في عَلاقات الشَّطر الثاني.

 

وافترض - بناءً على ضياع التَّدْوير ونُدرتِه في بحورٍ أخرى - أنَّ هذه البحورَ حريصةٌ إنشاديًّا على أن تُمثِّل حقَّ القسيم الأوَّل إيقاعيًّا؛ وذلك بإيضاح سكتةِ العَروض فيها؛ ولعلَّ خِبرةً مُبْهمةً مِن خلال التعليم والتعلُّم حسبَ طريقة التقطيع الشِّعريِّ أعطَتِ الباحثَ إحساسًا أنَّ هناك سكتةً واضحةً تعقب أعاريض معيَّنة كأعاريض الوافِر التام، ومُخلَّع البسيط، هذه الخبرة المبهَمة أنتجتْ إحساسًا بأنَّ النغميةَ واضحةٌ في الوافِر والمُخلَّع، ولعلَّ المخالفةَ الشكليةَ في عَروضِ الوافرِ التي حوَّلته إلى فعولن مع أنَّها "مفاعلٌ" اقتطاع "مفاعلتن" بيَّنتِ استقلال العَروض بالوقفِ عليها؛ قطعًا لحدَّةِ المماثلة السابقة، وزادتِ الفروضُ حين تصوَّر الباحثُ أنَّ التراوحَ بين تَدْوير بيتٍ وعدَم تَدْوير آخَر داخلَ القصيدة كسْرٌ لحدَّة الالتزام في الشَّكْل الإِيقاعي وتصرف داخلَ وإثراء للإِيقاع الداخلي.

 

ولأنَّ الإِيقاع جزءٌ مِن عَمليةٍ إبداعيَّة لدَى الشَّاعِر، فقدْ أحسَّ الباحثُ بأنَّ مِثلَ هذه التصرُّفاتِ الإيقاعيَّة تَرتبط بسببٍ وثيقٍ بالدَّلالة والتركيب؛ وكي يبين حقَّ هذه الأحاسيسِ كان لا بدَّ لهذه الفُروضِ المبهَمة أن تتَّجه إلى مادةِ الشِّعر نفسِها، مِن خلالِ استقراء عِلميٍّ ناقص لا يُمكنه الارتكازُ على كلِّ ما ورَد من شِعر، وإلاَّ ما عاد للانتقاء والاختيار في نِطاق البحثِ العِلمي من سبيلِ، وقد حاول البحثُ أن تتوفَّر لمادة إحصائيته ما يَلي:

1- أن يكونَ الكمُّ الممثِّل لها ليس بالقليل؛ ومِن هنا كانتْ شريحة البحث حوالي 135 ألف بيت تقريبًا، وهي شريحةٌ ليستْ بالقليلة؛ إذ أدركْنا أنَّ البحث مِن خِلالها عن ظاهرةِ التَّدْوير يحتاج مِن الباحث التأنِّي في قِراءة كلِّ بيت فيها.

 

2- أن تُغطَّى كلُّ الاتجاهات التي تَنطوي تحتَ نِطاق الشِّعر العمودي، فالبحثُ تفسيرٌ لظاهرةٍ خاصَّة بهذا النِّظام، وهو محاولةُ تفسيرٍ له وتغيير مفاهيمَ خاطئةٍ ارتبطتْ به؛ ومِن هنا فقدْ وقع الإحصاءُ على مجموعةٍ من الشِّعراء مثَّلوا كلَّ العصور، وكان الارتكازُ في مجيء الشَّاعِر على ديوان الشَّاعِر كلِّه؛ حتَّى يكون استيعابُ الظاهرة قرينَ ذَوْقِ الشَّاعِر واستخدامه مرتبطًا بعصرِه؛ لأجْلِ ذلك ابتعدْنا عن كتُب المختارات حيث تمثيلُ الظاهرة فيها اعتباطيٌّ فقد تَتصوَّر مِن خلال قصيدةٍ لشاعر نفيًا للتَدْوير، على حين أنَّ ديوانه الخاصَّ به يعجُّ بهذه الظاهِرة، فالظاهرة لا يُدرك مَداها إلا في حدودِ شاعرها، وقد جاءَ اختيارُ الشِّعراء خاضعًا لتمثيلِ الفترةِ الشِّعريَّة تمثيلاً متباينًا بقدْرٍ ما، فإذا كان لنا أن نأخذَ مِن العَصر العباسيِّ شخصيةً مشهورة كأبي تمَّام، أخذْنا بجوارها شخصيةً أخرى أقلَّ شُهرةً كالتهامي، وإذا أخذْنا من الشِّعر الحديثِ أحمدَ شوقي أخذْنا شخصيةً تعيش هذا الاتجاه بوعيٍ مِثل حُسين عرَب، وهو شاعر له في مجالِ الشِّعر السعودي شَأْوٌ كبير؛ كل هذا حتَّى لا يَقِف الإحصاءُ إزاءَ ذَوقٍ واحدٍ قدرَ الإمكان.

 

3- أن يُؤخَذ منها دَلالاتٌ أخرى واضحةٌ، وإنْ كانتْ هذه الدَّلالات قرينةَ الهامش، فهي تمثِّل في مسار البحثِ توضيحًا ومساندةً لظاهرتنا، وقد أسرف البحثُ في تتبُّع ظاهرةِ الخرم في الهامش، وهي الظاهرةُ التي رأيناها تبتعِد عن التَّدْوير غالبًا؛ ولأنَّها كانتْ أثيرةَ أوزانٍ كالطَّويل والوافر، وهما وزنان عَزُب عنهما التَّدْوير كثيرًا، وقد جاءَ الهامش ممثلاً أحيانًا لذوقِ بعضِ الشِّعراءِ إيقاعيًّا، والشُّعراء الذين اعتمدتْ عليهم الإِحصائيةُ هم:

"أ" من العصْر الجاهليِّ:

وقد ورَد داخل مفهوم العصْر بعض الشِّعراء الذين عاشُوا حقبةً من حياتهم في الإِسلام.

1- النابغة الذُّبياني وجُملة أبياتِه "961 بَيت".

2- عنترة العبسيُّ وجُملة أبياتِه "1764 بَيت".

3- الأعْشى وجُملة أبياتِه "2241 بَيت".

4- عامِر بنُ الطُّفيل وجُملة أبياتِه "366 بَيت".

5- بِشْر بن أبي خازم وجُملة أبياتِه "913 بَيت".

6- حاتم الطَّائي وجُملة أبياتِه "377 بَيت".

7- الخنْساء وجُملة أبياتِها "869 بَيت".

وجُملة إحصاء أبيات هذه الفتْرة "7221 بَيت".

 

"ب" مِن العصْر الأُمويِّ[2]:

1- جَرير وجُملة أبياتِه "5984 بَيت".

2- الأخْطَل وجُملة أبياتِه "2598 بَيت".

3- الفَرزْدق وجُملة أبياتِه "7217 بَيت".

4- عُمر بن أبي رَبيعة وجُملة أبياتِه "3838 بَيت".

وجُملة إحصاء أبيات هذه الفَتْرة "19647 بَيت".

 

"جـ" مِن العصْر العباسيِّ بشَطرَيه الأول والثاني:

1- أبو العَتاهية وجُملة أبياتِه "4186 بَيت".

2- أبو تمّام وجُملة أبياته "6760 بَيت".

3- البُحتُريُّ وجُملة أبياتِه "11621 بَيت".

4- المتَنبِّي وجُملة أبياتِه "5537 بَيت".

5- أبو فِراس الحمدانيُّ وجُملة أبياتِه "2852 بَيت".

6- المعرِّيّ[3] وجُملة أبياتِه "13220 بَيت".

7- أبو الحسَن التُّهاميُّ وجُملة أبياتِه "3429 بَيت".

8- حَميد بن ثَور الهِلاليُّ وجُملة أبياتِه "591 بَيت".

9- رَبيعَةُ الرَّقيُّ وجُملة أبياتِه "267 بَيت".

10- الباهِليُّ وجُملة أبياتِه "395 بَيت".

11- ابن المُعْتزِّ وجُملة أبياتِه "5550 بَيت".

وجملة إحصاء أبيات هذه الفترة "54408 بيت".

 

"د" مِن الأندلُسيِّ:

1- ابنُ زَيدون وجُملة أبياتِه "2725 بَيت".

2- ابن خَفاجَة الأنْدلُسيُّ وجُملة أبياتِه "3359 بَيت".

3- ابن هانِئ الأنْدلُسيُّ وجُملة أبياتِه "4062 بَيت".

وجملة إحصاء أبيات هذه الفَتْرة "10146 بَيت".

 

"هـ" مِن المِصريِّ الممْلوكيِّ:

1- البوصيريُّ وجُملة أبياتِه "3298 بَيت".

2- ابنُ نَباتَة المِصريُّ وجُملة أبياته "13458 بَيت".

وجُملة إحصاء أبيات هذه الفترة "16756 بَيت".

 

"و" من الشِّعر الحَديث:

1- أحمَد شَوقي وجُملة أبيات شوقياتِه "11198 بَيت".

2- إبراهيم ناجي[4] وجُملة أبيات دواوينه "3741 بَيت".

3- عَزيز أباظة[5] وجُملة أبيات ديوانه "3292 بَيت".

4- حُسين عرَب[6] وجُملة أبياتِه "3597 بَيت".

5- الحسانيُّ عبدالله وجُملة أبياتِه "625 بَيت".

6- عَبداللَّطيف عَبدالحَكيم[7] وجُملة أبياتِه "2288 بَيت".

7- عَبدالله باشراحيل[8] وجُملة أبياتِه "947 بَيت".

وجُملة إحصاء أبيات هذه الفَتْرة "25688 بَيت".

وجُملة الأبيات المستقْرأةُ في كلِّ العُصور "133854 بَيت".

 

مِن الإِحصائيَّة السابقة نبدأ البحْث عن التَّدْوير مُفضِّلين التَّوامّ مِن البُحور بَحرًا بَحرًا موجِزين أمْر المجزوءات، وقد بانَ لنا أنَّ التَّدْوير بالإِمكانِ أن ينُظَر إلى الفاصل فيه؛ أي إلى الحَرف الذي يكون نهاية الشَّطر الأول تَنظيرًا لا إِنشادًا نَظرةً صوتيَّةً يَنبَني عليها رؤية التَّدْوير.

 

هذا الفاصل أحيانًا يَكون حَرفًا صامتًا كالباء والدَّال واللام وقدْ رمَزْنا له برَمْز "ص"، وأحيانًا يكون حرف مدٍّ كواو المدِّ وياء المدِّ وألف المدِّ؛ أي الحركات الطَّويلة وقد رمَزْنا له برمز "م"، وأحيانًا يكون لينًا كالواو والياء غير المسبوقتَين بحركةٍ تُجانِسُهما وذلك مثل ورودهما في كلمتَي "حوْض" و"بيتْ" وقد رمَزْنا للّين برمْز "ل"؛ مع الإدراك بأن اللّين مَرحلة بين الصامت والمدِّ وتَسرُّبه إلى المدِّ القائم؛ لأن المتكلِّم إذا حقَّ له أن يَنطِق كلمة "يوْم" Yawm على نحو "يُوم" yuum؛ فإن المُنشِد قد يَحِقُّ له ذلك النُّطق شِعرًا في بعض الأحيان.

 

وأحْيانًا يكون الفاصل "أل" ورغْم أنه صامِت إلا أنَّ "أل" في حِساب الصِّياغة اللُّغوية كلمة مُستقلَّة لا جزء كلمة وهَمزة أل ضائع حقُّها عند الاتصال؛ أي عند التَّدْوير، وقد جعلْنا الصَّوت كامِلاً هو الرمز "أل"؛ وعلى هذا فقد ارتكزتْ مِساحات التَّدْوير على:

الصَّامت "ص"، المدِّ "م"، اللّين "ل"، أل "أل".

 

ولعلَّنا نُلاحِظ أن الوصول إلى هذا التَّفريق يَحتاج إلى قراءة البيت قراءةً إيقاعيَّة وئيدةً، ويُعطي إحساسًا بأنَّ تقسيم الفاصِل على أساسٍ صوتيٍّ دالٌّ على أنَّ الإيقاعَ مُفَسَّرٌ مِن خِلال اللُّغة. فإلى بحور الشِّعر العربيِّ قارئين الظَّاهِرة مُحاولين بعد ذلك تَحليل جزء ليس بالقليل مِن أبياتها.



[1] في الحديثِ لنازك الملائكة عن التَّدْوير في كتابِها "قضايا الشِّعر المعاصر" (ص: 112)، وما بعدها ربطتْ وجود التَّدْوير بنهاية العروض فهو كثيرٌ مع البُحورِ، التي تنتهي بسبب كالمُتقارِب والخفيف قليل مع البحور التي تنتهي بوتد مجموع كالطويل والسريع والرَّجَز والكامل، وهذه الملاحظة لم تبرَّر لديها إلاَّ بإحساسِ النُّفور والثقل دون بيانٍ لسبب أو تعليل، ودون شمولٍ لهذا الغرَضِ الذي يَنفيه الرمَل والمنسرح والوافر مِن البحور.

[2] جرير والأخطل والفرزدق قَرُبَ اتِّجاههم، ومسلك عُمر بن أبي رَبيعة يُخالفهم.

[3] المعرِّيّ مِن خلال ديوانيه: "سقط الزند" وجملة أبياته "2863"، و "اللزوميات": وجملة أبياته "10357".

[4] إبراهيم ناجي من مجموع دواوينه: "الطائر الجريح"، "في معبد الليل"، "ليالي القاهرة"، "وراء الغمام".

[5] عَزيز أباظة مِن مجموع دواوينه "من الشرق والغرب"، "تسابيح قلب"، "في موكب الحياة"، "في موكب الخالدين".

[6] شاعِر سُعودي كبير مُعاصِر.

[7] مِن مجموع دواوينه: "الخوف من المطر"، "لزوميّات"، "هدير الصمت"، "من مقام المُنسرِح".

[8] شاعِر سُعوديٌّ مُعاصِر والإحصائية من ديوانه "النبع الظامئ".

 



   



رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Literature_Language/0/58355/#ixzz2cJNZGkgV

azazystudy

مع أطيب الأمنيات بالتوفيق الدكتورة/سلوى عزازي

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 1234 مشاهدة
نشرت فى 19 أغسطس 2013 بواسطة azazystudy

ساحة النقاش

الدكتورة/سلوى محمد أحمد عزازي

azazystudy
دكتوراة مناهج وطرق تدريس لغة عربية محاضر بالأكاديمية المهنية للمعلمين، وعضوالجمعية المصرية للمعلمين حملة الماجستير والدكتوراة »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

4,604,542