المصدر المؤول .. بحث في التركيب والدلالة (1)
د. طه محمد الجنديمقالات متعلقة
تاريخ الإضافة: 17/6/2013 ميلادي - 9/8/1434 هجري
زيارة: 313
Share on favoritesShare on facebook Share on twitter Share on hotmailShare on gmail Share on bloggerShare on myspaceShare on digg
المصدر المؤول
بحث في التركيب والدلالة (1)
حمدًا لله كما يَليق بكمالِه، وصلاةً وسلامًا على محمَّد وآله.
وبعدُ:
فرأيي أنَّ أيَّة دراسة جادَّة ينبغي أن تعتمدَ في تفسيرها للمتغيرات اللغوية على ظواهرَ لغويَّة محضة؛ ولذا يجب على الباحِث أن ينطلقَ مِن المعطيات اللُّغوية التي تُقدِّمها له مفردات اللغة؛ لاقتناعه بأنَّ لكلِّ عنصرٍ لُغويٍّ معنًى دَلاليًّا خاصًّا به، وعليه أن يُجهدَ نفسَه لإبراز هذا المعنى، وربْطه بشكله التعبيري الخاصِّ به.
وإذا لاحَظ الباحثُ أنَّ اللغة قد اصطنعتْ - للتعبير عن الباب الواحِد - صِيغًا متعدِّدة، فإنَّ عليه أن يَقتنع بأنَّ لكلِّ صيغة من تلك الصِّيغ معنًى يُراد منها، وهدفًا دَلاليًّا مقصودًا فيها، وسرًّا وراءها، ومطلبًا تسعَى إليه، هذا المعنى وذاك السرُّ مرتبطٌ بشكلِ الصيغة نفسها دون سواها، مع الإقرار سلفًا بوجودِ نوع مِن القربى بيْن الصِّيَغ المشترَكة في أداء المعنى الواحد.
إنَّ الإقرارَ بوجود هذه القُربى بيْن الصيغ المشتركة لاحظَه النحاةُ العرب القُدامى، وهو الاتجاه نفسُه الذي تُنادِي به النظرية التوليديَّة والتحويليَّة Transformational Generative Theory مِن أنَّ الإحساسَ بوجود صِلة بين هذه الجملة وتلك هو حدسٌ يجب تقعيدُه، وقد قادَهم ذلك - كما نعلم - إلى الحاجةِ إلى مفهومِ التحويل الذي يقرُّ بإمكان تحويل جملة - أو أكثر - مِن جملةٍ أخرى، وهو ما يُسمِّيه النحاةُ العرب بالعدولِ عن الأصل، وهذا المصطلح بخاصَّة كانتْ له مكانةٌ ملحوظة عندَهم، وهو بلا شكٍّ يتوافق مع القواعد التحويليَّة في النظرية التوليديَّة والتحويليَّة؛ إذ تنظر تلك النظرية إلى اللُّغة على أنَّها مكوَّنة مِن نوعين مِن الجُمل:
النوع الأول: ما يُسمَّى بالجملة النَّواة، وهذه تَعمل على إيجادِها مجموعةٌ مِن القواعد التوليديَّة.
النوع الثاني: الجُمل المحوَّلة التي تَعمل على إيجادِها قواعدُ المكوِّن التحويلي التي تعمَل على شكلِ الجُملة النواة؛ إمَّا بالزيادة عليها، أو بحذْفِ بعضِ عناصرها، أو بتغيير ترتيبها، ولا يتمُّ ذلك كلُّه إلا لهدفٍ دلاليٍّ يكون مِن وراء هذا التحويل.
وفي هذا الصَّدَد لا يَنبغي أن نتناسى ما أقرَّه نحويُّونا القُدامى مِن أنَّ خروج التركيب عن معهودِ لفظه مصاحبٌ لخروج المعنى عن معهودِ حاله، ومِن هذا المنطَلق شرعتُ أعمل في هذا البحث: "المصدر المؤول: بحث في الوصف التركيبي والأسرار الدَّلالية".
ويأخذ عملي في هذا البحث منحيين:
الأول: عرْض للحروف المصدريَّة، ووصْف تراكيبها؛ وذلك لاقتناعي المطلَق بأنَّ أكبر خِدمة يؤديها الدارسون للغة هي أن يُحلِّلوها إلى أقسامها؛ حتى تتَّضحَ مكوناتُها، فيَسهُل فَهمُها واستعمالُها.
الثاني: كيفيةُ التحويل إلى المصادِر المؤوَّلة، وبيان العِلَّة أو الغاية مِن وراء التعبير بهذا النوعِ مِن المصادر، دون المصادِر الصريحة التي تتَّصف ببساطتِها لدَلالتها على جانب الحدَث وحْدَه، وفي هذا الصَّدد حاولتُ إبرازَ الجوانب الدلاليَّة، دون الاقتصار على وصفِ تراكيبها وصفًا آليًّا جامدًا، بل حاولتُ - إلى جانبِ وصْف الظاهِر - سَبْرَ الباطِن؛ لكشْفِ العَلاقة بيْن التراكيب في ظاهرِها، والجوانب الدلاليَّة القابِعة مِن وراء هذا الظاهِر؛ لاقتناعي التامِّ بأنَّ عزْل المعنى عنِ النحو إساءةٌ له بالِغة؛ إذ يُصبح في تلك الحالة جسمًا بلا رُوح.
وقدِ اهتديتُ في بحثي هذا برافدين:
أحدهما قديم، وهو منهجُ الإمام عبدالقاهر في نظريته للنَّظْم التي أفاضَ فيها في ربطِ المعاني النحْويَّة بمدلولات التراكيب اللُّغوية، والفروق بينهما "ذلك أنَّنا لا نعلم شيئًا يَبتغيه الناظمُ بنظْمه، غير أنْ ينظرَ في وجوه كلِّ باب وفُروقه"[1].
والرافد الثاني: رافدٌ حديث تمثَّل فيما أفدتُه مِن قراءات لي متواضعة فيما كُتِب عن النظريةِ التوليديَّة والتحويليَّة التي جَعلتْ مِن صميم أهدافها "القُدْرة على تقديمِ التفسير الكافي لكلِّ البِنى التركيبيَّة المنتجة فعلاً، وَفقًا للنِّظامِ القواعديِّ للُّغة"[2].
كما قرَّرت أنَّ مِن أخصِّ وظائف الدِّراسة اللِّسانيَّة، رصْد التلازُم القائم بين المبنَى والمعنى، وفي هذا الصَّدد ميَّزتْ هذه النظرية بيْن مستويين لوصفِ البِنَى التركيبيَّة لأيَّة لُغة طبيعيَّة: "أحدهما مستوى البِنية السطحيَّة الظاهِرة التي تتمثَّل في التتابُع الكلامي الملفوظ أثناءَ الأداء الفِعلي المُنجز، والآخَر: مستوى البِنية العميقة، وهي البِنية الذِّهنيَّة المجرَّدة التي أوجَدتْ ذلك التتابعَ الكلاميَّ الملحوظَ في البنية السطحيَّة"[3]، وقد حاولتُ في هذا البحث المزجَ بين مُعطيات تلك النظريَّة، وعطاء عُلمائِنا القُدامى، فما زلتُ أرى أنَّ أيَّ عمل جادٍّ لا يَستقيم له أمرٌ، إلاَّ إذا انبَنى على هذين الرافدين.
الوصف التركيبي للمصادر المؤوَّلة في العربية:
وعرْضُنا للوصف التركيبي لهذا النَّوعِ مِن المصادر، متَّسقٌ مع ما نراه مِن أنَّ وظيفة الدِّراسةِ اللُّغويَّة هي رصْد السِّمات المميِّزة لكلِّ عنصر لُغوي على حِدَة، وتحديد أنماط ورودِه في بيئته اللُّغوية، ولا شكَّ أنَّ نظرةً عَجْلَى لهذا النوع من المصادر تُرينا أنَّها مركَّبة من عنصرين رئيسيين:
الأول: العنصر المصدري:
والعناصر المصدريَّة كما وردتْ في مطوَّلات كتُب النحو هي: (أن) المصدريَّة و(أنّ) المشدَّدة، و(ما)، و(لو)، و(كي)، واللام.
الثاني: مدخول هذا العنصر المصدري:
وطبقًا للعنصر الثاني يُمكننا تفريعُ الحروف المصدريَّة إلى صِنفين:
أ- وهو الغالِبُ في معظمِ هذه الحروفِ مُحدَّد بكونِ مدخولها المعجمي فِعلاً.
ب- وتختصُّ بكون مدخولها المعجمي اسمًا، وهذا النوع خاصٌّ بالعنصر المصدري (أن) المفتوحة الهمزة؛ ثقيلةً كانت، أو خفيفةً، و(ما) في بعضِ استعمالاتها القليلة، كتلك التي أشار إليها ابنُ يَعيشَ في قوله: "يُعجبني ما أنت صانِع؛ أي: صنيعُك"[4].
وإذا ربطْنا تلك السِّمةَ المميزة لهذين العنصرين بعلامة (+) حيث تُشير علامة الإيجاب إلى قَبول العنصر لهذه السِّمة، وعلامة السَّلْب إلى عدَم قبولِه إيَّاها، نجدها كالتالي:
= (أنّ) تتَّسم بسِمة (+ اسم).
= (ما) تتَّسم بسِمة (+ اسم)، عِلمًا بأنَّ العنصر (أن) يتَّسم بسِمة خِلافيَّة له، هي سِمة (+ مؤثر)؛ إذ إنَّها تؤثِّر في الاسم بعدَها بتحويل حركته إلى العلامة الخاصَّة بالنَّصْبِ، بخلاف (ما) فليستْ له تلك السِّمة في الاسم.
أمَّا باقي العناصر المصدريَّة المُتبقية، فكلُّها تتَّسم بسِمة (- اسم)، وهي سِمة تُثبِت نَقيضَها لهذه العناصر؛ إذ تتَّسم بسِمة (+ فعل)، ومِن ثَمَّ فإن (أنْ) المصدرية تتَّسم بسِمة (+ فعل)، ومثلها في ذلك (كي)، واللام، و(لو)، وإذا حاولْنا تفريعَ تلك الحروف المصدرية طبقًا لهذه السِّمة، تبيَّن لنا أنَّ هذه الحروفَ لا تَرِد بالضرورة ظاهرةً قبل الفِعل متَّصلة به، فمنها ما يكون كذلك، ومنها ما يأتي مضمرًا، وهذا الأخير يُمكن تفريعُه مِن حيثُ حُكمُ الإضمار إلى تفريعين: ما يَجِب إضمارُه، وما يجوز إضمارُه[5].
وليس إظهارُ الحرف وإضمارُه هو السِّمة الخلافية الوحيدة التي تَختلف تبعًا لها هذه الحروفُ المصدريَّة، وإنَّما هناك سِمة خلافيَّة أُخرى ترجِع أساسًا إلى تأثير هذه الحروف في الأفْعال التي تتَّصل بها تأثيرًا يترتَّب عليه تحوُّلٌ في العلامات الإعرابيَّة في أواخِر الأفعال، بوصْفها علامة وظيفة منسوبة إلى عُنصر لُغوي ما، ومِن هذه الناحية يُمكِننا تفريعُ تلك الحروف إلى حروفٍ مؤثِّرة في الفِعل بعدَها، وإلى أُخرى غير مؤثِّر فيه.
وبربْط هذه السِّمات المميِّزة للعناصِر المصدريَّة المتَّصلة بالفِعل بعلامة (+) نجِدها تتجمَّع في الآتي:
= (أنْ) سَمْتها (+ ظاهر)، (+ مؤثِّر) وقد ترِد دون أن تنصبَ الفعل "إمَّا للحمْل على (أنْ) المخفَّفة، أو على (ما) المصدرية"[6].
= (كي) سمتها (+ ظاهر)، (+ مؤثر).
= اللام سَمتها (+ ظاهِر)، (+ مؤثِّر) عندَ مَن يرى أنَّ الفِعل منصوب بـ(أنْ) مضمرة.
= (لو) سَمتها (+ ظاهِر)، (- مؤثِّر).
= (ما) سَمتها (+ ظاهر)، (- مؤثِّر).
كان هذا عَرضًا مجملاً لتلك العناصِر المصدريَّة، وأبدأ بعَرْضها مفصَّلة مُؤثِرًا في ترتيبها المنهجَ الأبجدي، بدلاً مِن ترتيبها حسبَ شيوعها في اللُّغة؛ إذ يحتِّم هذا المنهجُ قيامَ الباحِث باستقراء تامٍّ لظواهرِ المادَّة اللُّغويَّة موضوعِ الإحصاء، وقدْ مَنعني مساحة البَحْث ومحدوديته مِن ذلك والخوف مِن انصراف الوقْت والجهد في الإحْصاء عن الغايةِ التي هدفْتُ إليها مِن البحث، كما لَم أُرِدْ أن أُرتِّبها حسبَ اتِّفاق النُّحاة أو اختلافهم حولَ كونِها حروفًا مصدريَّة؛ لأنِّي رأيتُ أن أَنُصَّ على ذلك عندَ الحديثِ على كلِّ عنصر على حِدَة:
العنصر الأول: (أن) المصدرية:
حديثُنا عن هذا العُنصر يتوزَّع بيْن تحديد السِّمات الدَّلاليَّة المميزة للأفعالِ التي تَسبِقه وهي التي تكون معَه علاقة إسناديَّة يكون فيها الحرْف المصدري مع مَدخولِه شاغلاً لوظيفةِ الفاعِل المحقِّق لهذه الأفعال، أو وظيفة المفعول لها، كما يتناول تلك الأفعالَ التي يتَّصل بها، وتُؤوَّل معه بالمصْدَر.
وللحقِّ، فإنَّ مَن يُعرِّج صوبَ الضوابط الجوهريَّة التي وضعَها النُّحاةُ القُدامى لهذا الحرْف المصدري، يتبيَّن أنهم لَم يَألوا جُهدًا في رصْد التراكيب اللُّغويةِ التي يُستعمل فيها، يَستوي في ذلك ما رَصَدوه في وصفِ السِّمات الخاصَّة بالأفعال التي يدخُل عليها، أم تلك التي تَسبِقه؛ أمَّا عنِ السِّمات الخاصَّة بالعُنصر الذي يَدخُل عليه هذا الحرْف المصْدَري، فقدِ اتَّفقوا على أنَّه صالِح للدُّخول على نمطٍ متجانسٍ مِن الكلمات، اصطلح على تسميتِه بالفِعْل، ماضيًا كان، أو مضارعًا، أو أمرًا، غير أنَّهم قيَّدوه في أشكالِه الثلاثة بقيْد التصرُّف، دون ما عَداه مِن السِّمات الأخرى، ويعود ذلك إلى سببٍ بسيط، هو أنَّ هذا النمطَ مِن الأفعال هو القادِر على أنْ يُشكِّل مع الحرفِ المصدري الرُّكنَ الأَسْمى المسمَّى بالمصدر؛ لأنَّه "لا مصدرَ لغير المتصرِّف"[7].
أمَّا العُنصر الذي يدخُل على الأفْعال الجامِدة، فهو عنصرٌ آخَر، مُحوَّل عن (أنّ) المشدَّدة، وهي التي تُضفي على مدخولها معنى دَلاليًّا زائدًا هو التوكيد، وهو ما وُضعتْ أساسًا له، والاسمُ بعدَها عبارة عن ضمير الشأن محذوفًا، والفِعل بعدها يُشكِّل عنصرًا خبريًّا عن هذا المحذوف، وعليه في (أنْ) في مِثل قوله تعالى: ﴿ وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى ﴾ [النجم: 39]، ليستْ ما يَجري الحديث عنها هُنا، فهذه يتَّسم الفِعل الداخِلة عليه بسِمة (+ متصرِّف).
ودخول هذا العُنصر المصدري على الفِعل المضارِع هو موضِعٌ أجمَع عليه نُحاتُنا القُدامى، كما أجْمعوا أيضًا على دخولِها على الماضي إلاَّ ابن طاهِر في حِكاية ابن هِشام في المغني[8]، مع الإقرارِ بأنَّها مع المضارِع تؤثِّر فيه النَّصب، بخلافِ الماضي الذي لا يَقبل التأثُّرَ لبنائه، أمَّا اتِّصالها بالأمْر فالأرْجَح جوازُ اتِّصالها به مع الإقرار بإمكانيَّة إفادتِها معنًى دَلاليًّا آخَر هو التفسير، وإنْ كانوا قدْ مالوا إلى القول بأنَّها إذا وقعتْ بعدَ فِعل فيه معنى القول دون حروفِه أنْ تكون مُفسِّرة لا ناصِبة، غير أنَّنا وجَدْنا نصًّا للزمخشري نسَب فيه رأيًا لسيبويه، يُجيز جعْلها مصدريَّة مُعلِّلاً ذلك بقوله: "لأنَّ الغَرْض وصلُها بما تكون معه في معنَى المصْدَر، والأمْر والنهي دالاَّنِ على المصدر دلالةَ غيرهما مِن الأفعال"[9].
وقد خالَف الرضيُّ هذا الرأي زاعمًا بأنَّه ينبغي أن يُفيد المصدرُ المؤوَّل مِن (أن) والفِعل ما أفادَه الفِعل تمامًا؛ "والمصدر المؤوَّل به (أن) مع الأمْر ليس فيه طلبُ القيام، بخلافِ قولك: أنْ قُم، ويتبيَّن بذلك أنَّ صِلة (أن) لا تكون أمرًا ولا نهيًا خلافًا لما ذَهَب إليه سيبويه"[10]، وفي هذا الصَّدد نُسجِّل مخالفتنا لابنِ هِشام فيما نسبَه لأبي حيَّان مِن أنَّه المخالف لجمهور النُّحاة في وصْل (أن) المصدرية بالأمر، ونقل في ذلك عنه دَليلَين: "أحدهما: أنَّهما - يقصد (أن) والأمْر - إذا قُدِّرَا بالمصدر فات معنى الأمر، والثاني: أنَّهما لَم يقعَا فاعلاً، ولا مفعولاً، لا يصحُّ أعجبني أنْ قُم، ولا كَرِهت أنْ قم"[11].
ومردُّ عدَم موافقتنا لابنِ هِشام مرجعُه إلى ما جاءَ في "البحر المحيط"، فمَن يتتبَّع ما جاءَ فيه، سوف يتبيَّن أنَّ المسألة عنه جائزة، لا مُمتنعة، وفي هذا الصَّدد نَكتفي بنقْل نصٍّ واحد عنه يؤكِّد صحَّة ما ذهبْنا إليه، يذكُر في معرِض تفسيرِه لقوله تعالى: ﴿ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ ﴾ [يونس: 2]، أنَّ (أنْ) تفسيريَّة، أو مصدريَّة مخفَّفة مِن الثقيلة، ثم يقول: "ويجوز أن تكونَ المصدريَّة الثنائية الوضْع، لا المخفَّفة مِن الثقيلة؛ لأنَّها توصل بالماضي والمضارع والأمْر، فوصلتْ هنا بالأمْر، ويَنسبِك منها معه مصدرٌ، تقديرُه بإنذار الناس، وهذا الوجه أوْلى من التفسيريَّة؛ لأنَّ الكوفيين لا يُثبتون لـ(أن) أن تكون تفسيريَّة[12]، وقد أيَّد أن تكون (أنْ) الداخلة على الأمْر مفسِّرة ومصدريَّة في آنٍ واحد السهيليُّ، وتَبِعه ابنُ القيم في ذلك قائلين بأنها "إذا كانتْ تفسيرًا، فإنَّما تفسِّر الكلام، والكلام مصدر، فهي إذًا في تأويل المصدر، إلا أنَّك أوقعتَ بعدها الفِعل بلفظ الأمْر والنهي، وذلك مزيدُ فائدة، ومزيدُ الفائدة لا يخرُج الفعل عن كونه فعلاً؛ ولذلك لا تَخرج (أن) عن كونها مصدريَّة، كما لا يُخرِجها عن ذلك صيغةُ المُضيِّ والاستقبال بعدَها"[13].
وإذا كانوا قدْ قاسوا الشيءَ على نظيرِه، فقد قاسوه على ضدِّه؛ ولذا يمكن الحُكم بمصدرية (أن) المفسِّرة بتلك التي تدخُل على المضارع المقترن بـ(لا) الناهية، والنهي ضدُّ الأمْر، وذلك في قوله تعالى: ﴿ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ﴾ [الأنعام: 151]؛ حيث فسَّر الزجَّاج بِنيتَها العميقة بقوله: "أتْلُ عليكم تحريمَ الشِّرْك"[14].
وقدْ آثرتُ نقْل هذه النصوصِ هنا، لأُثبتَ مِن طرف أنَّ علماءَنا القُدامى كانوا يَبنون آراءَهم في المسألة النَّحْوية وفقًا للمعطيات اللُّغويَّة الممثِّلة للظاهِرة التي يقومون ببحثِها، كما كانوا يُقيمون منهجَهم على أساس أنَّ اختيارَ العناصر اللُّغويَّة لما جاوَرها لا يَرِد مصادفةً أو اعتباطًا، بل إنَّ كلَّ عنصر منها يأتي في مواقعَ محدَّدةٍ بالنسبة إلى العناصِر الأخرى ضِمنَ السِّياق الذي تَرِد فيه، فهذا الخلافُ بينهم كان مبنيًّا على ورودِ العنصر اللُّغويِّ الذي يلي (أن) المصدريَّة، فالمُنكِرون لجعْله فعلَ أمْر استندوا إلى أنَّ فِعل الأمر لا يُساعِد على التأويل بالمصدر؛ حتى لا يتحوَّل الكلامُ إلى معنًى خبريٍّ مُحتمل للصِّدق والكذب، وهو ما يُنافي معنى الأمْر.
والمؤيِّدون لذلك مالوا إلى أنَّه يمكن الإتيانُ بالمصدر مِن الأمْر، وأنَّ التعبير بالأمر إنَّما كان لهدفٍ دَلالي عبَّروا عنه بمزيدِ الفائدة، ومزيد الفائدة لا يَخرُج (أن) عن كونها مصدريَّة.
نخلص إذًا إلى أنَّ العنصر اللُّغوي الذي يَلي (أن) المصدرية هو الفِعل المتَّسم بسِمة التصرُّف، ماضيًا كان، أو مضارعًا، أو أمرًا، غير أنَّنا لا نجِد في أقوالهم ضابطًا دلاليًّا لهذه الأفعال، ويبدو أنَّ ذلك راجعٌ إلى صلاحيتها للدخولِ على أفعال متباينة الدَّلالة، متعدِّدة المعاني.
ولتوضيحِ ذلك أكثرَ علينا أن نتَّجه صوبَ الضوابط الجوهريَّة التي وضعَها النحاةُ لفئةِ الأفعال التي تَسبق (أن) المصدرية، والتي تُشكِّل معها هي ومدخولها علاقةً إسناديَّة يكون فيها المصدرُ المؤوَّل منهما في موقِع الفاعل المحقِّق للحدَث المفاد مِن العنصر الفِعلي السابق، وفي هذا الصَّدد يُقابلنا هذا الزَّخَمُ المتراكِم مِن أقوالهم، والتي تَفي في مجموعِها بعض التقييدات الدلاليَّة المحددة لنمطِ هذا النَّوع من الأفعال، ففي مجال التفريق بيْن (أنْ) و(أنّ)، ينصُّون على أنَّه لَمَّا كانت (أنّ) للتأكيد والتحقُّق "مجراها في ذلك مجرَى المكسورة، فيَجِب لذلك أن يكونَ الفعل الذي تُبنى عليه مطابقًا لها في المعنى، وأن يكونَ مِن أفعال العِلم واليقين، ونحوهما ممَّا معناه الثُّبوتُ والاستقرار؛ ليطابق مَعْنَيَي العامل والمعمول، ولا يَتناقضا...، ولا يقَع قبلها شيءٌ مِن أفعال الطمَع والإشفاق، نحو اشْتَهيت، وأرَدتُ، وأخاف؛ لأنَّ هذه الأفعال يجوز أن يوجد ما بعدَها، وألاَّ يوجد، فلذلك لا يقع بعدَها إلاَّ (أن) الخفيفة الناصِبة للأفعال؛ لأنَّه لا تأكيد فيها"[15].
ومفاد هذا القول أنَّه لَمَّا كانتْ (أن) لا تُستعمل إلاَّ في سِياق الطَّمَع والرَّجاء في حصول الحدَث الملحَق بها، أو عدَم حصوله، فإنَّ هذا مما يَتنافى مع أفعالِ العِلم أو التحقيق أو اليقين، التي تدلُّ على ثبوتِ الحدَث وتُحقِّقه في الواقِع اللُّغوي، ومِن ثَمَّ يكون العنصرُ اللُّغوي الذي يناسِب هذه الأفعالَ هو (أنّ) المشدَّدة التي تُضفي على هذه الأفعالِ زيادةً دلاليَّة، وهي توكيدُ العِلم واليقين وتحقيقه؛ "فالعلمُ مِن مواضِع التقدير والتحقيق، والطَّمَع والرَّجاء مِن مواضع الشكِّ وغير الثبات، و(أنّ) المشدَّدة تُفيد التوكيد، والمخفَّفة لا تُفيده، وإذا كان الأمرُ كذلك، وجَبَ أن تُقرنَ المشدَّدة بما كان تقريرًا، والمخفَّفة بما كان شكًّا.. ولو قيل: علمتُ أنْ يخرجَ زيد، وأرجو أنَّ زيدًا يخرجُ، لكان قلبًا للعادة، مِن حيثُ يقرن ما هو عَلَم التوكيد بما لا تَقريرَ فيه، وما هو عارٍ مِن التوكيدِ بما هو تقرير"[16].
وتُظهِر هذه الأقوالُ - وغيرُها كثير - أنَّ النحاة لَم يُهمِلوا تمامًا أنْ يَذكروا بعضَ السِّمات الدلاليَّة التي تتراءَى لهم في دَرسِهم لظاهرةٍ ما، تلك السِّمات التي يعدُّها بعضُهم من مُستحدَثات المدارسِ اللِّسانيَّة الحديثة، وبخاصَّة المدرسة التوليديَّة والتحويليَّة، حين فكَّر أتباعُ هذه المدرسة في إدراجِ مفهومِ السِّمة بوصفه معادلاً لقاعدةِ التفريع؛ وذلك لما رَأَوْه مِن قوَّة قواعدِهم على توليدِ جُمل غير مقبولة دَلاليًّا، فقواعد التكوين عندَهم ذاتُ قُدْرة كبيرة على التوليد، حتى إنَّ نموذجًا مثل: فعل + اسم + اسم يمكن أن يُولِّد جملاً غير ملائِمة للمعنَى؛ فعن طريقِه يمكن توليدُ تركيب مثل: أكَل المنـزلُ الطعام، وقد سبَق أنْ أشرتُ - في بحثٍ لي عن صِيَغ الأمْر في العربية - إلى أنَّ نموذجًا مِثل هذا أفْضَى بتشومكي ورِفاقه إلى اقتراحِ نوعٍ آخَرَ مِن القوانين، سَمَّوْه بـ(قواعد التفريع)، وهي القواعدُ التي تُقدِّم لنا العناصر المعجميَّة مصحوبةً بسِماتها السياقيَّة، والذاتيَّة، وقدْ أُوكِلَتْ هذه المهمَّة للبِنية العميقة في الطَّور الثاني مِن النظرية، بدلاً مِن ترْكها في الطورِ الأوَّل إلى التفسير الدَّلالي لرفضِ مِثل هذه الجُمل، ففي الطورِ الثاني أدخلتِ النظريةُ مفهومَ السِّمة بوصفِه معادلاً لقاعدةِ التفريع، ففي مجالِ تحديد الاسمِ مَثلاً لجؤوا إلى السِّمات التالية[17]: [+ عام]، [+ متحرِّك]، [+ إنسان]، [+ محسوس]، [+ معدود]، [+ معرَّف] [+ مذكَّر] [+ مفرد]، وبالرجوع إلى نموذج: أكَل المنـزلُ الطعامَ، نجِد أنَّ كلمة المنـزل تحتوي على سِمة (- حيوان)، (- متحرِّك)، (- حيّ)، في حين أنَّ الفِعل (أكَل) يَتطلَّب فاعلاً يحتوي على سِمة (+ حيوان)، (+ متحرِّك)، (+ حيّ)، وبالتالي لا يأخذ اسمًا فاعلاً تَنعدِم فيه هذه الصفاتُ، أمَّا في مجالِ تحديد الفِعل، فقد أُولِعوا بتفريعِه تفريعاتٍ متعددةً[18]، فالفعلُ يدلُّ على واقعةٍ تكون؛ إمَّا عملاً action، أو حدَثًا Process، أو وَضعًا position، أو حالة State، ومِن ثَمَّ بالإمكان اللجوءُ إلى السِّمات التالية: [+ عمل]، [+ حدَث]، [+ حالة]، [+ وضع]، [+ شخْصي]، [+ متعد]، فمثل الأفعال: كتَب - ذاكَر - ضَرَب - قَتَل - جَلَس - قامَ، تتَّسم بسِمة (+ عمل)، فإذا صدَر بعضُها عن شخصٍ وسَمْت بسِمة أخرى هي (+ شخصي)، وهناك نوعٌ مِن الأفعال لا يصدُر عن شخص، مثل الأفعال: يَجِب - يَجوز - يُمكِن - يَحِل - يَحرُم، فهذه تُوسَم بسِمة (- شخْصي)، أمَّا الأفعال: كَرِه - أَبْغَض - سرَّ - ودَّ - خاف، فإنَّها تُوسَم بسِمة (+ حالة)، وهي أفعال تدلُّ في ذاتِها على حالةٍ يمكن أن يتَّصف بها الإنسان، أو غيرُه؛ سواء كانتْ ثابتةً أو زائلةً، وحتى هذا النوع قَسَّموه تبعًا لنوع الحالة؛ لذا يُمكن أن تَنضوي تحتَها التقسيماتُ التالية[19]:
/ حالة / - > بيولوجيَّة، مِثل: عطِش - ظَمِئ - جاع - شَبِع.
/ حالة /- > فسيولوجيَّة، مِثل: عَوِر - حَوِل - طال - قَصُر.
/ حالة /- > سيكولوجيَّة، مِثل: فَرِح - حَزِن - غَضِب.
/ حالة / - > فيزيائية مثل: احمرَّ.
/ حالة / -> طارئة، مِثل: وَسِخ - دَنِس.
وباختبارِ هذه المُعطيات اللِّسانيَّة على فِئة الأفعال التي يأتِي فاعلُها مصدرًا مؤولاً مِن (أنْ) والفِعل نتبيَّن أنَّ تِلك الأفعال لا تتَّسم مثلاً بسِمة (+ عمل)؛ إذ لا نقول: يَكتبني أن تُذاكِر في مقابل: يسرُّني أن تُذاكِر، فالجملتان مركَّبتان تركيبًا يتَّسق وقواعدَ اللغة، غير أنَّ الجملةَ الثانية مقبولة دَلاليًّا وقاعديًّا، بخلافِ الأولى فهي جملةٌ مرفوضة، وغير أصوليَّة، وما ذلك إلاَّ لأنَّ الفِعل يكتُب "لا يُنتقَى عادةً فاعلاً مُحوَّلاً عنِ اسم حدَث في سياقِه المألوف، في حين أنَّ الفعل (سرّ) يعدُّ ذلك مِن أخصِّ خصائصه[20].
وما ذلك إلاَّ لأنَّ المصدرَ المؤوَّل في حقيقتِه اسمُ حدَث، والحدَث معنى، والمعاني لا تكون مِن أفعالِ الحرَكة، بل مِن أفعال الحالة.
وللحقِّ فإنَّ ثَمَّة باحثًا جادًّا قام بحصْر الضوابط الدلاليَّة للأفعال التي يقَع الفاعلُ المُحقِّق لها مصدرًا مؤوَّلاً مِن (أن) والفعل، وانتهى إلى ما يلي:
1- تَنتمي هذه الأفعالُ إلى فِئة الأفعال غيرِ الشخصيَّة، وهي تلك التي لا تَصدُر عن شخصٍ؛ مِثل الأفعال: يَجِب - يجوز - يَنبغي - يَحِل – يحرُم، وذكَر أنَّ هذا النوعَ لا يتَّسم بسِمة (+ متعدي)؛ "لأنَّها لا تُقيم علاقةً إسناديَّةً خارجةً عن ذات الشيء، أو الشخْص الذي هي مِن أجله"[21].
ومِن نماذج هذا النوع مِن الأفعال قوله تعالى:
﴿ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا ﴾ [البقرة: 229].
﴿ لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ ﴾ [يس: 40].
• يَجدُر أن تقولَ الصِّدق، ويَجِب أن تتواضَع - ويُمكِن أنْ أُصادِقك.
2- تَنتهي هذه الأفعالُ إلى حقْلِ الأفعال الدالَّة على حالةٍ نفسيَّة انفعاليَّة، كالحُزن والفَرَح، والسُّرور والإعْجاب، والإسعادِ والإغضاب، والرِّضا والإساءة، ومِن نماذجها:
قولُ اللهِ تعالى عن يعقوبَ - عليه السلام -: ﴿ قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ ﴾ [يوسف: 13].
وقول الشاعر:
أَسَرَّكَ أَنْ تَلْقَى بَعِيرَكَ عَافِيًا وَتُؤْتَى بِبُرْنِيِّ العِرَاقِ المُحَطَّمِ[22] |
وقول الآخَر:
لَئِنْ سَاءَنِي أَنْ نِلْتِنِي بِمَسَاءَةٍ لَقَدْ سَرَّنِي أَنِّي خَطَرْتُ بِبَالِكِ[23] |
فالأفعال: يَحزَن - سرَّ - ساءَ، التي أقامتْ علاقةً تركيبيةً بينها وبيْن المصدر المؤوَّل مِن (أن والفعل)، هي مِن تلك الأفعال ذات الأبْعاد الدلاليَّة المتَّسِمة بسِمة (+ حالة انفعاليَّة).
ويَنطبِق هذا المفهومُ على (عسى) الذي يكونُ مع (أن + الفعل) رُكنًا إسناديًّا يكون فيه المصدرُ المؤوَّل متبوِّئًا لموقِع الفاعل المحقِّق لما فيه (عسى) مِن معنى الطَّمَع، وهو مِن المعاني التي تتَّسم بسِمة (+ حالة)، ولعلَّ إكسابَها معنى الطمَع هو ما جَعَلَها صالحةً للدخول على (أن) فيما يذكُره ابنُ الأنباري[24]، وإذا كان الفِعل (عسى) لا يَقبلُ أن يُقيم علاقةً إسناديَّة مع فاعِله إلاَّ إذا كان مَصدرًا مؤوَّلاً من (أن) والفِعل، فإنَّ باقي الأفعال تَقبل الثنائيَّة بطرَفيها؛ فقد يكون فاعلُها صريحًا وقد يكون مُؤوَّلاً، وهنا يكونُ البحثُ والتقصِّي عن الدواعي الدلاليَّة التي كانتْ وراءَ الجنوح إلى المصدرِ المؤوَّل، والعُدول عنِ الصريح، وهو ما سوف نَعرِض له في حينِه مِن هذا البحث.
ونأتي الآن إلى الأفعالِ التي يحتلُّ فيها المصدرُ المؤوَّل مِن (أن والفعل) موقعَ المفعول، وبتأمُّلنا لبعضِ التراكيب القرآنيَّة الممثِّلة لتلك الفِئة من الأفعالِ مِن مِثل قوله تعالى:
﴿ وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ ﴾ [الإسراء: 59].
﴿ وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا ﴾ [آل عمران: 188].
﴿ مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ ﴾ [البقرة: 105].
﴿ أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ ﴾ [البقرة: 108].
﴿ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ ﴾ [المدثر: 37].
نتبيَّن أنَّ تلك الأفعالَ ليستْ مِن النمطِ الذي يتَّسم بسِمة (+حركة)، ويُمكِننا أن نُسمِّيها إلى جانبِ سِمة (+ حالة) التي تتَّسم بها أفعالٌ مثل يَوَدّ - يحبُّ، بسمة أخرى وَسَمها بها الرضيُّ، وهي سِمة (+ ترقب)، ومَثَّل لذلك بالأفعال (حَسِبت، وطَمِعت، ورَجَوت، وأرَدت)[25].
ومِن اللافتِ للنَّظرِ أنَّ تلك السماتِ الدلاليَّة التي قدَّمناها للأفعالِ التي تختار المصدرَ المؤوَّل مِن (أن والفعل) فاعلاً لها، أو مفعولاً، سوف تَصدُق بصفةٍ عامَّة على كلِّ التراكيبِ ذات المصادِر المؤوَّلة؛ سواء كان الرُّكن التركيبي فيها (أن مع الفعل)، أو (ما مع الفعل)، أو (لو مَع الفعل).
وما ذلك إلاَّ لأنَّها أفعال معبِّرة عن موقِفٍ أو حالة، والحالةُ لا تكون حركةً أو عملاً، ومِن ثَم يُناسبها أن يكونَ الفاعل المحقِّق لها حَدَثًا، أو معنًى، أو تقَع على حدَثٍ أو معنًى.
أمَّا عن الضابطِ الدلاليِّ للمصدرِ المؤوَّل إذا شغَل وظائفَ أخرى - كأن يقَع مبتدأً، أو مجرورًا بحرفٍ أو إضافة - فالحقُّ أنَّ النُّحاةَ لَم يشغلوا أنفسَهم بذلك، ويَبدو مِن حذف الألف أنَّ ذلك راجعٌ إلى أنَّ المصدرَ المؤوَّل نفسَه لا يتقيَّد بقيدٍ مِن تلك الضوابطِ الدلاليَّة، فقد يكون الفعلُ المتصل بـ(أن) فعلَ حالة، أو مُتَّسمًا بسِمة (+ عمل)، أو موقِف...، وهَلُمَّ جرًّا، وإنْ كان قد ورَد عن بعضِهم بعضُ التقييدات التركيبيَّة، كتلك التي ساقَها ابنُ القيِّم مِن أنَّه إذا وقَع المصدرُ المؤوَّل مِن (أن والفعل) مبتدأً، لا يكون خبرُه ظرفًا، ولا جارًّا ومجرورًا، مُعلِّلاً ذلك بأنَّ المجرور لا يتعلَّق بالمعنى الذي يدلُّ عليه (أنْ)، ولا الذي مِن أجْلِه صِيغ الفِعل، واشتقَّ مِن المصدرِ، وإنَّما يتعلَّق المجرورُ بالمصدرِ مُجرَّدًا مِن هذا المعنى - كما تقدَّم - فلا يكون خبرًا عنْ (أن) المتقدِّمة، وإنْ كانتْ في تأويل اسمٍ[26].
ولا أتَّفِق مع هذا القولِ؛ إذ إنَّه يمكن الإخبارُ بالجارِّ والمجرور عن المصدرِ المؤوَّل مِن (أن والفعل) شريطةَ تقدُّم الخبر؛ إذ تقول مثلاً: مِن دلائل التفوق أنْ نجحْت في الاختبار، أو أنْ تَنجح، ومِن ذلك قولُه تعالى: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ﴾ [الروم: 20]، غير أنَّنا نتَّفق معه فيما ذَكَره أنَّه لا يُخبر عنِ المصدر المؤوَّل بشيءٍ ممَّا هو مِن صِفة المصدَر، وإنْ كان يجوزُ ذلك في الصَّريح؛ تقول: القيام سِريعٌ، ولا نقول: أنْ تقوم سريعٌ "لا يكون مِثل هذا خبرًا عن المصدَر"[27]، وسوف نَعرِف السرَّ الدَّلالي لذلك.
[1] الإمام عبدالقاهر الجرجاني؛ "دلائل الإعجاز في علم المعاني" ص (80)؛ تصحيح الشيخ محمد عبده، والشنقيطي، جدة، مكتبة العلم، 1411هـ - 1990م.
[2] أحمد حساني؛ "السِّمات التفريعيَّة للفعل في البنية التركيبيَّة، مقاربة لسانية" ص (3) الجزائر، ديوان المطبوعات الجامعية، 1993م.
[3] السابق ص (3 - 4).
[4] مُوفَّق الدِّين يعيش بن علي بن يعيش؛ شرح المفصَّل (8/ 77)، بيروت، عالم الكتب، دون تاريخ.
[5] لن أتَعرَّض في بحثي هذا لمواطنِ إضمار (إن) بقِسميها، فعندي لها تفسيرٌ آخَر، سوف أُخصِّص له بحثاً مستقلاًّ -إنْ شاءَ الله تعالى.
[6] رضي الدِّين محمد بن الحسن الإستراباذي؛ "شرح الكافية" (2/ 233)، بيروت، دار الكتب العلمية، دون تاريخ.
[7] الرَّضي؛ شرح الكافية، (2/ 223).
[8] الإمام أبو محمَّد عبدالله جمال الدين بن هشام الأنصاري المصري؛ "مغني اللبيب عن كتب الأعاريب" (1/ 28)؛ تحقيق محمد محيي الدين عبدالحميد، دون تاريخ.
[9] الإمام محمود بن عمر الزمخشري؛ "الكشاف عن حقائق غوامض التنـزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل" (3/ 374)؛ ترتيب وضبْط مصطفى حسين أحمد، بيروت، دار الكتاب العربي، ط (3)، 1407هـ - 1987م.
[10] الرضي؛ "شرح الكافية"، (2/ 386).
[11] ابن هشام؛ "مغنى اللبيب"، (1/ 29).
[12] أَثير الدين أبو حيَّان النحوي؛ "تفسير البحر المحيط" (5/ 122)، دار الفِكر للطباعة والنشر والتوزيع، ط (2)، 1403هـ - 1983م.
[13] أبو القاسم عبدالرحمن بن عبدالله السُّهيليّ، "نتائج الفكر في النحو" (ص: 129) تحقيق الدكتور/ محمد إبراهيم البنا، السعودية، دار الرياض للنشر والتوزيع ط2 1404هـ 1984م، وانظر: الإمام شمس الدين محمد بن قيِّم الجوزية، "بدائع الفوائد" (1/103) تحقيق بشير محمد عون، الرياض مكتبة المؤيد 1415هـ 1994م.
[14] أبو إسحاق إبراهيم بن السَّري الزجَّاج؛ "معاني القرآن وإعرابه" (3/ 304)؛ تحقيق الدكتور عبدالجليل عبده شلبي، القاهرة دار الحديث، ط (1)، 1414هـ - 1994م.
[15] ابن يعيش؛ "شرح المفصَّل"، (8/ 77).
[16] الإمام عبدالقاهر الجرجاني؛ كتاب المقتصد في شرح الإيضاح، (1/ 482 - 483)؛ تحقيق الدكتور كاظم بحر المرجان، العراق منشورات وزارة الثقافة والإعلام 1982م.
[17] ميشال زكريا؛ "مباحث في النظرية الألسنية وتعليم اللغة"، ص (114)، المؤسَّسة الجامعيَّة للدراسات والنشر والتوزيع، ط (3)، 1405هـ - 1985م.
[18] د. أحمد المتوكل؛ "من البنية الحملية إلى البنية المكونية"، ص (17) الدار البيضاء، دار الثقافة للنشر والتوزيع، ط (1)، 1407هـ - 1987م.
[19] أحمد حساني؛ "السمات التفريعيَّة للفعل"، ص (70 - 174).
[20] السابق، ص (41 - 42).
[21] السابق، (168 - 169).
[22] أبو زيد الأنصاري؛ "النوادر في اللغة"، ص (144)، بيروت دار الكتاب العربي، ط 1387 هـ - 1967م.
[23] أبو علي القالي؛ "الأماني"، (1/ 30).
[24] الإمام أبو البركات عبدالرحمن بن محمَّد بن أبي سعيد الأنباري، "أسرار العربية" (126)، تحقيق محمد بهجة البيطار. دمشق مطبوعات المجمع العلمي. دون تاريخ.
ساحة النقاش