المبدع العربي بين سندان تجار السوق ومطرقة سرقة الحقوق
الألم يتجلى في هذه الصورة:
ليس من صورة أشد على قلبي وأوجَع له من صورة ذلك المُبدِع العربي، الجالس بتودُّد إلى أحد التجار العرب أيضًا؛ ليقنعه بدعم مشروعه الفكري أو الفني أو الإعلامي.
وأكاد أجزم أنني لو دخلتُ إلى دماغ ذلك التاجر - الذي يرتدي أفخر الماركات ويُزيِّن دكانه أو شركته بأفخم أنواع الديكورات والأثاث - لوجدته يرى في ذلك الجالس أمامه كيسًا من العدس، أو قطعة من قماش، أو بناءً بعشرين طابقًا، ثم أرى تلك الصور تتحلَّل وتتلاشى كلما تقدَّم ذلك المبدع واستفاض في شرح فكرته، وبيَّن للتاجر الذكي - الذي يعرف مِن أين تؤكل الكتف! - جدوى ما يفعله للمجتمع، وربما للدين الإسلامي، وذلك العائد المادي الذي سيربحه منها.
ثم سيبدأ بعدها حديث التاجر عن السيولة غير المتوفِّرة، والرِّبح غير المضمون، وأن الناس لا تُحبُّ مِن الإبداع إلا ما يَعرفونه من الطرب والرقص والفكاهة والمسلسلات والأفلام، وأما ما استفاض في شرحه فلن يَجد له سوقًا، ولن يَلتفِت له جمهور، ولن يكسب أصلاً!
ولأنه حذق بما يَكفي؛ فقد يَقترح على المُبدع أن يُقلِّل التكاليف، وأن يرضى بعمل يساوي عشرة بالمائة مما كان يتخيَّله؛ لأنَّ مِن الكفر أن يُخاطر بمال تاجر لا يغامر بأمور تافهة، لا تعني سوى صاحبها.
كلهم يريد نخوة الكُتَّاب:
في إحدى المسابقات - التي تَخصُّ دولة إرتيريا وتُعنى بثقافة الطفل - طلب المنظِّمون من الكتّاب إرسال قصصهم ورواياتهم وقصصهم المصوَّرة دون أن يُفكِّروا في العائد المادي من هذا العمل؛ لأنه لصالح دولة إرتيريا الفقيرة، ومِن ثَمَّ فالقصص التي ستفوز والروايات كذلك سيتم طباعتها وتوزيعها، وستُنشَر على صفحات الموقع المخصَّص، وقد يتمُّ اختيارها لتنفيذها كعمل كرتوني.
عندما عُرضت عليَّ الفكرة شعرت بالدماء تَغلي في عروقي، وسألت مَن عرَضها قائلة:
• وهل سيَرسم الرسام مجانًا؟
• وهل سيُقدِّمون لهم الورق المخصص للطباعة مجانًا؟
• وهل ستَطبع لهم المطابع قصصًا وروايات للأطفال مجانًا؟
• وهل سُتنقل وتوزَّع وتنقَّح مجانًا؟
• وهل سُتنفَّذ كعمل كرتوني مجانًا كذلك؟
• فلمَ هذا التعدِّي والاستعلاء على حق هذا الكاتب (الغلبان) فقط؟!
• ولم لا يُعطى ما يشجعه على الاستمرار في الكتابة والعطاء للطفل؟!
• ولم يُثيرون نخوته هو فقط ليُقدِّم دون مقابل دونًا عن بقية العاملين والتجار؟!
يومها بالطبع رفضتُ فكرة المشاركة، وأسفتُ لمن ستأتي النخوة بهم متنازلين عن أبسط حقوقهم، وهي العائد المادي الذي يُريح الكاتب من هموم الحياة، والتي تأكُل بدَورها وقته وإبداعه.
أهو قدر العربي في هذا الزمان:
في لقاء مع الكاتب والأديب التونسي (مصطفى الفارسي) قال:
• "لدي ستة عشر كتابًا لو كتبتها بالفرنسية لأصبحتُ من أصحاب الملايين".
وقد صدق؛ فنحن - معشرَ الكُتَّاب العرب - نسمع عن مُبدعين وكُتابًا غربيِّين نالوا الثروات بفضل كتاباتهم، ونتحسَّر ونحن نضع أيدينا على خدودنا، ولسان حالنا يقول: أهو قدَر العربي في هذا الزمان؟
ليس التجار وحدهم مَن يظلمون المبدعين:
ليست المشكلة فقط في التجار وأصحاب الأموال؛ فنحن أيضًا نُسيء إلى بعضنا البعض كأصحاب مِهنة؛ فخلال عملي ككاتبة ملتزمة في مؤسَّسة إعلامية، وبعد سنوات عديدة من الالتزام الأسبوعي والترقية التي أسعدتني باقتراح مِن رئيس التحرير، وبعد استقالته وقدوم رئيس تحرير جديد بَدا له أن يقوم بتوحيد المكافآت للكُتَّاب دون النظر إلى الخبرات والاسم والقِدَم الوظيفي، وبالطبع كان توحيد المكافآت لا يَعني رفع المكافآت القليلة؛ لكن تَقليل ما ارتفع منها، وبالتأكيد كان جوابي هو إعلان الاستقالة غير آسفة.
مَن المُلام أيضًا؟
قد أكون مُتجنّية على معشر تجار السوق أيضًا لو لُمتهم وحدَهم في عدم دعمهم المادي للمُبدعين، وفي الحقيقة فهناك بعض الحقيقة في عزوفهم عن هذا الدعم، ويتجلى ذلك في سرقة الإبداع ونهب الأفكار وتوليدها قَسرًا، وعدم حفظ الحقوق الفكرية المنتشِر بين المُبدِعين أنفسهم بداية، وبين أفراد المُجتمَع ممَّن لا تعنيهم القضية بشكل أو بآخَر، وبين قوانين سخيفة مُهترئة لا تواكب الزمان ولا التحديات، ولا تتفهَّم معاني مِن السرقات مثلاً هي أشد من السرقة المادية، وقد انتشرت وذاع صيتها في المنتديات على الشبكة العنكبوتية، وعلى صفحات الفيس بوك كذلك، وفي دور النشر، وعلى أوراق الكتب، والروايات.
بل وهناك دور نشر بكاملها قائمة على السرقة، والسرقة فقط! وزوارها من أولئك (الظلاميِّين) الساعين وراء شهرة سريعة ومالٍ لا مشكلة في اختلاط حلاله بحرامه!
في أحد الأيام دعتْني كاتبة للاجتماع بصاحب دار نشر أراد الالتقاء بعدد من الكتاب في مدينتِنا، وهو القادم مِن العاصمة بدعوة مِن تلك الكاتبة، وهناك فوجئتُ بصاحب دار النشر وقد وضع أمامه مجموعة كبيرة من الكتب الناجحة التي نشرتها دور أخرى، وكان جلُّ همِّه أن يأخذ كل كاتب بعضًا مِن هذه الكتب ويقوم بإعادة كتابتها بصيغة مخالفة لما جاء به كاتبها الأصلي، ومِن ثَمَّ تقليد الرسوم التوضيحية في بعضها، أو تلوينه بشكل مختلف، وتكفَّل هو بإخراج غلاف جديد للكتاب يَحمل اسم المبدع الذي أعاد الصياغة ودار النشر خاصته، وقد توزَّعت الكتب وتمَّت صياغتها وسط دهشتي وعَجزي عن إيجاد ما يوقف هذا العمل.
وقد أصدرتْ بعدها تلك الكاتبة كتابَين استطعنا أن نجد معظم نصوصهما منتشرة على صفحات النت لكُتّاب آخَرين، وعند مواجهتها ادَّعت أنها لا تَعرِف أصول العزو والنقل رغم تخرُّجها في كلية الأدب العربي.
وبعد مدة جاءتني كاتبة جديدة تُذكِّرني برواية عرضتْها عليَّ وعلى تلك الكاتبة يومًا، وتُخبرني بحرقة أنها وجدت روايتها على صفحات روايتَين منشورتين باسم كاتبتنا، وأنها سرقت القصة بالإضافة للصور والتعابير، وعند المقارنة وجدت أن ما قالته حق، وأن الكاتبة التي فعلَت ما فعلَت ونالت بإحدى الروايتين جائزة أدبية، وقد أخبرتُ تلك المفجوعة بحرفها أنني على استعداد للوقوف معها في أَروِقة المحاكم كشاهدة، وأن عليها أن تُباشِر رفع الدعوى ونشر روايتها، ولكن يبدو أن هناك من جعلها تيئس قبل أن تبدأ، وتَستسلِم لمَن سرقتها.
هذا بعض ما يَحدث بين المبدعين أنفسهم، وهناك ما نراه بين الرسّامين والمصوِّرين ومصممي المجوهرات ومصممي الأزياء، ولا ننسى الماركات المقلّدة من كل شيء، وهناك أيضًا سرقات التجار وطالبي المال الذين تتفتَّق أفكارهم بأنواع عجيبة غريبة مِن السرقات والتقليد والنسخ والطباعة المُزوَّرة، وغيرها من أساليب استغلال فكر الآخر دون أدنى شعور بالمسؤولية.
أما هم:
وفي الغرب الأوروبي والأميركي تجد كل إبداع له ثمنه، مهما كان صغيرًا، وتجد تلك القوانين التي تُجرِّم سارقي الأفكار والإبداعات وتُحاكِمهم وتردُّ الحقوق إلى أصحابها، وترى إبداعًا يقوم وينهَض بالبلاد وأهلها، وترى مُبدِعين يُكمِلون الطريق؛ لأن هناك مَن كفاهم هموم السعي وراء حاجياتهم الحياتية ورفع قدرهم ودفعهم لتقديم المزيد.
وهنا قد لا يَحقُّ لنا أن نلوم أهلاً زرعوا في نفوس أولادهم تقديسًا لمِهَن معينة، وازدراءً لكل مهنة تتعلق بالفن والإبداع والكتابة وغيرها، مهما كانت نافعة، ومهما انتفع بها المجتمع؛ بحجة فقر أهلها، وعِوَزهم، وحاجتهم للآخَرين.
دام إبداعكم
- الشعر العربي في تشاد جسر للتواصل العربي الإفريقي(مقالة - حضارة الكلمة)
- في العلاقة الملتبسة بين المبدع والمتلقي(مقالة - حضارة الكلمة)
- شيء من حديث شاعر جازان المبدع محمد السنوسي رحمه الله(مقالة - موقع الشيخ الدكتور عبدالرحمن بن معاضة الشهري)
- متى يكرم المبدع؟!(مقالة - موقع د. زيد بن محمد الرماني)
- فقر المبدع! (قصة قصيرة)(مقالة - حضارة الكلمة)
- الشباب الموهوبون وكيفية توجيههم نحو العملِ المبدع(مقالة - مجتمع وإصلاح)
- تركيا: بيع الأضاحي في "سوق حفصة" للحيوانات الحية(مقالة - المسلمون في العالم)
- البيع بأقل من سعر السوق(مقالة - موقع الشيخ دبيان محمد الدبيان)
- حديث: دعاء السوق(مقالة - آفاق الشريعة)
- سريلانكا: توسعة مسجد السوق بتكلفة 22 مليون روبية(مقالة - المسلمون في العالم)
ترتيب التعليقات 2- حسبنا الله يا أخي
عبير النحاس - سوريا 12-04-2013 07:40 AM
لا حول و لا قوة إلابالله
فعلوها معي أيضا أستاذنا الكريم في مجموعة قصصية رسمتها للأطفال و اعتذرت دار النشر عن إسقاطهم لاسمي بكل برود ..عذرا لقد سقط سهوا
و أرى أن تلوح لهم بالمقاضاة إذا لم يتداركوا الأمر فهناك طرق كثيرة لوضع اسمكم على القصص و منها أن يختم عليها يدويا باسمكم فهذا أقل الحقوق و بينكما عقد
وجب أن يتوحد الكتاب يا قوم ضد هؤلاء الذين يسرقوننا في وضح الشمس مستغلين تهذيبنا و طيبتنا و ترفعنا
و هم حقيقة سر تخلف الفكر في بلادنا
لكم التقدير و أطيب الأمنيات أخي خالد
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Culture/0/52828/#ixzz2QDgj1vK6
ساحة النقاش