بقلم: د.احمد زايد 189
يأتي حديثي في هذا المقال عن المرأة المصرية والثورة علي أصداء الاحتفال باليوم العالمي للمرأة الذي يجسد كفاح المرأة وحضورها الإيجابي في الحياة.
وحقها في الوجود الإنساني والمشاركة الفعالة في صناعة الحياة, وعلي أصداء الاحتفال بعيد الأم, وعلي أصداء تعليقات متميزة قدمها أصدقاء وزملاء علي مقالي السابق حول المرأة المصرية ومجلسها القومي. وإذا كان لنا أن نحتفي بالمرأة المصرية في هذا العام, فإن لنا أن نحتفي بمشاركتها في الثورة المصرية المجيدة. إن حضور الثورة يعني حضور المرأة. فلم تكن هناك ثورة في العالم لم تشهد مشاركة للمرأة.
ويذكرنا التاريخ المصري بأن المرأة كان لها حضور في كل الأحداث الثورية أو المطالب الاحتجاجية. ولن أذكر هنا خروج المصريات للتظاهر دفاعا عن مباديء ثورة 1919, وزعيمها سعد زغلول أو مشاركة المرأة في مساندة ثورة يوليو 1952, بل قد أعود إلي بدايات النهضة المصرية علي يد محمد علي حيث نقرأ هذا النص عن الجبرتي, والذي وصف فيه اعتراض النساء علي قرار محمد علي بتغيير نظام الالتزام, وحضر جمع من النساء إلي الجامع الأزهر... وكان قد اجتمع معهم الكثير من العامة, واستمروا في هرج إلي بعد العصر... وذهب النساء وهن يقلن نأتي في كل يوم علي هذا المنوال حتي يفرجوا لنا عن حصصنا ومعايشنا وأرزاقنا.
لم تحتج المرأة هنا أمام محمد علي (الوالي الغريب عن مصر) وإنما ذهبت إلي مشايخ الأزهر الذين أسهموا في تنصيبه واليا, ولإدراكهن أن قوة الأزهر ورجاله إنما هي القوة الحقيقية التي جاءت بالحاكم, وأن من مسئوليته أن ينصفهن.
إن هذا الوعي الكامن في سلوك النساء هو وعي حضاري بإدراك المصلحة العامة, يتجاوز المصالح الفئوية الضيقه, ويحدد المسارات الصحيحة للتاريخ.
وأحسب أن هذا الوعي قد تجسد بشكل كامل في مشاركة المرأة في ثورة 25 يناير, فلم تكن هذه المشاركة من أجل الدفاع عن قضايا المرأة, بل كانت مشاركة من أجل الدفاع عن قضايا الوطن, من أجل دفع الظلم الذي جثم علي ظهور المصريين فقصمها, ومن أجل البحث عن العدل لا للمرأة فحسب بل لكل المصريين.
ولقد رأينا نماذج نادرة لفتيات ونساء يهتفن بسقوط النظام, ويدافعن عن أفكارهن ومواقفهن, ويخطبن في الجماهير بحماس منقطع النظير, ويساعدن في تقديم الطعام والشراب, ويندفعن لمواجهة من يحاولون اغتصاب الميدان من بين أيدي الثوار.
ومثلما أفرز الميدان قادة من الشباب الذكور فقد أفرز أيضا قادة من النساء يشكلن نخبة نسائية بازغة سوف يكون لها دور بارز في رسم مستقبل الوطن.
إن هذه الأفعال البطولية إن دلت علي شيء فإنما تدل علي أن المرأة المصرية علي اختلاف انتماءاتها وهوياتها لا تختلف عن الرجل في مزاجها النفسي أو استعدادها الثوري, كما أنها يمكن أن تقوم بنفس الأعمال التي يقوم بها الرجل. لقد قدمت المرأة في الميدان نمطا من تقسيم العمل بين الذكور والإناث يختلف عن النمط الشائع. فلم تكن هناك أدوار محددة للذكورة والأنوثة علي غرار ما تقرر الأطر الثقافية الجامدة, بل إن المرأة هنا أثبتت أنها يمكن أن تتبادل الأدوار الاجتماعية مع الرجل وأنها قادرة علي انجاز كل المهام, وكأنها ترسل إلي المجتمع رسالة تقول فيها: ها أنا ذا أستطيع أن أشارك وأقرر وأنجز وأنني لست بهذا الضعف وتلك الاستكانة. لقد تحول الميدان الثوري ـ ميدان التحرير ـ إلي رمز لانصهار البشر, وامتزاج المشاعر, والمشاركة من أجل انجاز غاية واحدة وهدف مشترك. فماذا عسي أن تكون الدلالات الرمزية التي يمكن أن نشتقها من هذه المشاركة!.
من أهم الدلالات أن المرأة تؤكد هنا أن المعني الحقيقي للوجود الإنساني هو المشاركة ليس الاستبعاد. فالوجود الإنساني الحق هو الوجود الذي يحقق فيه كل البشر المشاركين حياة كريمة تقوم علي المساواة والعدل, واتاحة الفرصة أمام البشر المشاركين حياة كريمة تقوم علي المساواة والعدل, واتاحة الفرصة أمام الجميع دون تمييز أو تهميش أو استبعاد. إنه الوجود الذي يشبه هذا الوجود المتحقق في الميدان. ويشتق من هذا منطقيا أن يكون الأمل معقودا علي أن يهجر المجتمع أساليبه القديمة في تهميش المرأة سياسيا واجتماعيا, وأن يهجر صور الممارسات التي يمكن أن تجعل منها كائنا ضعيفا. لقد أثبتت الثورة حضور المرأة في قلب الأحداث مؤثرة فيها, بل وقائدة لها أحيانا فلماذا تحاصرها الثقافة كل هذا الحصار: بدءا من الانتهاك الجسدي في مرحلة الطفولة (الختان) ومرورا بصور التمييز في التعامل والخطاب, وانتهاء بصور التمييز في التعليم والعمل, وسد قنوات المشاركة السياسية أمامها. إن روح الثورة التي شاركت المرأة في تأسيسها لابد وأن تعمل علي تثوير هذه الثقافة, وإحلال ثقافة المساواة التي سادت في أثناء الثورة. وتحتاج عملية التثوير هذه إلي تغيير جذري في أساليب التنشئة الاجتماعية في الأسرة والمدرسة ووسائل الاتصال الجماهيري, وتغير جذري في التصورات النمطية الجامدة التي تسيطر علي تفكيرنا ورؤيتنا للعالم. أقصد بطبيعة الحال التصورات حول دونية المرأة, ونقص عقلها, وقلة حيلتها, وكسر جناحها, وعدم قدرتها علي مواجهة مصاعب الحياة وضرورة خضوعها للرجال... وغير ذلك من التصورات التي تؤكد حلول المرأة في مرتبة أدني علي نحو مطلق.
إن أحد الدروس المهمة التي يجب أن تستخلص من الميدان هو أن المستقبل لا يصنع إلا بثورة علي عقولنا وعلي أنماط تفكيرنا الجامدة, وأننا بحاجة إلي أن نجعل مفهوم المواطن ـ الإنسان هو محور الاهتمام بصرف النظر عن نوعه ودينه وموطنه أو مستواه الاقتصادي. إن استدعاء هذا المفهوم والعمل علي ترسيخه في الضمير الجمعي للأمة عبر الخطاب السياسي والثقافي, وعبر قنوات التنشئة الاجتماعية يؤدي إلي تقليل الانقسامات في الأفكار والرؤي, ويؤدي إلي أن يصطف الجميع ـ رجالا ونساء ـ من أجل مستقبل زاهر لهذا الوطن. كما أن استدعاءه يوقظ في بلدنا قضية حضارية أحسب أن النموذج الحضاري المصري قد قدمها إلي العالم ضمن الكثير مما قدمه, وهي أن النهضة تتحقق علي أسمي ما يكون عندما يصير الكل إلي واحد, وعندما تنعكس الصور المتعددة في صورة واحدة.
وعندما لا يغيب الهدف الواحد في تعددية الأهداف والمرامي. لقد كان هذا النموذج هو النموذج الذي جسدته الثورة في الميدان, وعبرت عنه المرأة خير تعبير, وهذا هو النموذج الذي نأمل أن يسهم في تشكيل المستقبل.
المزيد من مقالات د.احمد زايد
ساحة النقاش