ل تعلم حجم التعب والمعاناة والجهد المبذول، لكى يحصل باحث فى مصر على درجتى الماجستير والدكتوراه؟ يكفى أن أقول لك إن شهادة الماجستير يمكن أن تنالها من أرقى جامعات العالم، فى خلال عام واحد، أو عامين على أكثر تقدير. بينما فى مصر يستغرق منك الأمر ثلاث أو أربع سنوات على الأقل، وقد تمتد إلى أكثر من ذلك! أما شهادة الدكتوراه، التى يمكنك أن تنالها من أعرق الجامعات فى أمريكا أو كندا أو أوروبا أو اليابان فى عامين أو ثلاثة، فتحتاج منك فى مصر إلى أربع أو خمس سنوات على الأقل، وقد تمتد إلى ضعف هذه المدة! وطبعا هذا لا يعنى على الإطلاق المقارنة بين مصر والعالم فى مستوى البحوث العلمية، ولا فى إمكانات البحث العلمى، ولا فى مستويات الابتكار والإبداع.
وبعد هذه المقدمة الضرورية، ننتقل إلى السؤال الصعب: وماذا سيصنع هذا الباحث الدؤوب الذى استقطع من رزقه ووقته وجهده وفكره ما يكفى لنيل هذه الإجازة العلمية؟ الإجابة أنه يجب أن ينضمّ إلى طابور العاطلين، طبعا إذا لم يكن من أبناء أصحاب السلطة والجاه والنفوذ، ومن ثم عليه أن يلتحق فورا بجحافل المسيرات والاحتجاجات والاعتصامات أمام مجلس الوزراء، أو عند وزارة التعليم العالى والبحث العلمى! ثم ماذا؟ بعد طول عناء، قد يتم اللقاء مع رئيس الوزراء والوزير وكبار المسؤولين أيضا. ثم ماذا؟ لا شىء!
هذه المشكلة يمكن أن تنظر إليها كغيرها من المشكلات الفئوية، ويمكنك أيضا أن تراها مشكلة ترتبط بقيمة العلم فى مجتمعنا، ويمكن أن تربطها كذلك بمشروعات التنمية فى الوطن، فمصر الآن فى أشد الحاجة إلى جهود علمائها ومفكريها وباحثيها، والاستفادة من أفكارهم وعلمهم وطاقتهم الخلاّقة لتحقيق التقدم والرقى والنهضة.
وأى من هؤلاء الباحثين، كان يمكن له أن يكون عضوا مرموقا فى هيئة التدريس فى أعرق جامعة مصرية، لو أنه يمتلك فقط واسطة! فقد تم تجريف الوطن خلال العقود الأخيرة، ولم يعد من الممكن أن ينال أى مواطن حقه، أو يصل إلى مكانه الجدير به، دون واسطة تعينه! فهل يمكنك أن تتخيل أن كثيرا من جامعاتنا وكلياتنا ومعاهدنا العلمية ومراكز البحوث والدراسات، يعانى نقصا واضحا، وهى فى أشد الحاجة إلى جهد هؤلاء الباحثين من حاملى درجتى الماجستير والدكتوراه؟!
إذن أين المشكلة؟! المشكلة تكمن فى مجتمع التوريث والفقر والفساد الذى تركه لنا المخلوع وعصابته! فالأساتذة فى الأقسام العلمية المختلفة فى الجامعات والمعاهد والمراكز العلمية، لا يريدون أن ينضمّ إليهم من يشاركونهم فى نصيبهم من «التورتة»! فكل منهم يحارب زملاءه -صراحة- من أجل أن يحصل على أكبر قدر ممكن من الفصول الدراسية، لكى يبيع كتابه لأكبر عدد ممكن من الطلاب، فيحصل من حصيلة بيعه مع الملازم والمذكرات على باقى راتبه (الضئيل) من الجامعة!
لذلك فحين يطلب الوزير المسؤول من الأقسام المختلفة فى الجامعات الحكومية، وغيرها، أن يعلنوا عن الأماكن الشاغرة لديهم، حتى يتيحوا الفرص للاستفادة بجهد زملائهم، تكون الإجابة جاهزة فورا: لا توجد أماكن شاغرة لدينا!
ساحة النقاش