الثورة والتنمية الإنسانية المستقلة‏(1‏ ـ‏2)‏
بقلم : د‏.‏ نادر فرجاني


قد يبدو للبعض أن الحديث عن االتنمية المستقلةب في عصر العولمة المنفلتة والتنظيم الرأسمالي البربري الذي كنا نعيش في ظله يمثل ضربا من التخليط غير المسئول‏,‏ أو علي أفضل تقدير‏,‏ نوعا من الحنين غير العقلاني الي عصر مضي ولن يعود‏.‏

 

ولكن مثل هذا التقييم يقع في خطأين رئيسيين: الأول, اعتبار أن التنمية المستقلة تعني الاكتفاء الذاتي أو الانقطاع عن العالم, وهو ما لم يقل به عاقل.
والخطأ الثاني هو تصور أن إدماج الاقتصادات النامية في السوق العالمية علي النمط الطليق الذي فرضته القوي المهيمنة علي الاقتصاد العالمي, أو مايسمي اتوافق واشنطنب, بترغيب ودعم, أو ضغط وترهيب, من مؤسسات التمويل الدولية متحالفة مع وزارة الخزانة الأمريكية, وبقوة السلاح كما شهدنا مؤخرا في غزو أفغانستان والعراق, وبضلوع من أنظمة الحكم الفاسد القائمة في هذه البلدان, يمكن أن يؤدي الي تنمية حقا, وللحق, فقد مثلت هذه الحقبة انحرافا خطيرا في فهم الحرية في المنظور الليبرالي.
إذ بينت تجربة العقود الثلاثة الماضية أن مثل هذا النمط من التنظيم الاقتصادي قد جر علي العالم, خاصة البلدان النامية, ويلات علي صورة انتشار الفقر والبطالة وتفاقم التفاوت في توزيع الدخل والثروة, علي صعيد العالم ككل, وداخل البلدان, خاصة تلك النامية التي تبنت نظام السوق الطليق دون تأسيس آليات الضبط المجتمعي للأسواق ـ لحماية المنافسة ـ والعدالة التوزيعية, المطلوبين معا لكفاءة نظام السوق لحر وللتقليل من المساويء المجتمعية الحتمية لعمل السوق الحرة من دون هذين الشرطين. حيث يسود إجماع علي أن السوق الطليقة, لا محالة, تكافيء الأقوياء( الأغنياء) وتزيدهم قوة ويعاقب الضعفاء( الفقراء) ويعمق من استضعافهم. وهذا هو مايسمي فشل السوق الطليقة الذي يمكن تفاديه من خلال ضبط الدولة للأسواق وقيامها بوظيفة العدالة التوزيعية في المجتمع عبر استخدام آلية الضرائب لتمويل تقديم الخدمات العامة, أساسا التعليم والرعاية الصحية, وشبكات الأمن الاجتماعي حتي لا يزداد الفقراء فقرا بينما يغتني الأغنياء أكثر.
وفي مشروع للنهضة في مصر يمكن صوغ مفهوم للتنمية المستقلة يتسق مع روح العصر من جانب, ويحقق للبلد, ولجميع المصريين, نهاية, العزة والمنعة, من جانب آخر.
المبدأ الناظم الأساس لفكرة التنمية المستقلة هو تحرير القرار التنموي( شاملا تحديد غايات التنمية وتعيين وسائلها) من السيطرة الأجنبية, سواء كانت مباشرة أو غير مباشرة, بما في ذلك سطوة عملاء القوي الأجنبية المتنفذين في هيكل القوة حاليا ـ دون أن يعني ذلك الانقطاع عن أفضل منجزات البشرية في العالم المعاصر.
ويتطلب ذلك التوجه تعبئة إمكانات الأمة, وتوظيفها بأقصي كفاءة ممكنة, مسخرة لصالح أبنائها ورفعة الوطن في المقام الأول.
وفي ظل نسق من الحكم الصالح الممثل للناس عامة والخاضع للمساءلة الفعالة أمامهم, يصبح رفاه عامة الناس هو الهدف الأعلي للتنمية المستقلة والموجه الأهم لاتخاذ القرار, مما يؤدي الي إنهاء مسيرة الإفقار الشعبي التي قام عليها نظام حكم الانحطاط/ الهوان السابق.
مثل هذه التنمية المستقلة تحقق للأمة الكرامة والعزة, وتضمن لجهد التنمية الدوام, مفعم بالحرص علي مصالح الأجيال القادمة.
بإيجاز تضمن التنمية المستقلة حرية الوطن وحرية المواطن في آن.
والمبدأ الناظم الثاني لمفهوم التنمية المستقلة في بدايات الألفية الثالثة, هو اعتماد مفهوم للرفاه الإنساني يتجاوز التعريفات الضيقة المقتصرة علي الوفاء بالحاجات المادية للبشر, ناهيك عن الحصول علي دخل مناسب, الي التمتع بالمكونات المعنوية للتنعم الإنساني مثل الحرية والمعرفة والجمال. ما نريد إذن هو تنمية إنسانية, عمادا لنهضة إنسانية في عموم مصر.
ونظرا للأهمية المحورية لمسألة الحرية, وتداعياتها, نتوقف عندها قليلا. نتبني هنا تعريفا شاملا للحرية, يمتد من حرية الوطن الي حرية المواطن, ويكافيء التنمية الانسانية, وهي تتطلب بالضرورة نسقا من الحكم الصالح الذي يضمن صيانتها وتوسع نطاقها. ونذكر هنا فقط بأن نسق الحكم الصالح هذا يضمن, من خلال حماية الحرية بمفهومها الشامل, العدل الاجتماعي عبر صيانة الكرامة الإنسانية للجميع, كما يصون حقوق المواطنة غير منقوصة لجميع المواطنين دون أي تفرقة. ويضمن, علي وجه الخصوص, التداول السلمي للسلطة السياسية احتراما لمطلب الحكم الصالح.
ومن حيث التنظيم المجتمعي, يقوم مجتمع الحرية والحكم الصالح علي تضافر قطاعات ثلاثة: الدولة, شاملة السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية, وقطاع الاعمال, بشقيه العام والخاص, والمجتمع المدني, بالتعريف الواسع الذي يضم جميع الأشكال المؤسسية في المجال العام, المستقل عن سلطة الدولة, التي ينتظم فيها أفراد المجتمع كمواطنين ساعين الي الصالح العام دونما استهداف للربح أو المنفعة الشخصية. ويتعين أن تخضع القطاعات الثلاثة لمعايير الحكم الصالح من اتساع التمثيل والشفافية والإفصاح والمساءلة من قبل الناس عامة.
وفي مشروع للنهضة في الوطن العربي يتعين بسط الحكم الصالح علي الصعيدين القطري والقومي كليهما, بما يمكن أن يساهم أيضا في إصلاح الحكم علي الصعيد العالمي.
المبدأ الناظم الثالث لمفهوم التنمية المستقلة يتمحور حول أن مصدر القيمة في العالم المعاصر قد أضحي إنتاج المعرفة, وليس ركام الموارد الأولية, أو الأرصدة المالية, أو حتي حجم الناتج الإجمالي, بالتقويمات التقليدية في نظم الحسابات القومية. ومن ثم, فإن مضمون التنمية الجدير بالاعتبار في هذه الحقبة من تطور البشرية هو إقامة مجتمعات المعرفة. أي تلك المجتمعات التي تنتظم جميع صنوف النشاط البشري فيها حول اكتساب المعرفة وتوظيفها بكفاءة, وتقدم مساهمة فعالة في تقدم البشرية جمعاء من خلال إنتاجها للمعرفة. ومن ثم وجب أن يعتمد مضمون التنمية المستقلة في مصر جوهريا علي محور إقامة مجتمع المعرفة.
المبدأ الناظم الرابع للتنمية المستقلة في مصر هو إنشاء نسق مؤسسي للتعاون العربي يتوجه نحو التكامل وصولا الي قيام منطقة مواطنة حرة عربية يتمتع فيها المواطن العربي بحقوق المواطنة, غير منقوصة, في أي من وكل البلدان العربية, يساندها نسق حكم صالح علي الصعيد القومي.
فأي بلد عربي, مهما كبر في منظور أو آخر, ليس إلا قزما في المعترك العالمي, الذي تسعي فيه حتي القوي الأكبر للتكامل في تجمعات أضخم. وليس هوان الأمة في معارك التحرر الوطني إلا تعبيرا جليا عن تقدم أي من الدول العربية في المعترك الإقليمي والعالمي. ولا سبيل للتغلب علي هذا التقزم إلا بالاتحاد الذي مافتئت أنظمة الحكم الراهنة تتهرب منه وتناور للالتفاف حوله, حرصا علي مصالح ثلل الحكم الضيقة.
وعندنا أن القصور التنموي في البلدان العربية يعود, بقدر كبير, الي هذا التشرذم, الذي يجعل أي تنمية حق, ناهيك عن أن تكون مستقلة, عصية. فقد كانت نتيجة محاولة التنمية المنفردة والمندمجة في الاقتصاد العالمي تحت نمط السوق الطليقة, هي ضعف النمو الاقتصادي وانتشار الفقر والبطالة, وتفاقم سوء توزيع الدخل والثروة, واستشراء الفساد, وتردي اكتساب المعرفة, واغتيال الحرية, علي أصعدة الفرد والمجتمع والوطن بكامله, وخلل الحكم, عبر آليتي الاستبداد والفساد في الداخل, والاستباحة من الخارج.
والمبدأ الناظم الخامس للتنمية المستقلة هو الانفتاح الإيجابي علي العالم المعاصر بغرض الاستفادة من أفضل منجزات البشرية من منطلق التحرر الوطني وتقرير المصير, بما ينهي استباحة الأمة من خارجها, ولكن دون انقطاع أو معاداة معممة أساسها الرعب من الخارج الذي يتغذي علي الجهل به. والمقصود هنا هو الانفتاح علي البشرية جمعاء, أينما يمكن أن نجد زادا لمشروع النهضة العربي, وليس الغرب وحده, وليس الولايات المتحدة فقط داخل الغرب. وينفي هذا المبدأ الناظم عن التنمية المستقلة شبهة الانكفاء علي الذات أو الانقطاع عن مسيرة البشرية التقدمية.

azazystudy

مع أطيب الأمنيات بالتوفيق الدكتورة/سلوى عزازي

  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
5 تصويتات / 116 مشاهدة
نشرت فى 2 مايو 2011 بواسطة azazystudy

ساحة النقاش

الدكتورة/سلوى محمد أحمد عزازي

azazystudy
دكتوراة مناهج وطرق تدريس لغة عربية محاضر بالأكاديمية المهنية للمعلمين، وعضوالجمعية المصرية للمعلمين حملة الماجستير والدكتوراة »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

4,686,237