الفهم بين الإغفال والإهمال والمبالغة والتطرف‏2‏ ـــ‏2‏
بقلم: رجائى عطية


لا يملك أي منا أن يزعم ـ بأي سند ـ أن له حقا في أن يسلك سلوكا فوضويا عشوائيا بما يهوي ويشتهي‏,‏ في حياته أو حياة غيره‏,‏ لأن كل حياة فينا وفي غيرنا ـ رضينا أم سخطنا ـ خاضعة لضوابط ونواميس كونية ليست من وضع البشر‏..‏ والإنسان يستخلص معرفته بهذه الضوابط والنواميس بالاستعانة ـ عادة ـ بعقله وفطنته حسب مرحلة تطوره‏.

 

وأن ما نشاهده الان في أنفسنا‏,‏ وما كان يشاهده من ذلك من سبقونا في هذه الدنيا لدهور طويلة‏,‏ فراغ عميق واسع غطاه ويغطيه غموض كثيف جدا‏..‏ لا يكاد الآدمي أن يتنبه علي وجه جاد دائم إلي ذلك الواقع‏..‏ لأنه إنما يلتفت ـ كما فعل آباؤه من قبله ـ إلي ما تسوقه إليه وتطلبه منه أهواؤه التي أسلمها عقله وفطنته لخدمتها وقضاء أوطارها‏..‏ كأن هذا الكون قد استغني بذاته عن مشيئة وتدبير الخالق الحكيم الذي خلقه ودبر أموره بتلك الضوابط والنواميس التي تحكم سير ذراته كما تحكم سير أرواحه وأنفسه‏..‏ وكأن البشر هم سادة حياتهم وأسياد الكون بأسره‏.‏
هذا الحلم الناشب ومن قبل لدي معظمنا‏,‏ مغرق في الخيال والغرور‏..‏ والإفاقة من هذا الحلم ليست بعيدة‏,‏ ولكنه حلم شديد الإزعاج وقد يؤدي بغروره وسقم خياله إلي استئصال النوع الإنساني كله‏.‏ فوجود النوع لا يتوقف علي طول الأعمار‏,‏ وإنما يتوقف علي انتظام توالي الأجيال ولياقة كل جيل للتعامل مع الأحوال والظروف التي تأتي بها العصور الكونية التي تتعاقب علي جميع الأحياء منذ أقدم القديم إلي أبعد البعيد من الزمن المستقبل بغير انقطاع‏.‏
ثم يستحيل أن يكون توالي الأجيال أو تعاقبها ـ مجرد تكرار أو ترديد أو اهتزاز لا تفارق به حياة الأحياء وضعا معينا‏..‏ لأنه بلا شك حركة كونية دائبة لا تنقطع‏..‏ فيها أمواج التغيير والتبديل إلي الأمام وإلي الوراء‏..‏ تسوقها في طريقها قوي التجمع والتحلل‏..‏ وهذه لا تتوقف‏..‏ لأن في توقفها انقضاء وانتهاء الحياة‏!‏
وما يبدو من تعاقب الأجيال ليس إلا امتدادا حتي يتضح ويتهيأ الجديد المغاير الذي يحل محل السابق‏..‏ وهكذا إلي غير نهاية يعرفها عالمنا‏..‏ وما نتصوره أو نتمناه من ثبات حياتنا واستقرارها لنا ولذريتنا ـ هو مجرد شوق دفين فينا للأمان والاطمئنان‏..‏ ولكنه قليل الفائدة‏..‏ وبديله النافع المجدي هو التفاتنا الخاص التام وحشد قوانا اليقظة العاقلة الي العناية بالوضع المستقبل لنا ولهم من بعدنا‏..‏ لتجنيبنا وإياهم أن نصير فريسة لقوي التحلل والتمزق التي لا تفارق حركة الحياة فينا وفي سائر الأحياء‏!‏
إن مصدقاتنا تنفعنا بيقين حال تمسكنا بالفطنة والعقل‏,‏ ولكنها فادحة الخطر بالغة الأذي إذا انفردت واستبدت بنا‏..‏ لأنها إذا ذاك تسوقنا ـ ونحن لا تدري في غمار عالم قديم سابق عليها‏..‏ لا يتقيد بها ولا يأبه لها‏..‏ وقد توردنا هي موارد الهلاك المادي فضلا عن التخلف وما يلازمه من الهوان‏!!‏
نعود فنقول‏:‏ إن الإغفال أو المبالغة يأتي ضمن ألفاظ كلية مجردة‏..‏ لا تصف شيئا حقيقيا معينا تنطبق عليه أو ينطبق عليها‏..‏ فقد تحوي حكما في حق آدمي آخر في معرض التقدير أو التحقير‏,‏ وتفترض ثبات معالمه الداخلية استنتاجا من معالم حياته الخارجية‏..‏ كما تستعمل قيما تتعلق بالمعتقدات والمصدقات لتصنيف الأتباع فيها‏.‏ وتعتبر المغالاة إمعانا في التقرب وأدني إلي الولاية والفراسة ولو كانت مغالاة في العبادات والطقوس المادية‏.‏ وهذا يبتعد كل البعد بالآدمي عن المواظبة علي الالتفات الداخلي التام للمعبود الذي هو لب الديانة‏..‏ لأن الديانة اعتياد وشوق وقلق ورجاء ويأس ويقين وشك وسرور وحزن في صلة داخلية للآدمي بمعبوده عز وجل لا يمكن ان يراها غيره‏,‏ مع تقبله لأحداث الوجود واعترافه وامتنانه الذي ليس له حد بما منح من نعم لا آخر لها بلا مقابل ولا استحقاق‏,‏ وهذا كله بعيد بعيد‏..‏ لا شأن له بحركات اللسان وحركات الجسم واستحسان الخلق أو تحنانهم وإجلالهم وتقديسهم لما لم يمكنهم أن يشهدوه ويعرفوه‏!!‏
علي أن ردود أفعال الناس‏,‏ في هذا المجال ليس لها معني ديني‏,‏ وحرص الآدمي عليها محض غرض بشري صرف متجه منه إلي البشر وحدهم‏..‏ خال من المعني الديني‏!‏
هذا لأن أبعاد وأحكام الزمان والمكان ـ مخلوقة‏..‏ هي ككل مخلوق‏,‏ من المحال أن تعوق خالقها جل وعلا‏..‏ سبحانه إذا قضي أمرا فإنه يقول له كن فيكون‏..‏ وصلاته عز وجل بمخلوقاته جميعا صلات مباشرة وفورية محكومة بهذه الإرادة الإلهية العلوية‏..‏ تنفذ بأمره سبحانه وإرادته‏,‏ لا يعوقها عائق يرجع للصغر أو الكبر أو المسافة أو الماضي أو المستقبل أو القبل أو البعد‏..‏ تتعلق وتنفذ مباشرة بالمشيئة الإلهية‏..‏ وفي القرآن المجيد يقول رب العزة‏:‏ أو ليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر علي أن يخلق مثلهم بلي وهو الخلاق العليم‏,‏ إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون‏,‏ فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون‏(‏ يس‏81‏ ـ‏83).‏
هذا وتوجد بلا شك رابطة وثيقة جدا بين عقل الإنسان وبين هذا الكون‏,‏ ولكن أغلبية الخلق لا تزال مترددة محجمة عن استعمال عقولها في الولوج والارتواء بما هو واقع معقول نسبي قابل باستمرار للتصحيح‏..‏ يقترن ترددها بالطمع في مطلق خيالي يقود الي انقراض‏.‏ إذ لا تريد أغلبية الخلق التسليم بنسبية العقل البشري وأنه يوجد بعد عدم‏..‏ ضئيلا ثم ينمو ويكبر ثم يتقلص ويشيخ ويتدهور‏.‏ وهكذا أيضا حال عقليات الجماعات‏.‏ ويبعد ان تستعيد جماعة شباب عقلها بعد شيخوخة وتدهور ـ ما لم تنس ما درجت عليه واعتادته في السالف‏,‏ واستخلصت نفسها بحيث يمكنها أن تزدري وتخالف تفكيرها السابق ومصدقاتها القديمة‏!!‏
والتاريخ الفكري للبشر‏,‏ وتراث الماضين بكل أنواعه‏,‏ ليس إلا قصة ماض خلا وذهب بخيره وشره‏..‏ ويستحيل استرداده واتخاذه سجنا لحبس عقول الناس وعقليات جماعاتهم‏,‏ وإلغاء ما في فطرتهم من القدرة الهائلة علي تطوير العقول والعقليات‏.‏ ونعود فنذكر بأن هذه الثورة الحضارية الهائلة تدين بالكثير لنسبيتها واستعدادها للمراجعة أو التصحيح الذي لا ينقطع مهما طغي الجمود والانغلاق‏,‏ وبأن هذه النسبية التي أنعم بها الخالق عز وجل علي الآدميين ـ جعلت كل ما وصلوا ويصلون اليه موضوعا دائما للمراجعة والتصحيح اللذين يلازمانها‏..‏ تجاوبا واستثمارا لنعمة العقل التي منحوها‏!‏
تفرط المجتمعات‏,‏ وكذلك الأفراد في شيء ثمين جدا‏,‏ حين تهمل العقل وتدير ظهرها لها‏..‏ ولم يكن الإغفال والإهمال‏,‏ وكذلك المبالغة والتطرف‏,‏ إلا ناتج غياب العقل ومعه الاتزان‏.‏ تعرف المجتمعات وأفرادها طريقهم حين يكون العقل هاديهم ومنارهم‏,‏ وحين تسلس إليه قيادها ومقاليدها‏,‏ وتحتكم اليه وتسترشد به في معالجة حاضرها واستشراف ورسم مستقبلها‏.‏

 

المزيد من مقالات رجائى عطية
azazystudy

مع أطيب الأمنيات بالتوفيق الدكتورة/سلوى عزازي

  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
5 تصويتات / 135 مشاهدة
نشرت فى 17 مارس 2011 بواسطة azazystudy

ساحة النقاش

الدكتورة/سلوى محمد أحمد عزازي

azazystudy
دكتوراة مناهج وطرق تدريس لغة عربية محاضر بالأكاديمية المهنية للمعلمين، وعضوالجمعية المصرية للمعلمين حملة الماجستير والدكتوراة »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

4,795,446