بلد الأفيون .. اجتذبني عنوان الكتاب. فأخذته من مكتبة أبي. كنت طفلاً. فلم أدرك تفاصيل الأشياء. لكن الحزن هو المعني الكلي الذي داخلني وأنا اقرأ الكتاب الذي ترجمه عادل كامل وأحمد زكي مخلوف "الأديبان الكبيران فيما بعد" يعرض لمأساة شعب قتله الأفيون!
ثم توالت الأعوام منذ صدور الكتاب في 1945. إلي أيامنا الحالية. وشهدت الصين تحولات مهمة. مثلت انقطاعاً بين ما كانت عليه. وما هي عليه الآن. شهدت الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية حرباً أهلية بين القوات الحكومية بقيادة شين كان تشك وقوات الحزب الشيوعي بقيادة ماو تسي تونج. وانتهت الحرب بهزيمة قوات كان تشك. وفرار قائدها إلي جزيرة صينية هي تايبيه. حيث أقام دولة سماها الصين الوطنية.
مرت الصين منذ 1949 ــ سنة إعلان جمهورية الصين الشعبية ــ بتغيرات أملاها تصور ماو تسي تونج ورفاقه أن بلادهم ستظل زراعية. ومن ثم فقد تركزت رؤاه علي الفلاحين. وليس علي العمال كما في الاتحاد السوفيتي وبلدان شرق أوروبا. وكان تشكيل المزارع الجماعية في 1955 خطوة إلي الوراء. حيث انخفض الانتاج في السنوات التالية إلي 40% كما بلغ العجز في الغذاء مستويات قياسية.
وقرر ماو أن يكون التصنيع هو الحل البديل. والحاسم. لانقاذ الصين من التوقعات المؤلمة. لكن التفكير لم يقترن بالفعل. وحلت بالبلاد مجاعات مات بتأثيرها في الفترة من 1959 إلي 1962 ما يقرب من 40 مليون نسمة. وشهدت الصين أحداثاً مماثلة لما أورده المقريزي في كتاباته عن التاريخ المصري في القرون الوسطي. فقد أكل الناس الحشرات والجيف. وأقدموا علي جعل البشر طعاماً. وبادت ــ من شدة الجوع ــ قري ومدن بأكملها.
الغريب أن تلك المجاعات لم تكن وليدة عجز في الانتاج الزراعي. لكن ذلك ما فرضه سوء التوزيع. حيث امتلأت مخازن الجيش بالغلال وعملت الدولة علي تصدير القمح. بينما المجاعة تفتك بالملايين من الفقراء.
وبعد رحيل ماو تولي هيساو دنج قيادة البلاد. وكانت تلك فرصة طال انتظاره لها طيلة العهد الماوي. حتي أنه دخل السجن. وعزل من وظيفته ونقل إلي وظيفة صغيرة. لكنه لم يفقد الأمل في الصين الحديثة.
خبرات وطنية
تقول نكتة هندية إن دنج كان مشغولاً بقراءة صحيفة في سيارته.
سأله السائق : إلي اليمين أم إلي اليسار؟
قال دنج : لا مشكلة. أشر إلي اليسار. واتجه إلي اليمين.
والمعني مجازي. يشي بأن ما أعده الرجل يختلف تماماً عن السياسة الاقتصادية. الصينية كما خلفها منشئ الصين الحديثة ماوتسي تونج.
واستطاع دنج ــ بالإفادة من خبرات وطنية ــ أن يجري تبديلاً علي هيكلية الاقتصاد. وزاد دخل الفلاحين ما بين 1978 و1984. بنسبة 15% وإن ظل الفقر مسيطراً بصورة عامة.
وكانت الخطوة الحاسمة لعملية التحول الاقتصادي. حين بدأت الصين ــ في 1978 ــ في ربط اقتصادها بالاقتصاد العالمي. وتنقل دنج بين العديد من الدول الآسيوية للتعرف إلي تجاربها. وتبع زياراته إيفاد المئات من الكوادر الصينية لدراسة صورة الصين بعد التحديث.
شجعت الدولة الشركات الأجنبية علي استثمار أموالها في البلاد. واجتذبت ــ بالفعل ــ أكثر من 600 مليار دولار لصالح المشروعات الصينية. وهو مبلغ يتضاءل أمامه ــ كما يقول الخبراء ــ كل المبالغ التي أنفقتها الولايات المتحدة علي مشروع مارشال الذي استهدفت به واشنطن مساعدة أوروبا علي مجاوزة أوضاع ما بعد الحرب العالمية الثانية. كما أفادت الصين من وفرة الأيدي العاملة في استحداث حركة تصنيع هائلة. قوامها الرصيد البشري الضخم. المتمثل في الملايين من الأيدي العاملة الرخيصة. بما يعوض تكلفة التكنولوجيا الباهظة في البداية. ثم ــ فيما بعد ــ بالاعتماد علي الأيدي العاملة المدربة علي أحدث التقنيات. لتصبح الصين ثاني أكبر دولة اقتصادياً. بعد الولايات المتحدة. وتخلف اليابان وراءها.
ثورة صامتة
وكما تقول روبين ميرديث في كتابها "الفيل والتنين". بترجمة ممتازة لشوقي جلال: لقد كانت الثورة الاقتصادية ثورة صامتة. صرخة داخل قاعة مانعة للصوت. تصاعد الرخاء لشعب تعداده أكثر من مليار. وجاء عصر شهد. تدريجياً وإدارياً ــ والقول لروبين ميرديث ــ أكبر انتعاش عرفه كوكب الأرض لمشروعات الأعمال.
وبالأرقام. فقد كانت الصين في سنة 2000 تصدر 20% من لعب الأطفال في العالم. وقفزت النسبة إلي 75% بعد خمس سنوات. وفي صناعة الأحذية تنتج الصين الآن زوجا من بين كل ثلاثة أزواج أحذية تنتجها مصانع العالم. وقد لاحظت شخصياً أن صادرات الصين من الأحذية في أسواق القاهرة تتجه إلي كل مستويات الدخول.. ثمة حذاء لا يجاوز ثمنه آحاد الأرقام. وحذاء آخر يبلغ المئات!
ولا أحد الآن. لا أحد. ولو من حيث انخفاض السعر ــ يقوي علي منافسة صادرات الصين في صناعة الاتصالات والأجهزة الكهربائية والسيارات والدراجات البخارية والملابس وأدوات الزينة.. كل شئ تقريباً. وجملة ما تصدره الصين الآن في يوم واحد يفوق ما كانت تصدره في عام كامل. قبل عام 1978. وعندما بدأت الصين انفتاحاً اقتصادياً حقيقياً. وليس انفتاح السداح مداح الذي عانت مصر ويلاته علي مدي سنوات طويلة.
لقد تجاوز غالبية أبناء الصين خط الفقر. وذاقت قطاعات كثيرة طعم الثراء. وعرفت الأرقام المليونية. بل والمليارية. أرصدة كبار الاقتصاديين الصينيين. ونشأت طبقة جديدة قوامها أكثر من 320 ألف مليونير. تتركز أنشطتهم في صناعة السيارات والسلع الترفيهية.
ولا يخلو من دلالة قول أحد المسئولين الصينيين: إن شباب الجامعات في بكين يعرفون أن مرتباً قدره 15 ألف دولار في السنة. في الصين. يتجاوز من حيث قيمته راتباً قدره 45 ألف دولار في الولايات المتحدة. إنهم لا يريدون الآن الانتقال إلي الولايات المتحدة أو إلي أي مكان آخر. لأنهم الآن يملكون فرصاً كثيرة داخل الصين.
وظني أن ذلك هو ما سيكون تصرف الشباب المصري إذا صارت بلاده في الصورة التي يريدها.
فرز متأخر!
بلغ انتشار الاقتصاد الصيني حد النكتة. مئات النكات تتناول باعة المنتجات الصينية في الوطن العربي. وربما في أنحاء العالم. وبالطبع فإن تلك النكات نابعة من الوجود اللافت لأبناء الصين في المجتمع المصري. غالبية الصادرات منتجات صينية. حتي السلع البسيطة والتافهة. لا يكتفي الباعة الصينيون بحمل البضائع علي ظهورهم. وطرق أبواب البيوت. إنما وسعوا من أنشطتهم إلي حد احتراف الحلاقة. وإجراء عمليات الختان. والزواج من شبان مصريين يعانون ظروفاً اقتصادية.. والأرقام تتحدث عن مائة ألف بائع صيني في القاهرة. وحدها بالإضافة إلي آلاف اخترقوا عمق الريف المصري. في الوجه البحري والصعيد. باعوا سلعهم. وأقاموا علاقات. وصاروا ــ علي نحو ما ــ جزءاً من البيئة.
يضيف إلي سلبية الصورة أن بعض المستوردين المصريين يحرصون علي المستويات الأدني من البضائع الصينية. أو الفرز المتأخر بلغة التجارة. وتجد تلك البضائع رواجاً هائلاً في السوق المصرية. انطلاقاً من انخفاض أسعارها ــ بصرف النظر عن رداءة المستوي ــ قياساً إلي الصناعات المصرية. وبلغ الأمر حد استئجار مجموعات من الصينيين شققاً في الضواحي ــ جعلوها في الخفاء ــ مصانع للملابس الجاهزة. تحمل عبارة صنع في الصين.
وامتدت محاولات الصينيين لتقليد الحرف اليدوية المصرية بصنع آثار مقلدة زهيدة الثمن. الصناعات المصرية كالحفر علي الخشب. والأرابيسك. وتطعيم الخشب بالصدف. تتميز بأنها من صنع أيد مدربة. وتتقن عملها. وتقدمها باعتبارها فناً عربياً. أما الصناعات الصينية فتقتصر علي التقليد بواسطة الآلة التي تخلو من حرفية الصانع الماهر. حتي الذهب صار مقلداً. وأكدت تحليلات أن البضائع الصينية تهدد بانقراض صناعات خان الخليلي في مصر. لأنها تحسن تقليدها. وإن ظلت منخفضة الجودة. وتصدرها بأسعار تقل كثيراً عن أسعار المنتجات المصرية. وللأسف فإن الكثير من محال خان الخليلي تكتفي بعرض المنتجات المصرية المقلدة الواردة من الصين.
الطريف أن وكالة الأنباء الصينية الرسمية أجرت تحقيقاً توجهت به إلي مواطنين مصريين. يسأل : كيف تصبح حياة أسرتك في حالة عدم وجود البضائع الصينية في مصر؟
وبالطبع. فإن اللجوء إلي الوسائل التي يتبعها مصدرون صينيون خطأ لا أتصور أن الصناعة المصرية تقدم عليه.
نحن مطالبون بأن نأخذ عن التجربة الاقتصادية الصينية إيجابياتها. وأن نهمل ــ في المقابل ــ ما أفرزته من سلبيات. ولدينا العقليات العلمية. والأيدي العاملة المدربة. والموارد الطبيعية والبيئة الصالحة.
إن تأمل التجربة الصينية يفرض الأمل في أن تكون إيجابيات ما حدث هي صورة مصر المستقبل. بالإضافة إلي رفض القمع. ووأد الفساد الذي أخذ في الصين شكل الظاهرة. وتأكيد الحرية الجمعية والفردية التي تعد في مقدمة أهداف التحرك الشبابي في ثورة 25 يناير.
ساحة النقاش