بقلم: د. علاء عبدالهادى
أشرنا في مقال سابق الي أن الجيل بعامة هو مفهوم يفرض وجوده الثقافي والمجتمعي من خلال علاقة بالحركة, والتغير, ذلك لأن إطلاق هذا اللفظ علي حقبة زمنية ما يبدأ دائما علي المستوي الكيفي,
من خلال طليعة, لها حراكها المختلف في المجال الذي خرجت منه, ولها اتجاهها الجمالي الجديد, واجتهادها المعرفي المتميز.
ويمكننا القول إن أي حدث, لا يمكنه أن يكون حدثا ذا دلالة تاريخية, إلا إذا نجح في احتلال موقع جديد من خلال نجاحه في إزاحة سلسلة من الأحداث السابقة عليه, كما يذهب الي ذلك المفكر الفرنسي بيير بورديو0391 ـ2002. والمجال الأدبي ليس استثناء هنا, ذلك لأن ما يحدد ظهور جيل أدبي جديد هو موقفه النقدي من ثوابت جمالية وأدبية قارة تبنتها أجيال سبقته, هذا فضلا عن قدرته علي طرح البدائل علي مستوي الشكل والمضمون تنظيرا وممارسة. وغالبا ما يبدأ هذا الحراك من مجموعة صغيرة من المبدعين, كان لها استشراف جمالي جديد, ينتشر تدريجيا, ليعبر بمرور الوقت عن جيل كامل, ذلك لأن ظهور قيمة فنية جديدة ليس ظهورا مفهوميا, مجردا من منشئيه, بل إن هذا الاستشراف أو التشوف الجمالي لا يظهر إلا في أعمال أدباء علي قدر هائل من الموهبة, كانوا قادرين علي التعبير عن وعي جمالي جديد في زمانهم, وفي هذا دليل علي أنه من البديهي ألايرتبط هذا الوعي بتأثيرات فاعلة تجلت في نصوص كل أفراد هذا الجيل. وكنا قد أشرنا في مقالنا السابق الي شعراء الاختلاف من جيل السبعينيات الشعري, الذين قاموا مع زملائهم من روائيين ومسرحيين, وكتاب قصة, وتشكيليين, بطرح جماليات جديدة في أدبهم وأعمالهم, وكانت نصوصهم فارقة علي المستويين الإبداعي والفني.
لم يضع شعراء الاختلاف في جيل السبعينيات العربي الممتد اللون الأبيض أمام الأسود, بل أخذ وعيهم الجمالي يهتم تدريجيا بالمساحات الهجينة, فاحتفوا بالرمادي, هربا من بنية الثنائيات التي تحكمت طويلا في وعينا النقدي, ظهر ذلك في أعمال شعراء مصريين وعرب, عرضوا حيرتهم بنبل إبداعي, وطرحوا أسئلتهم الشعرية الجمالية دون أن يجلسوا علي كرسي التوجيه والنصح والإرشاد والتهذيب والتعليم والتحية والشجب, الي آخر الأغراض التي كانت سائدة آنذاك في الشعر المصري, بل إنهم حاولوا التخلص من الشاعر المعلم, أو النبي, أو صاحب الدعوي والأيديولوجيا والرسالة, فنما أدبهم إشكاليا, متحررا قدر إمكانه من سيطرة التاريخ الأدبي السابق عليه, وقضاياه المستهلكة.
ومع ذلك, ومن خلال نظرة موضوعية الي منجز هذا الجيل الشعري بعامة, لم يكن لما يسمي حركة السبعينيات الشعرية في مصر آنذاك ما ينسب إليها من تأثير, كما أشاع ذلك مجموعة من النقاد, علي نحو خاطيء, ذلك لأن التأثير الحقيقي جاء متفرقا بعد ذلك بكثير, في حقبتي الثمانينيات والتسعينيات. ويمكننا هنا أن ننسب تأثير السبعينيين في المحيط الشعري العربي الي جهد أفراد أو نصوص, أكثر من انتساب هذا التأثير الي تيار عريض له بيان أدبي أو جمالي واضح, فقد جاء تنظير هذا الجيل لنصوصه الشعرية والروائية إذا ما تتبعنا النشاط التنظيري, الذي صاحبه آنذاك, من خارجه, بل عجزت نصوص هذا التيار الشعرية أن تحقق حينها جزءا كبير ا مما ادعته في ذلك الوقت من جماليات أو رؤي أو ريادة, وكان جزء كبير من التنظير في ذلك الحين عاجزا عن التعبير عن نصوص السبعينيات في تلك المرحلة, لأنه جاء من خارجها, وظل صدي لقراءات تنظيرية من هنا وهناك ربما أشدها وطأة علي الخطاب النقدي المرتبط بقصيدة النثر العربية هو ما تم انتحاله تنظيرا من كتاب سوزان برنار, في مصر ولبنان.
في هذه الحقبة زادت مساحات الاهتمام بالوافد الجديد علي الشعر العربي, كان هذا الوافد هو قصيدة النثر, فبعد تجديد جيل الخمسينيات العربي بعامة, وتأثيراته علي الشعر المصري خروجا من أسر القالب الشعري العمودي, واقتراحاته الجمالية الجديدة التي عبرت عنها نصوص صلاح عبدالصبور وآخرين, جاءت النقلة الثانية التي مثلت تجديدا في أفق الشعرية العربية علي يد قصيدة النثر التي تبناها في بداياتها القارة شعراء ستينيون عرب مثل الماغوط, وأدونيس, وأنسي الحاج, وغيرهم, ثم ازدهرت بعد ذلك في سمات عربية أصيلة علي يد شعراء عرب ومصريين من جيل السبعينيات, وامتداده الطبيعي, الذي أطلق عليه سبعينيات الوسط.
ومع ذلك, لاتزال قصيدة النثر في مجمل طرحها, مثلها في ذلك مثل قصيدتي التفعيلة والعمود السائدتين في المشهد الشعري العربي, تتعامل مع الموضوع الشعري, لو صحت هذا التسمية, من موقف مثالي, يتهم الواقع, ولا يجاوزه, وربما يعبر عنه بصورته الخام, وكأن علاقة الكلمات بالأشياء تحتاج الي واقعية جديدة! فشابهت قصيدة النثر في ذلك النماذج السيئة من قصيدة التفعيلة, وهذا ما أوقع معظم نصوص قصيدة النثر في سذاجة واقعية, لا تختلف جذريا عن المحاكاة القديمة إلا عبر آليات الإنتاج, أو الشكل فحسب, دون أن تمس مجمل الرؤية الشعرية, فالمحاكاة القديمة اعتمدت التشبيه بنسبة كبيرة, ثم الاستعارة التي نقلتها من عالم المرجع الي العوالم الممكنة التي أنتجتها, ليعيدها المتلقي الباحث عن المعني المطمئن ثانية الي عالمه المعيش, أي أن التطور الشعري الحادث عبر اشتغال الاستعارة الكثيف في النصوص الحديثة كانت نتيجته خلق مسافة كبيرة بين العالم الشعري المعيش, دون أن تنال القصيدة نصيبا كافيا من طزاجة الرؤية, هكذا قام الاختلاف بين معظم المشاريع الشعرية في النصف الثاني من القرن الماضي علي ما تفرزه آليات إنتاج النص الشعري التقليدي علي المستوي البلاغي بمعناه الواسع..
هكذا تخلق الاحتراب التدريجي بين الأجيال الشعرية المختلفة, ولم يكن السبب الحقيقي من وراء ذلك هذه الدعاوي الملونة التي أطلقها فريق المحافظين التقليديين, عن المحافظة علي التراث العربي, وعلي اللغة العربية.. إلخ. وكأن كتاب قصيدة النثر يكتبونها بلغة أخري غير العربية, بل يكمن سبب هذا الاحتراب في هذا التهديد الذي يحمله التطور الشعري والجمالي الجديد الذي تقوده قصيدة النثر العربية الآن في المجال الأدبي, هذا المجال الذي احتله عشرات السنين شعراء تقليديون, واستفادوا منه علي المستوي المعنوي بخاصة, وذلك من خلال توظيف رأسمالهم الرمزي, محتلين المجال الشعري بكامله! إن الخلاف هنا هو خلاف علي رأسمال رمزي يجري توظيفه لا خلاف علي الشعر, أو اللغة, وهو احتراب مصطنع, حسمت قضاياه علوم الجمال, ودراسات النوع الأدبي, وشعرياتها المقارنة, في مجمل الآداب العالمية من عشرات السنين.
ربما يطل علينا سؤال مهم في هذا السياق وهو, لماذا لانجد بين الأجيال الروائية, علي سبيل الموازنة, هذا الاحتراب الذي نجده بين الأجيال الشعرية؟ وأظن أنني لا أعدو الحق لو قلت إن هذا التفسير ممكن لو وضعنا في اعتبارنا أن الرواية, وكما يقتنع عدد كبير من النقاد والروائيين المصريين والعرب, فن جديد ووافد علي الثقافة العربية, وبناء علي ذلك لا يهز فن الرواية, موازنة بقصيدة النثر, أركان نظام ثقافي قديم قائم, فهي تبني علي أرض جديدة, لا صراع عليها, التجريب فيها مباح بصرف النظر عن مواصفاته, بل إن النوع ذاته يرحب بالتجديد, علي خلاف أرض الشعر, ومبانيها العتيقة, وهذا ما يفسر المعاناه التي يعانيها الشعر الجديد وأشكاله المعاصرة في واقعنا الشعري العربي بعامة, والمصري بخاصة, وأعني بذلك قصيدة النثر التي كان عليها العبء الأكبر في كسر جمود الثقافة العربية التقليدية وتجديدها, علي مستوي اللغة والخيال, هربا من التاريخ الطويل الذي رزخت تحت وطأته طويلا مفاهيم الشعر والبلاغة العربيين.
وللكتابة بقية.
المزيد من مقالات د. علاء عبدالهادى<!-- AddThis Button BEGIN <a class="addthis_button" href="http://www.addthis.com/bookmark.php?v=250&pub=xa-4af2888604cdb915"> <img src="images/sharethis999.gif" width="125" height="16" alt="Bookmark and Share" style="border: 0" /></a> <script type="text/javascript" src="http://s7.addthis.com/js/250/addthis_widget.js#pub=xa-4af2888604cdb915"></script> AddThis Button END -->
ساحة النقاش