من آثار الحج في النفس والحياة(1)
بقلم:د. محمد عبدالسلام كامل
الحج هو أكثر العبادات الإسلامية اشتمالا علي الأمور التعبدية_ التي لا تعرف حكمتها معرفة تفصيلية علي وجه التأكيد_ ولكن لعله أيضا أوضح هذه العبادات أثرا في حياة المسلمين أفرادا وجماعات.
وكيف لا وقد قال تعالي:' وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلي كل ضامر يأتين من كل فج عميق. ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله'.
إن هذا التعليل القرآني لهذه الرحلة المباركة يفتح لنا بابا رحبا للتأمل في عدد من المنافع التي لها أثر بالغ في النفس والحياة.
أولا: المنافع الروحية والعاطفية:
إذا توقفنا أمام بعض مناسك الحج, وحاولنا أن نفقه معانيها بالنسبة للحاج وغير الحاج لتبين لنا من المنافع الروحية والعاطفية:
1- أن الإحرام وهو أول أعمال الحج يتمثل في النية والتجرد من ثياب الدنيا, والاقتصار علي لبس ثياب متواضعة, تحقيقا لمبدأ العودة إلي الطبيعة, والمساواة بين جميع البشر علي اختلاف مستوياتهم ومكاناتهم الأدبية والاجتماعية, وحبس النفس عن كل ما سوي الله, وهذا ما يجب أن يفطن إليه الحاج المباشر للفريضة, وغير الحاج المتأمل للمشهد.
2- وأن الطواف بالكعبة يمثل معني الأخوة الإنسانية الشاملة والوحدة الإسلامية الجامعة, وحدة المشاعر ووحدة الشعائر, والحاج يدرك ذلك بوضوح في طوافه بالكعبة, وغير الحاج يدركه في استقباله لها كل يوم في صلواته, قال تعالي' وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره'.
3- وأن السعي بين الصفا والمروة يمثل التماس الحاج من ربه المغفرة والرضوان, وتواصله مع الخوف والرجاء الذي يجب أن يشغل عقيدة كل مسلم في حله وترحاله' يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه'.
4- وأن الوقوف بعرفة يعني الإقبال علي الله بقلوب مفعمة بالخشية, وألسنة تلهج بالدعاء, وأيد ترفع أكف الضراعة طلبا لرحمة أرحم الراحمين, وهو ما يجب أن يكون عليه حال المسلم في كل وقت وحين.
5- وأن رمي الجمار- وهو من الواجبات وليس من الأركان_ يمثل مقت الشر ونزغات النفس ووساوس الشيطان واتباع الهوي والخلاص من هذه المهلكات, والنفس المطمئنة تدرك أنها في سبيل أن تصل إلي ما وصلت إليه إنما جاهدت كل قوي الشر والرذيلة حتي تصل إلي التزكية الصادقة' ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها. قد أفلح من زكاها. وقد خاب من دساها'
إنها معان تؤثر في نفس الحاج المباشر للفريضة وتنعكس علي نفس كل متأمل لهذه الأسرار المودعة فيها.
وبعد أن يعود الحاج يفترض أن يكون أصفي نفسا, وأطهر قلبا, وأقوي عزيمة علي فعل الخير, وأصلب عودا أمام مغريات الشر.
وكلما كان حج المسلم مبرورا خالصا لوجه الله تعالي انعكس ذلك علي سلوكيات صاحبه وأحواله; لأن الشحنة المعنوية التي اكتسبها في رحلته تعيده خلقا جديدا يتسم بالصفاء والنقاء, وصدق الرسول الكريم حين يقول:' من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه'
ثانيا: دوام ذكر الله تعالي
ذكر الله تعالي من أعظم القربات إلي الله, فإنه يديم اتصال القلب بالخالق, وقلته تورث النسيان والغفلة, وقد تعدد ورود الذكر في سياق الآيات التي تتحدث عن الحج في سورة البقرة, فتحدث سبحانه وتعالي عن الذكر عند المشعر الحرام, فقال عز من قائل' فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام', والقرآن هنا يأمرنا بذكر الله عند المشعر الحرام بعد الإفاضة من عرفات, ثم يذكر المسلمين بأن هذا الذكر من هداية الله لهم, وهو مظهر الشكر علي هذه الهداية, ويذكر بما كان من أمرهم قبل أن يهديهم, فيقول سبحانه] وإن كنتم من قبل لمن الضالين,.
وفي تفسير قوله تعالي:] ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم,
أخرج البخاري في صحيحه بسنده عن عائشة قالت: كانت قريش ومن دان دينها يقفون بمزدلفة, وكانوا يسمون( الحمس), وسائر العرب يقفون بعرفات, فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه_ صلي الله عليه وسلم- أن يأتي عرفات, ثم يقف بها, ثم يفيض منها, فذلك قوله'من حيث أفاض الناس', وكذا قاله ابن عباس ومجاهد وعطاء وقتادة والسدي وغيرهم, واختاره ابن جرير وحكي عليه الإجماع.
وكثيرا ما يأمر الله بذكر الاستغفار بعد قضاء العبادات.
ثم قال] فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا,.
قال الخازن: قال أهل التفسير: كانت العرب في الجاهلية إذا فرغوا من حجهم, وقفوا بين المسجد بمني وبين الجبل, وقيل: عند البيت, فيذكرون مفاخر آبائهم ومآثرهم وفضائلهم ومحاسنهم ومناقبهم, فيقول أحدهم: كان أبي رحب الفناء, يقري الضيف, وكان كذا وكذا, يعد مفاخره ومناقبه, ويتناشدون الأشعار في ذلك, ويتكلمون بالمنثور والمنظوم من كلام الفصيح, وغرضهم الشهرة والسمعة والرفعة بذكر مناقب سلفهم وآبائهم, فلما من الله عليهم بالإسلام أمرهم أن يكون ذكرهم لله لا لآبائهم, وقال اذكروني, فأنا الذي فعلت بكم وبهم, وأحسنت إليكم وإليهم, ومعني أو أشد ذكرا ظاهر, وهو بل اذكروه أشد من ذكركم آباءكم, وفيه من الإيجاز ما تري حسنه.
والمعني: إنكم تذكرون آباءكم حيث لا يجوز أن تذكروا إلا الله, فاستبدلوا هذا بذاك, بل كونوا أشد ذكرا لله, وأنتم خرجتم إليه متجردين من الثياب, فتجردوا كذلك من الأنساب, فذكر الله هو الذي يرفع العباد حقا, وليس التفاخر بالآباء, فالميزان الجديد للقيم البشرية هو ميزان التقوي, ميزان الاتصال بالله وذكراه وتقواه, ثم يزن لهم بهذا الميزان, ويريهم مقادير الناس ومآلاتهم بهذا الميزان] فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب,.
* أستاذ الدراسات الإسلامية كلية البنات جامعة عين شمس
ساحة النقاش