بقلم: د.محمد عبدالفضيل القوصى
كثيرا ما تشيع في تاريخنا الفكري بعض القضايا التي يلتبس فيها الحق بالباطل, ويختلط فيها الصواب بالخطأ, سواء نجم ذلك عن سوء فهم أو عن سوء قصد, ثم تتوالي الأيام وإذا بتلك القضايا.
وقد اكتسبت ضربا من الثبات الزائف يجعلها تبدو في صورة الحقائق, وما هي من الحقائق بسبيل!!
من تلك القضايا: قضية تتصل بعلاقة الإمام الشافعي ـ رضي الله عنه ـ بمصر, فلقد بدأت مسيرة حياة ذلك الفقيه العظيم بأرض فلسطين, حيث ولد عام150 هـ, ثم بالحجاز حيث التقي بإمام دار الهجرة مالك بن أنس ـ رضي الله عنه ـ وتلقي عنه كتابه( الموطأ), ثم بالعراق, حيث التقي بتلميذ الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان( محمد بن الحسن), ثم مزج خلاصة ما اغترفه من فقه الحديث بالحجاز, بعصارة فقه الرأي بالعراق, حتي استقر ـ بعد طول الترحال ـ في مصر التي فتحت له أبوابها, وفتح لها هو عقله وقلبه, وتوفي بها عام204 هـ.
في مصر إذن استكمل هذا الإمام الفقيه حصاده العلمي الفذ, بالجمع بين ذخيرة النقل وعصارة العقل, مضافا إليهما نضج التجربة واكتمالها, فماذا نتوقع منه حينئذ إلا أن يضطلع بمراجعة كتبه التي كتبها من قبل, وأن يضيف إليها ما يراه جديرا بالإضافة, في ضوء رؤيته للواقع الجديد بكل ما يضطرب فيه من أحداث طارئة, ووقائع مستحدثة, تحتاج إلي إيقاع الحكم الشرعي عليها من خلال الأصول القطعية الثابتة؟
من هنا فقد كان للإمام الشافعي في' بعض' المسائل: رأيان,' قديمهما' كان بالعراق,' وجديدهما' كان في مصر, حيث أتيح له أن يلتقي بعلمائها ـ ومن بينهم الأحياء من تلاميذ الإمام الليث بن سعد, ويمزج معارفه بمعارفهم, كما أتيح له الإطلاع ـ في مصر ـ علي' واقع' جديد لم يحط به خبرا.
ينبري ههنا بعض ذوي الأفهام الملتبسة قائلين: إذا كان الإمام الشافعي قد بدل آراءه بتبدل الأقطار, فكان له' قديم' في العراق, و'جديد' في مصر, فلماذا لا تتغير الأحكام الشرعية ـ كلا أو بعضا ـ بتغير البلدان تارة, أو بتغير الأعصار تارة, أو بتغير الظروف والبيئات تارة ثالثة, فيكون لكل منها شريعته وفقهه؟
بل يذهبون بعدئذ إلي اتخاذ هذه القضية التي تتعلق بالإمام الشافعي: مدخلا إلي حكم عام مفاده: لماذا لا يكون الواقع ـ أيا ما كان هذا الواقع ـ حكما علي الشرع؟ ويكون الشرع محكوما بالواقع وتابعا له؟ وما الذي يبرر حينئذ' ثبات' هذا الشرع وديمومته, وصلابته وعموميته؟.
هذه الدعوي التي ترددت علي بعض الألسنة والأقلام, وراجت رواجا زائفا حتي أصبحت تشابه' الحقيقة': تغفل عن أمور شتي:
أولها: إن الإمام الشافعي ـ وإن كان له رأيان في بعض المسائل ـ إلا أنه لم يعمد في' الجديد' إلي' أصل' من الأصول القطعية الثابتة التي استند إليها في' القديم' قبلئذ فينقضه أو يبدله أو يهدمه, فالأصول القطعية في' القديم' و' الجديد' واحدة ثابتة راسخة, كما أن الإمام الجليل لم يعمد إلي' واقعة' قد حكم عليها بالحل أو بالحرمة في' القديم', فيبدل هذا الحكم أو ينقضه في' الجديد', إلا إذا تغيرت مقومات تلك الواقعة تغييرا جوهريا, فحينئذ يتبدل الحكم, ولو كان هذا الإمام الجليل قد ظل في العراق ولم يغادرها ثم عرضت عليه الواقعة ذاتها: لحكم بنفس هذا الحكم الشرعي بلا أدني تغيير, فالعبرة في تغير الحكم بين' القديم' و' الجديد' ـ عند الشافعي ـ ليست بتغير البيئة أو الظروف, أو الأقطار, أو الأعصار, بل بتغير' مكونات' الواقعة ذاتها, واختلاف أوضاعها.
ثانيها: لقد رصد العلماء بعض المسائل التي انفرد بها' القول الجديد' عن' القديم' عند الإمام الشافعي من خلال كتابه الموسوعي( الأم), فمثلا: لقد أعطي هذا الإمام الجليل لبعض أنواع التربة التي تستخدم في صنع الأدوية والتي توجد في الحجاز: حكما بالحل أو الحرمة يختلف عن حكمه عليها في مصر, وما ذلك التغاير إلا لاختلاف مكونات هذه التربة عن تلك, ولم يكن لتغير الأقطار أو البيئات تأثير علي الحكم بالحل أو بالحرمة.
وحين تناول الشافعي الأوراق المالية المنتشرة بمصر آنذاك, والتي كانت تسمي( القراطيس المصرية) اجتهد في استنباط الحكم الشرعي لها علي النحو الذي تمت به علي أرض مصر, ولم يكن لتبدل الأقاليم تأثير في الحكم الشرعي بالحل أو بالحرمة.
ثالثها: إنه لابد من الأخذ في الاعتبار ـ حين نتأمل قضية العلاقة بين الشرع والواقع بوجه عام ـ أن مهمة الشرع هي' ضبط' الواقع, بكل ما يضطرب فيه من اختلاف الأهواء, وتضارب الرغبات, وتصارع الإرادات, وتلك المهمة العظمي لا تتحقق ولا تقوم لها قائمة حين يتغير الشرع بتغير البلدان أو باختلاف البيئات والظروف, كما أنها لا تتحقق ولا تقوم لها قائمة حين ينحني الشرع في وجه تلك الأهواء والنزعات, ويكون تابعا لها بدلا من أن تكون تابعة له, ويكون خاضعا لها بدلا من أن تكون خاضعة له!!
رابعها: إن مصطلح' الواقع' مصطلح فضفاض, حمال أوجه, فأي' واقع' يكون هو الحكم علي الشرع؟ هل هو' واقع الأقوياء' الذي يفرضونه علي البشر بما يمتلكونه من أدوات البطش والاستبداد؟, أو هو واقع الفضائيات المفتوحة التي أيقظت في البشر شياطين النزوات, وبثت فيهم سعار الغرائز والرغبات ؟!!
فكيف يكون' الشرع' الذي' يخرج المكلفين من دواعي أهوائهم' ـ علي حد تعبير الشاطبي في' الموافقات' ـ دواء للواقع وعلاجا له, وقد جعله هؤلاء تابعا لهذا الواقع بكل ما يكتظ به من الأهواء والنزعات والرغبات؟
خامسها: إن التصور الذي يسيطر علي أصحاب تلك الأفهام الملتبسة: أن' الواقع' يمثل لديهم' الطرف الأقوي' الذي ينبغي علي الشرع الانصياع له, والاستجابة لنداءاته, والذي ينبغي علي الإنسان أيضا أن يحني له هامته, وأن يكون مطواعا له, لكنهم غفلوا عن أن التصور الإسلامي للإنسان أكثر سموا وارتفاعا, إذ إنه ذلك الإنسان الذي يشرئب فوق هذا الواقع ما استطاع إلي ذلك سبيلا, ويتعفف عن ملذاته ومغرياته قدر طاقته البشرية, إنه الإنسان الذي كرمه الله تعالي أعظم تكريم, وجعله الخليفة في الأرض علي سائر الكائنات.
أما هؤلاء الذين يبتغون أن يجعلوا الشرع خاضعا للواقع, وتابعا له فإنهم يسهمون ـ سواء أرادوا أم لم يريدوا ـ في إشاعة الخور والتكاسل في إرادات الأمة وفي وعيها الجمعي, فالتعلل بضغط' الواقع' والاستجابة لإغراءاته هو الذريعة الجاهزة والتعلة الحاضرة التي تفت في العضد, وتغري بالتحلل والتراخي والتماس المعاذير, كما أنها تحول دون شحذ العزائم, واستنهاض الهمم!!
ثم أقول: لئن كان' الواقع' بكل ما فيه.. هو الحاكم علي' الشرع'... فأي صلاح يومئذ يرتجي, وأي فلاح حينئذ ينتظر؟!
* عضو مجمع البحوث الإسلامية
المزيد من مقالات د.محمد عبدالفضيل القوصى<!-- AddThis Button BEGIN <a class="addthis_button" href="http://www.addthis.com/bookmark.php?v=250&pub=xa-4af2888604cdb915"> <img src="images/sharethis999.gif" width="125" height="16" alt="Bookmark and Share" style="border: 0" /></a> <script type="text/javascript" src="http://s7.addthis.com/js/250/addthis_widget.js#pub=xa-4af2888604cdb915"></script> AddThis Button END -->
ساحة النقاش