(.. وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون..)البقرة:184
بقلم: د. زغلول النجار
هذا النص القرآني الكريم جاء في خواتيم الثلث الثاني في سورة البقرة وقد سبق لنا استعراضها ونركز هنا علي وجه الاعجاز التشريعي في النص القرآني الكريم الذي اخترناه عنوانا لهذا المقال.
من أوجه الإعجاز التشريعي في النص الكريم
يقول ربنا ـ تبارك وتعالي ـ في محكم كتابه( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب علي الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياما معدودات فمن كان مريضا أو علي سفر فعدة من أيام أخر وعلي الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون) البقرة:184,183.
ومن معاني هذا النداء الإلهي المحبب إلي كل نفس مؤمنة أن الصيام عبادة فرضها ربنا ـ تبارك وتعالي ـ علي جميع الأمم من قبلنا( ياأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب علي الذين من قبلكم) وفي هذا النص الكريم إنباء بحقيقة غيبية لم تكن معروفة لأحد من الناس في زمن الوحي مؤداها أن الله ـ تعالي ـ كتب صيام شهر رمضان علي كل أمة مؤمنة من لدن أبوينا آدم وحواء ـ عليهما السلام ـ إلي بعثة خاتم الأنبياء والمرسلين ـ صلي الله عليه وسلم ـ وحتي قيام الساعة وفي ذلك يقول هذا الرسول الخاتم ـ صلوات ربي وسلامه عليه: صيام رمضان كتبه الله علي الأمم قبلكم( رواه ابن أبي حاتم عن عبدالله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ مرفوعا)
ويدعم ذلك استخدام الفعل( كتب) أي كتبه الله ـ تعالي ـ عليكم كما كتبه علي جميع الأمم من قبلكم والفعل( كتب) يشير إلي ثبات الحكم ثباتا مطلقا, وهو يختلف عن مرادفاته من مثل الأفعال( شرع) و(فرض) و(وصي) لأن دلالة هذه الأفعال وقتية تتعلق بالشرائع الخاصة بأمة من الأمم في زمن من الأزمنة.
ويوضح قول ربنا ـ تبارك وتعالي: ياأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب علي الذين من قبلكم لعلكم تتقون) أن الغاية المقصودة من أداء هذه العبادة المكتوبة علي المؤمنين في كل الأمم هي تحقيق تقوي الله وذلك بادراك مراقبته وضرورة خشيته باتباع أوامره واجتناب نواهيه وهو مايحققه الصوم بتقوية الإرادة وتطهير السريرة وضبط السلوك وربط المخلوق بخالقه وحراسة الجوارح والقلوب من إفساد الصوم بالوقوع في معصية من المعاصي والآية الكريمة تثبت وحدة رسالة السماء والأخوة بين الأنبياء وبين الناس جميعا انطلاقا من وحدانية الخالق ـ سبحانه وتعالي ـ كما تثبت أنه ليس بعد سيدنا محمد ـ صلي الله عليه وسلم ـ نبي ولا رسول.
والصيام هو الامتناع عن الطعام والشراب وعن غيرهما من المفطرات طوال النهار من طلوع الفجر.
الصادق إلي غروب الشمس مع حضور النية.
والصيام منه: المفروض وهو صيام شهر رمضان( أداء وقضاء) وهو أحد أركان الإسلام الخمسة ومنه: صيام الكفارات وصيام النذر( الصيام المنذور), وهناك الصيام المسنون( أو المندوب) ومنه الصوم في شهر المحرم( وأفضله التاسع والعاشر منه) والصيام في بقية الأشهر الحرم( ذو القعدة وذو الحجة ورجب) ومنه الصيام في شهر شعبان( خاصة في نصفه الأول), ومنه صيام الاثنين والخميس من كل أسبوع وصيام ثلاثة أيام من كل شهر( ويندب أن تكون هي الأيام البيض: الثالث عشر إلي الخامس عشر من كل شهر قمري), كما يندب صوم يوم عرفة( التاسع من ذي الحجة) لغير القائم بأداء الحج, ويندب صوم ستة أيام من شوال مطلقا والقادر علي صيام يوم وإفطار يوم أفضل أنواع الصيام المندوب. وقد فعله داود ـ عليه السلام ـ من قبل وامتدحه رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ بقوله الشريف: أحب الصلاة إلي الله صلاة داود وأحب الصيام إلي الله صيام داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه وكان يصوم يوما ويفطر يوما ولا يفر إذا لاقي والصائم المتطوع أمير نفسه إن شاء صام وان شاء أفطر كما جاء في حديث رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ
وهناك من الأوقات مايكره فيها الصوم وذلك من مثل إفراد يوم الجمعة أو إفراد يوم من أيام أصحاب المعتقدات الفاسدة بالصوم. ومن المكروه وصل الصيام في شهر شعبان بصوم رمضان وينهي عن صوم يوم الشك.
ومن الصيام المحرم صيام يومي العيدين( الفطر والأضحي) وصيام أيام التشريق وصوم الوصال( وهو مواصلة الإمساك نهارا وليلا) وصيام الدهر وصوم الصمت( بالامتناع عن الكلام لفترات طويلة) وصيام الزوجة نفلا بغير إذن زوجها.
وصوم رمضان كتبه الله ـ تعالي ـ علي كل مسلم بالغ عاقل, حر, صحيح, مقيم, وكان ذلك يوم الاثنين الثالث من شعبان في السنة الثانية من الهجرة النبوية الشريفة. فمن أدرك هذا الشهر من المسلمين الذين تنطبق عليهم هذه الشروط, فعليه صومه انصياعا لأوامر الله ـ تعالي وطاعة له, ويجب أن تكون الأنثي طاهرة من الحيض والنفاس.
لذلك إذا انتفي شرط من هذه الشروط سقط الصيام سقوطا مطلقا أو مرحليا فلا صيام علي كافر, ولا علي مجنون, ولا علي صغير السن( إلا إذا كان لمجرد التدريب علي الصوم) ولا علي مريض, ولا مسافر, ولا علي طاعن في السن, ولا علي حائض ولا نفساء, ولا علي حامل ولا مرضع من النساء إذا شعرت بخطر علي جنينها أو علي رضيعها أو علي نفسها من الصوم.
فكل من الكافر والمجنون لاصيام عليه مطلقا ومن كان دون البلوغ يطلب من وليه أن يأمره بالصيام من قبيل تعويده علي القيام بهذه العبادة, وفي بعض الحالات يجب الفطر ثم القضاء, وفي البعض الاخر يرخص بالفطر وتجب الفدية, أو يجب القضاء والفدية حسب تفصيل الفقهاء, ولذلك قال ـ تعالي ـ( أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو علي سفر فعدة من أيام أخر وعلي الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون)( البقرة:184) وصوم رمضان هو لأيام معدودات(29 ـ30 يوما) ومع ذلك فقد أعفي من الصوم فيه كل من المرضي حتي يصحوا, والمسافرون حتي يعودوا إلي ديار إقاماتهم, وذلك تيسيرا من رب العالمين. وظاهر النص القرآني في المرض والسفر أنه يطلق ولا يحدد فأي مرض وأي سفر يسوغ الفطر, والأمر متروك لتقدير صاحبه, علي أن يقضي المريض حين يصح. والمسافر حين يقيم, وفي ذلك قال رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ: إن الله ـ تعالي ـ وضع شطر الصلاة عن المسافر, وأرخص له في الإفطار, وأرخص فيه للمرضع والحبلي إذا خافتا علي ولديهما( أخرجه أصحاب السنن), وصوم رمضان واجب بالكتاب والسنة والإجماع, ولذلك حذر المصطفي ـ صلي الله عليه وسلم ـ من الترخص في فطره بغير عذر شرعي فقال: من أفطر يوما من رمضان, في غير رخصة رخصها الله له لم يقض عنه صيام الدهر كله وان صامه( أخرجه كل من أبي داود, وابن ماجه, والترمذي)
وتستمر الآية الكريمة( رقم184) بقول ربنا ـ تبارك وتعالي( وعلي الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له..)( والطاقة) اسم للقدرة علي الشيء مع المشقة والشدة, وعلي ذلك فإن معني يطيقونه أي: يتحملونه بمشقة وشدة.
ومن معاني هذا النص الكريم أن علي الذين يجدون في الصيام مشقة( كالشيخ الهرم والعجوز الطاعنة في السن والمرضع والحامل إذا خافتا علي أنفسهما أو علي ولديهما ومن في حكم هؤلاء) أن يفطر وعليه الفدية وهي إطعام مسكين عن كل يوم. ثم حببهم في إطعام أكثر من مسكين عن اليوم بقوله ـ تعالي:(.. فمن تطوع خيرا فهو خير له..) ثم حببهم في الصوم مع المشقة في غير سفر ولا مرض قائلا:(.. وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون) وذلك لما في الصوم من خير عميم.
وعلي ذلك فإنه يرخص بالفطر في شهر رمضان للشيخ الكبير في السن, والمرأة العجوز, والمريض الذي لايرجي برؤه, وأصحاب الأعمال الشاقة, والذين لايجدون متسعا من الرزق في غير مايزاولونه من أعمال اذا كان الصيام يجهدهم فوق طاقتهم, ويشق عليهم قضاؤه في جميع فصول السنة, هؤلاء جميعا يرخص لهم الشرع الاسلامي في الافطار في رمضان وعلي كل واحد منهم أن يطعم عن كل يوم مسكينا أو أكثر من مسكين علي قدر طاقته, فان لم يكونوا قادرين علي إطعام مسكين عن كل يوم من أيام رمضان فيري كل من الإمامين مالك وابن حزم أنه لاقضاء ولا فدية, قال ابن عباس: رخص للشيخ الكبير أن يفطر, ويطعم عن كل يوم مسكينا, ولا قضاء عليه( أخرجه الامامان الدارقطني والحاكم)
وكل من الحبلي والمرضع ـ اذا خافتا علي أنفسهما, أو أولادهما ـ لهما الرخصة بالافطار في رمضان, وعلي كل منهما الفدية, ولا قضاء عليهما عند كل من ابن عمر وابن عباس, وعن الأحناف أنهما تقضيان فقط ولا فدية عليهما. وإن كانت أي منهما مستطيعة ماديا فالفدية والقضاء.
أما المريض الذي يرجي برؤه والمسافر فيباح لكل منهما الفطر في رمضان ويجب علي كل منهما القضاء والسفر المبيح للفطر, هو السفر الذي تقصر الصلاة بسببه, ومدة الاقامة التي يجوز له أن يقصر الصلاة فيها.
واتفق الفقهاء علي أنه يجب الفطر علي كل من الحائض والنفساء ويحرم عليهما الصيام, وعلي كل منهما قضاء مايفوتها من صيام أيام رمضان.
من هذا الاستعراض يتضح وجه من أوجه الاعجاز التشريعي فيما فرضه ربنا ـ تبارك وتعالي ـ علي عباده المؤمنين من فريضة الصيام في شهر رمضان وسماحة هذا التشريع في جعله أولا: أياما معدودات( وهو شهر رمضان) ولم يجعله فريضة مدي العمر وإلا استحال تنفيذه, وثانيا: أنه وضع من تفاصيل تطبيق هذا الأمر مع مايتناسب مع كل حالة من حالات البشر فأعفي من أدائه إعفاء مؤقتا المرضي حتي يصحوا, والمسافرين حتي يقيموا, وعلي كل منهم القضاء وأعفي إعفاء مطلقا كلا من الشيخ الكبير في السن, والمرأة العجوز, والمريض الذي لايرجي برؤه, وأصحاب الأعمال الشاقة الذين لايجدون متسعا من الرزق في غير مايزاولونه من أعمال, وعليهم أن يطمعوا عن كل يوم مسكينا أو أكثر إن استطاعوا فان لم يستطيعوا فلا شيء عليهم( لاقضاء ولا فدية) وكذلك الحبلي والمرضع اذا خافتا علي أنفسهما, أو أولادهما أفطرت كل منهما وعليها إما القضاء أو الفدية أو كلاهما معا إن استطاعت ذلك, ومع كل هذه الرخص ختمت الآيتان( رقم183 ـ184 من سورة البقرة) بقول ربنا ـ تبارك وتعالي:(.. وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون) ولايملك مثل هذه الدقة في التشريع إلا الله رب العالمين, فالحمد لله علي ماأنعم والصلاة والسلام علي خير من أرسل وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العاملين.
المزيد من مقالات د. زغلول النجار<!-- AddThis Button BEGIN <a class="addthis_button" href="http://www.addthis.com/bookmark.php?v=250&pub=xa-4af2888604cdb915"> <img src="images/sharethis999.gif" width="125" height="16" alt="Bookmark and Share" style="border: 0" /></a> <script type="text/javascript" src="http://s7.addthis.com/js/250/addthis_widget.js#pub=xa-4af2888604cdb915"></script> AddThis Button END -->
ساحة النقاش