بقلم: د. زغلول النجار
358 ..شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدي للناس وبينات من الهدي والفرقان ..(البقرة381)
هذه النص القرآني الكريم جاء في نهاية الثلث الثاني من سورة ـ البقرة ـ وهي سورة مدنية, وآياتها ـ286 ـ بعد البسملة, وهي اطول سور القرآن الكريم علي الإطلاق. ويدور المحور الرئيسي لسورة ـ البقرة ـ حول قضية التشريع الإسلامي. مع الاشارة الي عدد من ركائز العقيدة الاسلامية, واستعراض لصفات كل من المؤمنين والكافرين والمنافقين وتفصيل لقصة خلق الانسان ممثلا في خلق ابوينا آدم وحواء ـ عليهما السلام ـ واشارة الي عدد من انبياء الله ورسله وتناول لمواقف اهل الكتاب بشيء من التفصيل الذي استغرق اكثر من ثلث هذه السورة الكريمة التي ختمت بإقرار حقيقة الايمان بالله وملائكته بشيء من التفصيل الذي استغرق اكثر من ثلث هذه السورة الكريمة التي ختمت باقرار حقيقة الايمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وبدعاء الي الله ـ تعالي ـ يهز القلوب والعقول والنفوس في آن واحد.
هذا وقد سبق لنا استعراض سورة ـ البقرة ـ وما جاء فيها من ركائز التشريع ومكارم الاخلاق, والقصص, والاشارات الكونية, ونركز هنا علي اوجه الاعجاز التشريعي في اختيار شهر رمضان لتطبيق عبادة الصيام فيه, وفي فرض هذه العبادة وجعلها ركنا من اركان الاسلام.
من اوجه الإعجاز التشريعي في النص الكريم
1ـ إن شهر رمضان هو اشرف شهور السنة علي الاطلاق ولذلك جاء ذكره باسمه مفصلا في كتاب الله, وهو الشهر الوحيد الذي ذكر اسمه في القرآن الكريم, بينما جمعت الاشهر الحرم ـ علي فضلها ـ تحت هذا المسمي وفصلت اسماؤها في احاديث رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ وهي ذو القعدة, وذو الحجة, والمحرم, ورجب ـ والتي كان العرب منذ القدم يحرمون القتال فيها, كأحد بقايا الحق القديم الذي انزله الله ـ تعالي ـ هداية لعبادة المؤمنين ثم انحرف العباد ـ في غالبيتهم عنه.
2ـ عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ ان القرآن الكريم نزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ الي بيت العزة من السماء الدنيا وكان ذلك في ليلة القدر من شهر رمضان في اول سنة من البعثة المحمدية الشريفة, ثم انزل بعد ذلك مفرقا علي رسول الله عليه وسلم ـ بحسب الوقائع علي ثلاث وعشرين سنة.
3ـ يؤكد رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ ان جميع ما نعلم من رسالات السماء انزل الي الارض في شهر رمضان, فقد روي الامام احمد عن وائلة بن الاسقع ان رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ قال: ـ انزلت صحف ابراهيم في اول ليلة من رمضان وانزلت التوراة لست مضين من رمضان وانزل الانجيل ثلاث عشر خلت من رمضان وانزل الله القرآن لاربع وعشرين خلت من رمضان ـ.
4ـ هذه الحقيقة تؤكد ان تعظيم شهر رمضان ليس فقط لفرض الصيام فيه, بل لسر يعلمه الله ـ تعالي ـ مما جعله مناط اختياره ـ سبحانه وتعالي ـ له لانزال جميع ما نعلم من رسالاته في هذا الشهر بالذات وربما يكون ذلك هو من مبررات تشريع الصيام في شهر رمضان ـ علي جلال عبادة الصيام وقدرها عند رب العالمين لانها احب العبادات الي الله ـ فعن ابي امامة ـ رضي الله عنه ـ انه قال: اتيت رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ فقلت: مرني بعمل يدخلني الجنة, قال: عليك بالصوم فانه لا عدل له ـ ثم اتيته الثانية فقال ـ عليك بالصوم ـ اخرجه كل من احمد, والنسائي والحاكم ـ. وعن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ ان النبي ـ صلي الله عليه وسلم ـ قال: ـ لا يصوم عبد يوما في سبيل الله الا باعد الله بذلك اليوم النار عن وجهه سبعين خريفا ـ اخرجه الجماعة. الا با داود ـ. وعن سهل بن سعد ان النبي ـ صلي الله عليه وسلم ـ قال: ـ ان للجنة بابا, يقال له الريان يقال يوم القيامة: اين الصائمون؟ فإذا دخل اخرهم اغلق ذلك الباب ـ اخرجه الإمامان البخاري ومسلم ـ.
5ـ انزال جميع ما نعلم من الكتب السماوية في شهر رمضان فيه تأكيد علي وحدة رسالة السماء, وعلي الاخوة بين الانبياء وبين بني ادم جميعا وذلك كله منطلق من وحدانية الخالق ـ سبحانه وتعالي ـ فوق جميع الذين خلقهم في زوجية واضحة حتي يبقي الله ـ تعالي ـ متفردا بوحدانيته.
6ـ ان اختيار شهر رمضان لانزال جميع ما نعلم من رسالات السماء فيه تأكيد انه اشرف شهور السنة علي الاطلاق فكما فضل الله ـ تعالي ـ بعض النبيين وبعض الرسل علي بعض وفضل بعض الافراد العاديين علي بعض فضل بعض الاماكن وبعض الازمنة علي بعض, فجعل مكة المكرمة اشرف بقاع الارض يليها في الشرف مدينة رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ ثم بيت المقدس ومن تفضيل بعض الازمنة علي بعض جعل ربنا ـ تبارك وتعالي ـ يوم الجمعة افضل ايام الاسبوع وجعل شهر رمضان افضل شهور السنة, وجعل العشر الاواخر من ليله افضل عشرة ليال في السنة, وجعل اشرفها علي الاطلاق ـ ليلة القدر ـ التي جعلها ربنا ـ تبارك وتعالي خيرا من الف شهر ـ اي ان العبادة فيها تفضل العبادة في اكثر من الف شهر وهي تزيد علي83 سنة ـ وفي المقابل جعل ربنا سبحانه وتعالي الايام والعشرة الاولي من شهر ذي الحجة افضل عشرة ايام ـ بمعني النهار ـ في السنة وجعل اشرفها علي الاطلاق يوم عرفة.
7ـ من هنا كان تأكيد القرآن الكريم علي فضل شهر رمضان الذي قال ربنا ـ تبارك وتعالي ـ فيه: شهر رمضان الذي انزل فيه القرآن هدي للناس وبينات من الهدي والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ـ..
البقرة:185ـ
وكان المصطفي ـ صلي الله عليه وسلم ـ يبشر صحابته الكرام بمقدم شهر رمضان بقوله: ـ قد جاءكم شهر مبارك افترض الله عليكم صيامه, تفتح فيه ابواب الجنة وتغلق فيه ابواب الجحيم, وتغل فيه الشياطين فيه ليلة خير من الف شهر من حرم خيرها فقد حرم ـ اخرجه كل من احمد والنسائي والبيهقي
8 ـ في قوله ـ تعالي فمن شهد منكم الشهر فليصمه.. ـ المراد بالشهود هنا هو شهود الوقت, لا شهود رؤية الهلال, الذي لا يراه بالقطاع كل الناس. وـ شهد ـ هنا بمعني حضر ويقصد به من شهد منكم الشهر بالغا مقيما غير مسافر ولا مريض فليصمه اي شهر رمضان وهذا دليل علي كرامة هذا الشهر عند رب العالمين.
وـ الشهود ـ و ـ الشهادة ـ هو الحضور مع ـ المشاهدة ـ اما بالبصر او البصيرة, واما بهما معا ولكن ـ الشهود ـ بالحضور المجرد هنا اولي ولكن ـالشهادة ـ مع المشاهدة ـ تكون اولي عند رؤية الهلال وهي قول صادر عن علم يقيني حصل بمشاهدة البصر او بإدراك البصيرة او بهما معا.
ويأتي الفعل ـ شهد ـ بمعني علم علما قاطعا. او اطلع اطلاعا صادقا او حضر حضورا واقعا او اخبر وتبين اخبارا مقرونا بالعلم والاظهار ولذلك قال رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ: صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما ـ رواه البخاري ومسلم ـ وعن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: سمعت رسول الله عليه وسلم ـ يقول ـ اذا رأيتموه فصوموا واذا رايتموه فافطروا فان غم عليكم فاقدروا له ـ اخرجه الامام البخاري وعنه ان النبي ـ صلي الله عليه وسلم ـ قال: ـإنا امة امية لا نكتب ولا نحسب ـ اخرجه الامام البخاري ـ
وذلك لا يعني عدم الحساب بل هو من قبيل التسهيل علي الامة في زمن لم يكن متوافرا لها شيء من المعارف والتقنيات المتاحة لنا اليوم.
وعلي ذلك فإن الرؤية تشمل ادراك بالعين المجردة او بواسطة الاجهزة المقربة ـ التلسكوبات ـ او بواسطة الحساب الفلكي او باستخدام الطائرات والاقمار الصناعية.
والتقدير في حديث رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ يشير صراحة الي الحسابات الفلكية وعلي كل ما هو متاح من المعارف المكتسبة والتقنيات المتطورة والذي يعين علي رؤية هلال رمضان بعد غروب يوم ـ29 ـ من شعبان واستخدام كل التقنيات المتاحة هو المناط الحقيقي لاثبات دخول شهر رمضان. ورؤية هلال رمضان اذا ثبتت في اي بقعة من بقاع الارض فان ثبوتها ملزم لجميع بقاع الارض اذا اعلموا بذلك وذلك لان عملية ميلاد الهلال هي حدث كوني يعم كل الارض مع اعتبار الفوارق الزمنية. ومن الملفت للنظر ان كلا من فقهاء الاحناف والمالكية والحنابلة يقررون بانه لا عبرة باختلاف المطالع فاذا رأي الهلال اهل بلد وجب الصوم علي بقية البلاد لقوله ـ صلي الله عليه وسلم ـ: صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته ـ وهو خطاب عام لجميع الامة فمن رآه منهم في اي مكان كان ذلك رؤية لهم جميعا. ومن المعلوم ان كلا من القمر والارض يدور من الغرب الي الشرق, ونتيجة لذلك فإن البلاد في نصف الكرة الغربي تري الهلال الوليد لفترة اطول من نظائرها في نصف الكرة الشرقي ويبقي فرق التوقيت بين ابعد نقطتين علي سطح الارض لا يتعدي12 ـ ساعة بالزائء او بالناقص, ومن ثم فإن اختلاف الامة في بدء الصيام ونهايته هو ناتج عن انقسام المسلمين اليوم الي اكثر من62 دولة ودويلة ولا علاقة له بالمعطيات العلمية. كذلك فان التغير في طول كل من الليل وأنهار يتضاعف باستمرار في اتجاه خطوط العرض العليا, فإذا وصلنا الي خط عرض ـ48.5ـ شمالا او جنوبا فإن شفق العشاء يتصل بشفق الفجر في فصل الصيف ويكون طول الليل حوالي اربع ساعات فقط, وهنا يلزم التقدير علي اساس اقرب منطقة تنتظم فيها العلامات الفلكية او اختيار عدة من ايام اخر.
وفي قول ربنا ـ تبارك وتعالي فمن شهد منكم الشهر فليصمه..ـ هو امر ملزم لكل مسلم, بالغ, عاقل,صحيح, مقيم متي رأي الهلال او اخبر برؤيته من مصدر موثوق به. وفي زمن تسارع وسائل الاتصال والمواصلات الذي نعيشه لم يعد هناك مجال لاختلاف الامة في تحديد اوائل الشهور القمرية التي يرتبط بهما ركنان من اركان الاسلام هما: الصيام والحج ولم يعد هناك مبرر لمسلم مكلف ان يحرم نفسه من بركات شهر رمضان بغير عذر شرعي ولذلك حذر المصطفي ـ صلي الله عليه وسلم ـ من التفريط في يوم واحد من ايام رمضان فقال:
ـ من افطر يوما من رمضان, وفي غير رخصة رخصها الله له, لم يقض عنه صيام الدهر كله, وان صامه ـ اخرجه ابو داود وابن ماجه والترمذي ـ
من كل ذلك يتضح وجه من اوجه الاعجاز التشريعي في فريضة صيام شهر رمضان, وفي جعل هذا الشهر افضل شهور السنة لاختياره من بين شهور السنة لانزال جميع ما نعلم من الكتب السماوية فيه فالحمد لله علي نعمة الاسلام والحمد لله علي نعمة القرآن, والحمد الله علي بعثة خير الانام ـ صلي الله عليه وسلم وبارك عليه وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته الي يوم الدين ـ وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين.
المزيد من مقالات د. زغلول النجار<!-- AddThis Button BEGIN <a class="addthis_button" href="http://www.addthis.com/bookmark.php?v=250&pub=xa-4af2888604cdb915"> <img src="images/sharethis999.gif" width="125" height="16" alt="Bookmark and Share" style="border: 0" /></a> <script type="text/javascript" src="http://s7.addthis.com/js/250/addthis_widget.js#pub=xa-4af2888604cdb915"></script> AddThis Button END -->
ساحة النقاش