authentication required
تأنسن القرآن‏..‏ دعوي خاسرة‏!!‏
بقلم: د.محمد عبدالفضيل القوصى
قد يثير موضوع هذا العنوان ـ كما أثار منذ سنوات عدة ـ مشاعر متضاربة‏,‏ تتراوح بين الدهشة والصدمة‏,‏ وبين الاستفسار والاستنكار‏!!‏ فماذا تعني دعوي‏(‏ تأنسن القرآن‏)‏ تلك الصيحة التي أطلقها صاحبها في ذلك الوقت‏,‏ فأحدثت من ردود الافعال ما أحدثت؟.

 

لقد لقي صاحبها ربه فأصبح من الواجب تأدبا أمام جلال الموت ومهابته التزام الصمت‏,‏ لولا أن بعض الألسنة والأقلام قد عادت لتنفخ في الرماد مرة أخري‏,‏ مجاهرة بصيحة‏(‏ التأنسن‏)‏ تحت لافتة التنوير حينا‏,‏ وتحت لافتة الحداثة حينا‏,‏ وتحت سهم مغلوط لمذهب المعتزلة حينا آخر‏!!‏
هذه الصيحة المستنكرة‏(‏ تأنسن القرآن‏)‏ تعني ـ عند صاحبها ـ أن القرآن الكريم ـ وإن كان نصا مقدسا ـ في حالته الخام الأولي علي حد تعبيره‏,‏ إلا أنه قد تحول منذ اللحظة التي نزل فيها بساحة البشر إلي منتج بشري‏,‏ أي أنه قد تأنسن‏,‏ وارتدي رداء إنسانيا‏,‏ فأصبح من حق بني الإنسان أن يطوعوه تبعا لما يفهمون ويريدون وأن يجعلوه انعكاسا للواقع الذي يعيشونه‏,‏ وفقا لتطور هذا الواقع الفكري والاجتماعي‏,‏ كما أن من حقهم أن يخضعوه للمناهج نفسها التي يستعملونها في فهم سائر منتجاتهم الثقافية من أدب أو شعر أو نثر‏,‏ وبهذا‏(‏ التأنسن‏)‏ المزعوم أميطت عن القرآن قداسته الخام التي لانعرف عنها شيئا علي حد تعبير صاحب تلك الصيحة‏,‏ بل إن تطبيق النبي صلي الله عليه وسلم للقرآن الكريم في نظره‏,‏ ليس إلا نسقا إنسانيا هو الآخر‏,‏ فالنبي الكريم باعتباره بشرا لم يفهم القرآن الكريم إلا فهما بشريا لا قداسة فيه‏,‏ ولا عصمة له‏,‏ وما إدعاء القداسة والعصمة للتطبيق النبوي إلا نوع من الخلط بين المطلق والنسبي‏,‏ والثابت والمتغير‏,‏ والإلهي والإنساني‏!‏
متناقضات عدة تحفل بها مقولة التأنسن تحتاج إلي إلقاء بعض الضوء عليها‏:‏
ـ فلقدكان من الأجدر بمن يعترف بقداسة النص القرآني‏,‏ أن يحرص الحرص كله علي الحفاظ علي ذاتيته وهويته‏,‏ ومنزلته المتعالية باعتباره كلام الله تعالي‏,‏ لكن صيحة التأنسن قد هبطت بهذا النص المقدس إلي الامتزاج بالإنسان‏,‏ بنقائصه وعوارضه وعثراته‏,‏ كما جعلت منه ـ أعني من الإنسان ـ فيصلا في فهمه دون احتكام إلي سنة شارحة‏,‏ ولا التزام بتطبيق نبوي عملي مفسر‏,‏ ولا اعتماد علي قواعد رصينة مستنبطة من علوم الإسلام وتراثه‏,‏ وبذلك انتهت تلك القداسة المدعاة إلي إهدار لذاتها في نهاية الأمر‏,‏ بل وإلي إلغاء لوجودها نفسه‏!!‏
ولقد كان من الأجدر بمن يقر بقداسة النص القرآني أن يكون علي وعي تام بأبعاد المهمة الرسالية للوحي القرآني‏,‏ تلك المهمة التي تقوم علي الأوامر والنواهي والمعالم التشريعية والأخلاقية والاعتقادية الواضحة وضوح الشمس في رابعة النهار‏,‏ فإذا بتلك المهمة الرسالية المرتبطة بالوحي‏,‏ وقد انتزعت من جانبها الإلهي‏,‏ لكي تلقي علي كواهل البشر أنفسهم‏,‏ لأنهم بمقتضي صيحة التأنسن المدعاة هم الذين يحددون لأنفسهم‏,‏ وحسب مقتضيات عصورهم المتغيرة المتحركة‏,‏ معالم الحق والباطل‏,‏ والمشروع وغير المشروع‏,‏ وبذلك انقلبت تلك القداسة المدعاة‏,‏ في إطار التأنسن إلي نسبية موقوتة‏,‏ لا ثبات لها ولا دوام‏,‏ ولا رسوخ ولا قوام‏!!‏
ـ ولقد كان من الأجدر بمن يعترف بقداسة النص القرآني أن يجعل تلك القداسة قاصرة علي هذا النص‏,‏ وعلي التطبيق المثالي والنموذجي له في عصر النبوة‏,‏ لكن صاحب صيحة التأنسن قد أضفي علي كل الأفهام التي تدور حول النص ـ أيا كان مدي انفلاتها ـ وابتعادها عن الصواب‏,‏ نصيبا من تلك القداسة المزعومة‏,‏ فكل فهم للقرآن الكريم يدعيه من يدعيه فإنما هو إضافة للوحي واستمرار له‏!‏
فماذا سيئول إليه الدين وفقا لهذه الرؤية الرجراجة الغائمة‏,‏ التي تقحم علي نسيجه كل فكرة شاردة‏,‏ أو خطرة تخطر لصاحبها في التيه‏,‏ فإذا بها تكتسب وفقا لهذا التأنسن المشروعية والأحقية‏,‏ بل والقداسة أيضا‏,‏ ثم ماذا يتبقي للنص المقدس حينئذ من دور أو مهمة‏,‏ مادام قد أصبح فاقدا لكل ذاتياته؟‏!‏ أفما كان الأولي‏,‏ والحالة هذه‏,‏ أن يترك الناس سدي دون نص مقدس أصلا‏,‏ يحيون حياتهم الدنيا كالأنعام‏,‏ بل هم أضل سبيلا؟
ـ ولقد كان الأولي بمن يعترف بقداسة النص القرآني أن ينأي بالقرآن الكريم عن الدعوي التي تسمي‏(‏ التاريخية‏),‏ تلك الدعوي التي تربط القرآن الكريم بأسباب النزول تارة‏,‏ وبعصر النزول تارة أخري‏,‏ استهدافا لإيقاف هديه عند حدود معينة من الزمان أو المكان‏,‏ أو الأحداث‏,‏ وسعيا لإنكار تلك الخاصية القرآنية الفريدة وهي عموم هدايته للبشر جميعا حتي قيام الساعة‏,‏ وكأن الوحي ـ عند أصحاب هذه النزعة ـ ظاهرة اجتماعية مرتبطة بزمانها المحدد‏,‏ ومكانها المعين‏,‏ فيصبح الواقع هو الحاكم علي النص المقدس‏,‏ وينقلب المتأثر إلي مؤثر‏,‏ ويتوقف تشريع النص القرآني عند حدود زمانه وأبعاد مكانه‏,‏ فلا يتبقي من هذا التشريع عندئذ إلا الذكريات‏!!‏
ثم أقول أخيرا‏:‏ لقد غاب عن أصحاب صيحة التأنسن أن القرآن الكريم هدي للناس يسترشدون به‏,‏ ويسيرون علي هديه‏,‏ فهذا هو المقتضي الأول لربوبية الرب‏,‏ وعبودية العبد‏,‏ أما أن يصل الغرور البشري الزائف بالإنسان ـ كما تصوره صيحة التأنسن إلي أن يصير ذلك الإنسان هو الذي يهدي ذاته‏,‏ ويرشد نفسه‏,‏ بل وينتهي به ذلك الغرور إلي أن ينزل بالنص المقدس من عليائه‏,‏ ويمزجه ببشريته وإنسانيته‏,‏ فيكون الإنسان هو المستهدي‏,‏ وهو الهادي في الآن نفسه‏,‏ فذلك هو الضلال البعيد‏!‏
ولو أن هذه الدعاوي الزائفة قد طرحت بمنأي عن القرآن الكريم‏,‏ وبمنأي عن مكانته وجلالته‏,‏ ولو أن الأصوات التي تروج لهذه الصيحات المستنكرة قد وقفت بهذا الترويج بعيدا عن قدسية التنزيل لكان في الأمر متسع‏,‏ فالفكر الإنساني حافل بالغرائب التي يفرزها الذهن البشري في كل عصر‏,‏ لكن الاقتراب بتلك الدعاوي من المقدسات تحت أي لافتة خادعة هو المحذور والمنكور‏.‏
لاسيما وأن الأمة في حاجة إلي من يضمد جراحاتها ويوجه طاقاتها إلي الهدف الأسمي وهو صلاح الدين والدنيا معا‏.‏
عضو مجمع البحوث الإسلامية
 

 

المزيد من مقالات د.محمد عبدالفضيل القوصى<!-- AddThis Button BEGIN <a class="addthis_button" href="http://www.addthis.com/bookmark.php?v=250&pub=xa-4af2888604cdb915"> <img src="images/sharethis999.gif" width="125" height="16" alt="Bookmark and Share" style="border: 0" /></a> <script type="text/javascript" src="http://s7.addthis.com/js/250/addthis_widget.js#pub=xa-4af2888604cdb915"></script> AddThis Button END -->
azazystudy

مع أطيب الأمنيات بالتوفيق الدكتورة/سلوى عزازي

  • Currently 45/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
15 تصويتات / 80 مشاهدة
نشرت فى 7 أغسطس 2010 بواسطة azazystudy

ساحة النقاش

الدكتورة/سلوى محمد أحمد عزازي

azazystudy
دكتوراة مناهج وطرق تدريس لغة عربية محاضر بالأكاديمية المهنية للمعلمين، وعضوالجمعية المصرية للمعلمين حملة الماجستير والدكتوراة »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

4,791,920