الإعـلام والقضـاء‏..‏ علاقـة فضفاضـة
بقلم:د‏.‏ عواطف عبد الرحمن


بداية‏..‏ لايمكن تناول قضية العلاقة بين الإعلام والقضاء بمعزل عن السياق المجتمعي الراهن الذي يزخر بكم هائل من التناقضات الناتجة عن صراع المصالح وتزامن القديم والجديد والوافد والموروث دون تفاعل حقيقي‏.

 

حيث تهيمن ايديولوجية السوق برموزها الاستهلاكية علي مجمل الواقع المجتمعي وفي قلبه الإعلام والقضاء‏.‏
وفي اطار هذا الواقع يبرز أمامنا مدخلان لتناول قضية الإعلام والقضاء المدخل الوظيفي والمدخل المجتمعي‏,‏ وسوف نأخذ بالمدخل المجتمعي الذي ينبثق من الأرضية المشتركة التي تضم كل الأنشطة الإنسانية‏(‏ السياسية والاقتصادية والثقافية والقانونية في المجتمع المصري‏)‏ في إطار من التفاعل والتأثير المتبادل والصيرورة الزمنية‏,‏ وفي ضوء ذلك تبرز أمامنا مجموعة من الحقائق نوجزها علي النحو التالي‏:‏
الحقيقة الأولي‏:‏ الارتباط العضوي بين كل من المدرستين القانونية والإعلامية‏,‏ فهما توأمان يكمل كل منهما الآخر في الاهداف والغايات ويختلفان في الوظائف والآليات‏,‏ فالمدرسة القانونية تشرع وتضع القوانين وتصدر الاحكام‏,‏ والمدرسة الإعلامية تسعي لتشكيل الرأي العام في إطار هامش الحرية الذي تسمح به السلطة التنفيذية وتشرع له المدرسة القانونية‏,‏ وكل منهما يسهم بدور اساسي في تشكيل العقل الجمعي حول قضايا الحقوق والحريات‏,‏ فرجال القانون يقومون بإرساء أسس العدالة‏,‏ والإعلاميون يقومون بتوعية الجمهور من خلال الكشف عن الفساد وسوء الإدارة والظلم الاجتماعي‏,‏ وهناك مساحة مشتركة بين كل من القضاء والإعلام‏,‏ هذه المساحة المشتركة تكمن فيها اشكالية العلاقة بينهما‏,‏ إذ تتعلق أولا بحرية الرأي والتعبير والتنظيم القانوني لمهنة الإعلام مقروءا ومسموعا ومرئيا‏.‏
فالإعلاميون العرب يعانون من ترسانة القوانين والتشريعات التي تحمي الصفوة السياسية والاقتصادية والإعلامية خصوصا أن التشريعات العقابية وغير العقابية تمتلئ بالعديد من النصوص التي تنظر إلي النشر الصحفي والبث المسموع والمرئي وممارسة حرية التعبير عموما أنها أنشطة خطرة غاية الخطورة ويجدر إحاطتها بسياجات قوية من المحظورات والقيود‏,‏ علاوة علي ان المشرع العربي يرجح اعتبارات الامن والمصلحة العامة علي قيم الحرية والتعددية وحقوق الإنسان‏.‏
فكيف يمكن للصحفيين وأهل الفكر والرأي أن يباشروا عملهم وأن يعبروا عن آرائهم‏,‏ مع ضمان حد أدني من أمنهم الشخصي في ظل وجود هذا الكم الهائل من النصوص العقابية التي تطبقها اجهزة القضاء في وقت يختلط فيه مفهوم صالح الوطن بمصالح السلطة الحاكمة ومصالح رجال الاعمال والمستثمرين‏.‏
كما ان المشرع العربي ينظر بريبة شديدة الي مبدأ حرية تداول المعلومات وحق الصحفيين والمواطنين عامة في الحصول علي المعلومات‏,‏ ويكاد يكون المبدأ الحاكم في هذا الشأن هو مبدأ الحظر لا الإباحة والتقييد لا الاتاحة‏,‏ وتمتلئ التشريعات العربية بالنصوص التي تحدد المعلومات المحظور تداولها أو نشرها‏,‏ مثال المادة‏77‏ من قانون نظام العاملين بالدولة في مصر‏,‏ ويحظر علي العاملين التعامل مع الصحف إلا بإذن كتابي من رؤسائهم‏,‏ وكذلك قانون نشر الوثائق الرسمية رقم‏121‏ لعام‏1975‏ الذي يحظر الحصول علي المستندات والوثائق التي تتعلق بالسياسة العليا أو الأمن القومي ونشرها إلا بتصريح خاص من مجلس الوزراء‏.‏
الحقيقة الثانية‏:‏ علي الجانب الآخر يشكو رجال القانون وعلي الأخص القضاة من التجاوزات التي ترتكبها وسائل الإعلام والتي مست صميم وجوهر مهنة القضاء‏,‏ تلك التجاوزات التي لاتستند الي اي اساس معرفي او مهني او التزام اخلاقي‏,‏ فالإعلاميون أصبحوا منشغلين بأمور تعد من صميم عمل القاضي فيما يتجاهلون الجوانب الاخري للقضايا وعلي الاخص الابعاد الاجتماعية ـ الثقافية‏.‏
ومن هنا جاءت معاناة القضاة من الصخب الإعلامي وتداعياته السلبية علي الأحكام القضائية‏,‏ إذ لا يمنح للقاضي فرصة التفرغ النفسي والذهني وتحقيق التوازن العادل في صياغة الأحكام قبل اصدارها‏.‏
فالصحافة والإعلام المرئي لايلتزمان بالأصول المهنية والأخلاقية في تغطية ومتابعة القضايا المنظورة أمام القضاء‏,‏ إذ سقط من اهتمام الإعلاميين الحد الفاصل بين الابعاد المهنية التي ترتبط بدور القاضي وبين الابعاد السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية للقضايا‏.‏
ويمكن الاستشهاد ببعض الأمثلة‏:‏
قضية هشام طلعت مصطفي كان الأجدر أن ينشر الإعلام تحقيقات عن الثراء الفاحش غير المبرر وانعكاس ذلك علي سلوكيات أبناء الطبقة الجديدة والعلاقة بين المال والسلطة والعلاقة بين السلطة والجريمة وقضية العبارة وضحاياها لـ‏1300‏ قتيل‏.‏
لقد اهتمت الصحف بالحكم الذي سيصدر وتجاهلت علاقة ملاك النقل البحري بالسلطة وقدرة الفساد علي تعطيل سلطة القانون ومافيا النقل البحري وضرورة مواجهة ذلك علي المستوي التشريعي الدولي والوطني‏.‏
هذه هي القضايا التي كانت أجدر بالتناول الإعلامي من اجل اعادة ترتيب أوضاع المجتمع وان يترك للقاضي المهمة الفنية في التعامل مع تلك القضايا بآليات القضاء التي تصل الي اربع درجات تقاض‏,‏ علاوة علي الخبرة الفنية وتوافر الاجهزة الاخري المعاونة للقضاء مثل النيابة العامة وخبراء العدل والطب الشرعي‏.‏
هذه هي آليات القاضي ولايمكن ان تكون الصحافة او الإعلام احدي آلياته‏,‏ وهذا التداخل في الأدوار أدي الي الاشتباك‏,‏ ومن ثم الصراع ولن يفض هذا الاشتباك إلا من خلال التنسيق‏,‏ بحيث يلتزم كل من الإعلام والقضاء بحدوده المهنية المتخصصة وبآلياته وأدواته‏.‏
الواقع أن هذا التداخل دائما ما تكون ضحيته العدالة والوعي الجمعي‏,‏ خصوصا عندما يشكك الإعلام في نزاهة القضاء بدون دليل‏,‏ وأحيانا يمارس الارهاب المعنوي ضد القاضي‏,‏ واحيانا يؤلب الرأي العام ويحرفه في اتجاه خاطئ لايخدم العدالة وينطبق ذلك علي القضايا المنظورة أمام القضاء بصورة خاصة‏.‏
الحقيقة الثالثة‏:‏ هناك كثير من التحديات التي تواجه كل من القضاء والإعلام وتؤثر علي ادائهما المهني وتأثيرهما المجتمعي وتتمحور حول الاختراقات العديدة ومحاولات الاحتواء التي تمارس علي الضفتين‏(‏ الإعلام والقضاء‏)‏ وتتمثل بالنسبة للإعلام والصحافة في سطوة السلطة التنفيذية والمؤسسة الأمنية ورجال الاعمال والمستثمرين من خلال الإعلانات‏,‏ علاوة علي الاختراق النفطي والاختراق الصهيوني ـ الأمريكي‏.‏ أما بالنسبة للقضاء فهناك منظومة ثلاثية من الضغوط تشمل ضغوط السلطة التنفيذية ودوائر التشريع واختراق رجال الاعمال والمستثمرين الذين يسعون بدأب لتشكيل مجموعات خاصة من اصحاب المصالح داخل القضاء المصري من خلال انتداب القضاة في المؤسسات والشركات الكبري‏.‏
ولاتبدي الصحافة ادني اهتمام بهذه القضية خصوصا مشروع اكاديمية القضاء الذي كان يعتبر أحد اهتمامات وزارة العدل في منتصف الثمانينيات‏,‏ وكان يهدف الي تكوين القضاة الشبان من خلال التدريب والتثقيف الرفيع وضرورة حصولهم علي دبلوم يكون شرطا للقبول بسلك القضاء‏.‏ كما يتعرض القضاء المصري للاختراق الاجنبي خلال برامج المنح الامريكية وبرامج التدريب‏.‏
كذلك يشكو القضاة من تدني المرتبات ولكن يمنعهم الحياء والكبرياء من طرح هذه المشكلة‏,‏ وهناك قلق متنام في دوائر القضاء بسبب تزايد اعداد المعينين من ضباط الشرطة وخريجي كليات الشريعة‏.‏
الحقيقة الرابعة‏:‏ تتعلق بالدور التاريخي الرائد الذي قامت به الصحافة المصرية في توحيد القضاء المصري بإلغاء القضاء المختلط‏,‏ كما ان زعماء الحركة الوطنية كانوا من القضاة ورجال القانون ويتصدرهم مصطفي كامل ولطفي السيد ومحمد فريد وقاسم أمين وسعد زغلول ومكرم عبيد فالمدرسة القانونية قادت الحركة الوطنية من خلال الصحف حيث كانوا يمثلون جسرا من التواصل الفكري والثقافي بين الفكر القانوني والرأي العام ونجحوا في ارساء مبدأ حق القاضي في التعبير عن قضايا الوطن ولم يخل ذلك بواجباتهم الوظيفية ونحن في حاجة الآن الي إحياء هذا التراث الايجابي في علاقة الصحافة والإعلام بالقضاء‏.‏
أما الحقيقة الخامسة والاخيرة‏:‏ فتتعلق باستقلال القضاء الذي تعرض لهزة عنيفة ترجع الي موقف القيادة السياسية لثورة يوليو من القضاء‏,‏ فقد كانت هناك فجوة بين السلطة السياسية للثورة وبين القضاء‏,‏ حيث بدأ الصراع بينهما عندما بدأت الثورة خلال الحقبة الناصرية في تفعيل سياسات الاصلاح الاجتماعي وكانت منظومة القضاء تضم وجهاء القوم من الشرائح العليا من الطبقة الوسطي وكانوا ينتمون للفكر الليبرالي ومن هنا حدث الصدام مع ثورة يوليو‏,‏ هذا وقد تغير الانتماء الاجتماعي للقضاة في اطار التحول الاجتماعي الذي احدثته الثورة‏,‏ فأصبح معظم القضاة ينتمون للطبقات الشعبية التي حرمت طويلا من التعليم الجامعي‏,‏ ولكن وصل ابناء الطبقات الشعبية الي القضاء في اطار نفس المنظومة الفكرية والقيمية المحافظة وانفصلوا عن طبقاتهم وانعكس ذلك علي مواقفهم تجاه القضايا ذات الطابع الاجتماعي‏.‏
وأصبحت خريطة القضاة تضم ثلاث شرائح‏:‏ القدامي من القضاة وينتمون الي المنظومة الليبرالية القديمة ويرون فيها زهو القضاء وشموخه‏,‏ اما الشريحة الوسطي من الاجيال التالية فقد انقسمت علي ذاتها فهي تعاني من انتمائها الي اصول شعبية وتحاول التعلق بمنظومة القضاء القديم‏.‏
اما الشريحة الثالثة من القضاة فهي تضم هؤلاء الذين اكتسبوا الثقافة القانونية والوعي الاجتماعي واصبح لديهم مساحة من التوازن الاجتماعي والالتزام المهني‏,‏ وهناك الشريحة التي تقلبت بين الفكر الليبرالي وفكرة ثورة يوليو واحتفظت بشرفها المهني والانساني وكانت تطمح في تحقيق المجتمع الديمقراطي واحلام النخبة السياسية وهؤلاء أصيبوا بالاحباط‏.‏
ما العمل‏:‏ البدائل المطروحة
لاشك ان التحديات التي يطرحها الواقع الراهن الملئ بالازمات المتشابكة التي طالت مجمل الواقع المجتمعي بما فيه الإعلام والقضاء يفرض ضرورة تبني استراتيجية مشتركة قادرة علي تجاوز الصراعات والاختراقات والانتهاكات والمخاطر‏,‏ فإذا كانت مهنة القضاء تقتضي السرية والتكتم في معظم مراحل العملية القضائية فان مهنة الإعلام تقوم علي العلانية والإشهار والنقد والكشف عن الفساد والظلم الاجتماعي وسوء الإدارة‏.‏
وإذا كان القضاة يلحون في ضرورة ضمان استقلال القاضي عن تأثير الإعلام والرأي العام فإن السؤال المطروح‏,‏ هو هل استقلال القضاء مهدد فقط من جانب وسائل الإعلام وتأثير الرأي العام؟
اخيرا لاشك ان هناك مسئولية مشتركة تقع علي عاتق كل من الاعلاميين والقضاه من اجل السعي لتحقيق الاستقلال الفعلي للقضاء‏.‏

azazystudy

مع أطيب الأمنيات بالتوفيق الدكتورة/سلوى عزازي

  • Currently 55/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
19 تصويتات / 90 مشاهدة
نشرت فى 7 أغسطس 2010 بواسطة azazystudy

ساحة النقاش

الدكتورة/سلوى محمد أحمد عزازي

azazystudy
دكتوراة مناهج وطرق تدريس لغة عربية محاضر بالأكاديمية المهنية للمعلمين، وعضوالجمعية المصرية للمعلمين حملة الماجستير والدكتوراة »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

4,794,917