مفهوم التنوير بين الواقع والحقيقة
بقلم : د. محمد عبدالستار نصار
لابد من الإشارة في بداية هذا المقال, إلي أن من الظلم البين أن تحمل المفاهيم والمعاني غير ما تحتمل, بل ربما تفسر بعكس وضعها اللغوي, وما يؤدي إليه من معني, وهو ظلم تمليه عوامل نفسية أقل ما يقال فيها.
إنها تشكل الانهزام الداخلي للانسان الذي يتعامل بها. من تلك المفاهيم المظلومة مفهوم التنوير وإيحاءاته اللغوية. ودون أن نرجع إلي قواميس اللغة لندرك المعني الحقيقي لهذا المفهوم, يكفي ان نشير إلي أنه ـ ببساطة شديدة ـ يعني: الضوء الساطع الذي في ظله تظهر الأشياء علي حقائقها للناظرين. وهو ضد الظلام الذي لا يدرك به الانسان شيئا حتي موضع قدميه, والذي يعيش في الظلام هو والأعمي سواء, حتي ولو كان يتمتع بما كانت تتمتع به زرقاء اليمامة من حدة البصر.
* وربما كانت هذه المقدمة لازمة لأن مفهوم التنوير قد أريد به في لغة من يدعون بالمثقفين التنويريين, غير المعني الذي تدل عليه قواميس اللغة ومعاني ألفاظها. فضلا عن إيثار الاتجاه المعاكس لما جاء به القرآن الكريم ـ وهو دستور الأمة الاسلامية بلا منازع ـ وقد أكد أن رسالة الانبياء عليهم الصلاة والسلام قد تركزت في غاياتها حول إخراج الناس من الظلمات إلي النور, وحسبي في هذا السياق آية واحدة من آيات الكتاب الحكيم, يقول فيها: آلر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلي النور بإذن ربهم إلي صراط العزيز الحميد( سورة: ابراهيم: الآية الأولي).
* ان أولئك الذين طاوعتهم اقلامهم وألسنتهم, وصورت لهم أخيلتهم أن الانفلات من الدين ـ بمعناه الصحيح, الذي جاء به الانبياء جميعا والانفكاك من ضوابطه واحكامه, وعقائده واخلاقه, هو التنوير وان من يخالفهم في تصورهم هذا فهم الظلاميون أقول: هؤلاء هم الأحق بأن يقال عنهم إنهم هم الظلاميون وإلا فبأي وصف نصف من يلغي بمقال أو محاضرة, رسالات الحق سبحانه وكتبه ومواكب انبيائه ومن خلفهم من الدعاة والمصلحين؟
* إن هذا الاقصاء الذي لا مبرر له من عقل ولا واقع ولا تاريخ, للدين الحق, وما يحدثه في جنبات الحياة كلها فردية وأسرية واجتماعية وانسانية, من تأكيد الصلة في وضعها الصحيح بين الحق سبحانه, الخالق البارئ المصور, وبين عباده في تجلي هذه العلاقة في طريق واحد سماه الصراط المستقيم وجعل ما دونه سبلا يتخبط سالكها في حياته, قبل ان يدرك مصيره المظلم, إنما يدل علي سوء في الفهم وخطأ في التصور. وكأني بهؤلاء بتصوراتهم هذه قد اخذوا من الثنائية التي بثها الحق سبحانه في ثنايا كتابه العظيم أدني طرفيها, وبالتالي أظلمها فقد قال هذا الكتاب العزيز فماذا بعد الحق الا الضلال... كما قال: فمن شاءفليؤمن ومن شاء فليكفر... واعتقد ان الاستنتاج المنطقي المترتب علي هذه المقدمات الواضحة, والتي لا يملك العقل السليم ردها, ينتهي إلي أن تكون دعوة هؤلاء هي التي تؤدي إلي الظلام والضبابية وليس الدين الذي لا يفهمونه. وإنما يفترون عليه دون أثارة من علم.
* وإذا كان الأزهر هو حامل لواء التنوير الصحيح منذ إنشائه, باعتباره المؤسسة العالمية المعبرة عن الإسلام في وسطيته فإن بعض التجليات التي أحدثها بعض ابنائه البررة ممن قدر لهم ان يذهبوا إلي فرنسا في القرن الماضي ليطلعوا علي مناهج الفكر الغربي في أهم مراكزه جامعة السوربون وليدركوا في نفس الوقت قيمة ما يملكون من علم حقيقي يسبقه دين صحيح, تفاعل مع العقل الصريح, فأحدث من التنوير ما شاء الله له ان يحدث, اقول: هذه التجليات لم تقف عند مجرد النبوغ العلمي فحسب, بل تجاوزته إلي السمو الروحي والاخلاقي, حتي اصبح سلوك هؤلاء دعوة حية إلي الإسلام تتضاءل دونها المحاضرات والمقالات.
* من أولئك العلماء الاجلاء الذين اثروا كثيرا في نفوس من عرفهم من الفرنسيين. الشيوخ الدكاترة: محمد عبدالله دراز ـ محمد يوسف موسي ـ عبد الحليم محمود ـ احمد الطيب, حيث اسلمت علي يد بعضهم بعض الاسر الفرنسية, كما ان الجانب العلمي لديهم قد أثر كثيرا في مشرفيهم ومناقشيهم من الغربيين, وحسب القارئ ان يرجع إلي ما قيل عن العلامة الشيخ الدكتور محمد عبدالله دراز ـ من قبل اساتذته, حين بهرتهم لغته الفرنسية العظيمة, التي فاقت لغة المتخصصين فيها من الفرنسيين انفسهم هذا فضلا عن الدقة العلمية المتناهية التي اشتملت عليها اطروحته لدكتوراه الدولة وقد كانت عن الاخلاق والقرآن الكريم.
* وإذا كان من ذكرناهم ممن درسوا في فرنسا علي هذه الصورة المشرقة, فإن غيرهم من الأزهريين ممن درسوا في جامعات في بلاد اخري ـ قد ادوا تلك المهمة العظيمة في أن يسمع الغرب صوت الأزهر الواضح الجلي, حامل لواء التنوير بالمعني الحقيقي, وحسبنا ان نذكر من هؤلاء الشيوخ الدكاترة: محمد البهي ـ محمد عبد الهادي أبو ريدة ـ وهو أزهري الثقافة والروح ـ علي حسن عبد القادر ـ محمود حسب الله ـ محمد عبد الرحمن بيصار ـ عبد الرحمن تاج ـ حمودة غرابة, ثم يأتي رأس هذه السلسلة المباركة الشيخ مصطفي عبد الرازق, الذي يعتبره الكثيرون, الأب الروحي والعلمي لكثير ممن اثروا التخصص في الفلسفة.
* والأزهر الشريف يقوده اليوم أحد ابنائه البررة, يساعده في النهوض به ثلة من إخوانه المخلصين, حتي يستعيد مكانته اللائقة به, وهو اذكي من أن تدبج له بعض المقالات ـ لتعرفه ان العلمانية هي الحل, يضاف إلي ذلك انه الصوفي النقي, الذي يدرك ان قدر الانسانية الراشدة, انما هو الإسلام, لأنه رحمة الله للعالمين, وان ما يزاحمه من مناهج اخري, فإن مصيرها لن يتجاوز مصير المناهج المتقلبة, التي تعبث بها عقول ضلت الطريق, حين أحلت نفسها محل الإله, ولا يمكن ان نري مثلا لتلك المناهج أوضح مما بين أيدينا من شيوعية فشلت في مهدها, فضلا عن امتدادها اللا مشروع, الذي اكدته القوة المسلحة الغشوم, ورأسمالية تتلقي ضربات بين الحين والآخر, كلما أمعنت في التحرر المنفلت, فيما يسمي باقتصاد السوق أو الاقتصاد الحر, وكان آخر صيحات بعض رموزها المعتدلين أن النهج الاقتصادي في الإسلام هو السبيل الامثل. وما يقال في الاقتصاد يقال في السياسة, لأنه صانعها ومحركها.
* وبعد: فليس هذا المقال موجها إلي أحد بعينه, لأنه ارفع من ذلك, بل تصد لظاهرة كلامية ينادي بها أناس ظنوا انهم التنويريون وما هم منه في شيء لأنهم لم يدركوا حقيقته اللغوية والمعنوية.
ساحة النقاش