درس شوقي لشعراء مصر4
بقلم: فاروق شوشة
لم يترك شوقي ــ أمير شعراء العصر الحديث ــ فرصة أو مناسبة للحديث عن الآثار المصرية القديمة, وعجائب ما أنجزته الحضارة الفرعونية,
إلا وانتهزها للإشارة إلي من كانوا ملء سمع الزمان وبصره, تفوقا في العلم والابتكار والتشييد, وللتعبير عن انتمائه العميق لروح هذه الحضارة وجوهرها, وكأنه يهيب بالمصريين ــ والاستعمار الإنجليزي جاثم علي صدورهم ــ أن يحسنوا الالتفات إلي هذا الماضي العريق, وأن يستلهموه عزيمة النهوض والتحرر وكسر القيود, قيود التخلف, وقيود الهوان!
من هنا, فهو ينتهز مناسبة تكريم أديب لبناني مهجري كبير هو أمين الريحاني الذي عاش بين عامي1940,1876, عندما جاء في زيارة إلي مصر, فأقام له بعض الأدباء حفلا علي سفح الأهرام, شارك فيه شوقي, ولأنه يلاصق الأهرام بعينيه ووجدانه, فقد انطلقت شاعريته بقصيدته البديعة:علي سفح الأهرام.
قف ناج أهرام الجلال, وناد: هل من بناتك مجلس أو ناد؟ وصولا إلي قوله:قل للأعاجيب الثلاث مقالة: من هاتف بمكانهن وشادر لله أنت, فما رأيت علي الصفا: هذا الجلال ولا علي الأوتاد/ لك كالمعابد روعة قدسية: وعليك روحانية العباد/ أسست من أحلامهم بقواعد.. ورفعت من أخلاقهم بعماد/ تلك الرمال بجانبيك بقية: من نعمة, وسماحة, ورماد/ إن نحن أكرمنا النزيل حيالها: فالضيف عندك موضع الإرفاد
والأهرام أو الأهرامات الثلاثة هي الأعاجيب الثلاث بلغة شوقي, صنعتها العقول والإرادة الفذة, وبقيت تتحدي الأزمان والعصور, عظمة وشموخا ونباهة شأن.
وتحين ذكري اللورد هربرت كارنارفون الخامس(1866 ــ1923) الذي أوفد اللورد هوارد كارتر(1873 ــ1939) ليقوم بمسح شامل لوادي الملوك, فعثر علي مقبرة توت عنخ آمون عام1922, وتوفي كارنارفون في القاهرة ليلة الخميس5 أبريل سنة1923 بفندق الكونتننتال, وكانت قد عضته بعوضة, فتم تطبيبه خمسة عشر يوما, ولم تكد تزول أعراض التسمم نتيجة العضة, حتي توفي بذات الرئة التي أصيب بها, وقيل بل هي لعنة الفراعنة, قضت عليه بعد أن جرؤ علي اقتحام سر الأسرار وقدس الأقداس في مقبرة الملك الشاب واكتشاف ما تحويه من كنوز ثمينة ــ تحين ذكري كارنارفون, فيخرج شوقي علي الناس المتابعين لما حدث ــ في مصر وفي خارجها ــ بقصيدة يقول فيها:
في الموت ما أعيا وفي أسبابه: كل امريء رهن بطي كتابه/ أسد لعمرك من يموت بظفره:.. عند اللقاء كمن يموت بنابه/ إن نام عنك فكل طب نافع: أولم ينم فالطب من أذنابه
وصولا إلي اللورد كارنارفون نفسه, وعظة الموت فيه, وآثار اكتشافه المدوي, في عقد دري من الأبيات البديعة:
أخني الحمام علي ابن همة نفسه: في المجد, والباني علي أحسابه/ لم يأله صبرا, ولم ين همة:.. حتي انثني بكنوزه ورغابه/ أفضي إلي ختم الزمان ففضه:.. وحبا إلي التاريخ في محرابه/ وطوي القرون القهقري حتي أتي:.. فرعون بين طعامه وشرابه/ المندل الفياح عود سريره.. واللؤلؤ اللماح وشي ثيابه/ فتري الزمان هناك قبل مشيبه:.. مثل الزمان اليوم بعد شبابه
وأشهد كم كان موسيقارنا العبقري محمد عبدالوهاب دائم الترديد والإنشاد للأبيات الأخيرة, وبخاصة البيت الذي يصور فيه شوقي أن هذا المكتشف العظيم نجح في أن يطوي الزمان ويعود به إلي الوراء, فإذا بنا نطالع الفرعون الشاب, توت عنخ آمون, بين طعامه وشرابه, كلما دار الحديث من حول شوقي وعبقريته الشعرية, وكان الشاعر كامل الشناوي بصوته العريض العميق القرار, وذائقته الشعرية المرهفة يأخذ بمجامع لب محمد عبد الوهاب وقلبه, تقليبا في ديوان الشوقيات, وطوافا حول بدائعه وتجلياته الدائمة التوهج والحياة.
الطريف أن توت عنخ آمون, بكنوزه وموميائه, لايزال يشغل العالم حتي اليوم, ويزداد الناس به افتتانا يوما بعد يوم, وربما كان وعي شوقي ــ التاريخي والأثري ــ بعظمة هذا الاكتشاف وراء توقفه أكثر من مرة, وفي مناسبات عدة, للحديث عنه, بأكبر مما تناول الأهرام أو أبا الهول أو معابد أنس الوجود, التي لم يكن هناك جديد بشأنها في زمن شوقي, أما اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون, فقد كان هو الحادث المثير للدهشة واللافت لاهتمام العالم, فواكبه اهتمام شوقي شاعر مصر, الذي صاغ رسالته الشعرية علي هذه الصورة:وأنا المحتفي بتاريخ مصر:. من يصن مجد قومه صان عرضا.
فقدم لكل الشعراء في زمانه, ومن بعده, درسا في الوطنية والانتماء, وإيقاد شعلة البعث والتنوير, وصناعة النهضة, التي عاشتها مصر في الماضي, ولا مفر من استنباتها في الحاضر, إن كان لدينا أمل في مستقبل!
ساحة النقاش