بقلم: د. علاء عبدالهادى
جاء حكم من ذهبوا إلي أن العرب لم يعرفوا فن المسرح, إلا بعد دخوله علي يد مارون النقاش1847 م, أشد تسرعا واندفاعا ممن أرادوا إثبات وجود هذا الفن في تراثنا العربي.
أوضحنا في مقال سابق أن المسرح ليس اختراعا إغريقيا, وأن معظم شعوب العالم, قد عرفت نظائره علي نحو أو آخر, وقد انقسم من عالجوا هذه القضية النظرية من النقاد والباحثين المسرحيين إلي فريقين; فريق رأي أن العرب عرفوا مظاهر مسرحية, أو بذورا, أو إرهاصات... إلي آخر تلك الأسماء التي تفتقد الحسم, وذلك دون أن يقدم هؤلاء مفهوما نظريا مختلفا عن المسرح بصفته نوعا, بل إن من عالج منهم مسألة النوع المسرحي قبل الحكم علي وجود المسرح العربي من عدمه في تراثنا وموروثنا العربيين رجع في استشهاداته, وتعريفاته, وبنيته المفهومية إلي خطاب نظري أوروبي النشأة والبناء, قام علي معاينة واقع مسرحي في بيئة ثقافية مختلفة بنائيا عن بيئة ثقافتنا العربية, وانقسم هذا الفريق إلي قسمين, الأول اهتم بقضية معرفة العرب لفن الدراما, باحثا عنها في نصوص تراثية, أو ميثولوجية, وتعامل القسم الثاني مع ظاهرة العرض مباشرة, بصرف النظر عن وجود نص درامي يسبقه, ولن نعدم من خلطوا بين الحكمين, بحيث أصبح وجود الدراما في نص من نصوصنا التراثية, دليلا علي معرفة العرب لفن المسرح!
أما الفريق الآخر الذي ذهب إلي أن العرب لم يعرفوا فن المسرح, إلا بعد دخوله علي يد مارون النقاش1847 م, فقد استندت أحكامه علي تجليات النوع المسرحي بمفهومه الجمالي الغربي, وما يظن أنها أصوله, مع إسقاط المفاهيم الحديثة التي بلغت أعلي أطوار نضوجها الفني, وانتشارها, عند الحكم النوعي علي نظائر المسرح العربي الموجودة في تراثنا وموروثنا العربيين, دون الانتباه إلي أن غياب كلمة مسرح بمعناها الفني عن معجمنا الأدبي_ إلا حديثا- لا يعني غياب ما تدل عليه هذه الكلمة في الواقع.
وأقتبس هنا من محمد يوسف نجم في واحد من أهم كتبه, وأكثرها ذيوعا وتأثيرا, اقتباسا دالا علي منهج هذا الفريق الرافض لوجود مسرح عربي سابق علي مسرحية مارون النقاش1847 م, يقول نجم' إذا أردنا الحديث عن المسرح بوصفه فنا له أصوله وآدابه, علينا أن نسقط من حديثنا ألوان الملاهي الشعبية التي قد تحوي مشابهات مع هذا الفن ولكنها تختلف عنه اختلافا جذريا, إذ لابد من التحديد الدقيق, والذي يهيئ لنا تميز هذا الفن عن غيره من ألوان التسلية الشعبية', ولم يقدم الباحث في طول كتابه وعرضه هذا التحديد الدقيق الذي نستطيع به- علي مستوي النوع- إقامة التمييز الذي أشار إليه!
يثير هذا الحكم القاطع عددا من الأسئلة التي يصعب غض الطرف عنها أهمها: ما الحدود التي يصح بها الانتساب إلي هذا الفن في رأي نجم, هل هي حدود المسرح الإغريقي التي هشمها عدد كبير من الاتجاهات الفنية فيما بعد, واختلف معها عدد أكبر, وأثبت آخرون أن هناك عددا كبيرا من فنون الأداء العالمية التي لم تخضع لجماليات المسرح الغربي رغم انتمائها إلي المسرح وفق ما نجده في تقاليد المسرح الهندي, والكوري, والياباني...إلخ! ألا يحق لنا أن نسأل لم أسقط الباحث- بجرة قلم- ألوان الملاهي الشعبية العربية, وقد أشار إلي تشابه بعضها مع الفن المسرحي في بداية عبارته, ثم أشار إلي اختلافها اختلافا كبيرا في نهاية عبارته, من دون أن يحدد هذا أو يؤسس لذاك! ألم تكن نظائر المسرح في أشكاله الغربية الأولي شعبية مثل الديثرام, عربة ثسبس...إلخ.
علي النحو ذاته يقدم محمد مصطفي بدوي حكمه في هذه المسألة في كتابه المنشور باللغة الإنجليزية( الدراما العربية الحديثة) يقول بدوي' إنه من الحقائق الراسخة أن الدراما العربية الحديثة قد استعيرت من الغرب علي نحو فردي عن طريق مارون النقاش في لبنان عام'1847', ويعقوب صنوع في مصر'1870'. أكان أول دخول للدراما_ في الوطن العربي- علي يد مارون النقاش حقا؟ أم عرف العرب الدراما في كثير من نصوصهم الكلاسية وأدبهم الشعبي؟ أم كان قصد بدوي بالدراما- في عبارته تلك- النصوص المعدة للتمثيل فحسب؟ ولم يغض بدوي الطرف عن أن الدراما تدخل في فنون عديدة غير المسرح؟ وهو مثال آخر عن فساد منطق الحكم.
ويذهب إلي الرأي ذاته عبد الرحمن ياغي قائلا' والحق أن الدارسين الجادين في هذا المجال قد أجمعوا علي أن الجهود المسرحية في هذا الإطار, وعلي هذا النحو الذي ظهرت فيه في البلاد العربية, كانت جديدة كل الجدة, بل لم تجاوز النصف الأول من القرن التاسع عشر إلي الوراء بكثير!' ويضيف أنه' في ظل هذه المناقشات, نستطيع أن نطوي الصفحات التي قيل فيها ما قيل حول أهمية خيال الظل وأهمية الأراجوز, وأهمية صندوق الدنيا, ونتقدم بجرأة نحو مسارب الجهود المباشرة التي شقها رواد المسرح العربي منذ النصف الأول من القرن التاسع عشر' ولم يذكر لنا الباحث, لم استثني أكثر من أربعة عشر شكلا من شكول الأداء الفني, أشرنا إليها في مقالنا السابق, لها حضورها القوي والمؤثر في ثقافتنا, وتحتاج إلي مناقشة علمية دقيقة لحسم انتمائها من عدمه إلي المسرح.
وتري حياة جاسم محمد' أن ما وجد في تراثنا من ظواهر قد تضم بعض العناصر المسرحية ليس مسرحا!' ثم تسأل' لماذا نصر اليوم علي مسرحة ما لم يكن مسرحا؟ وعلي بعث مسرح عربي جديد من مسرح عربي قديم لم يوجد أصلا'! تري, هل يمكننا قبول هذا الحكم النقدي السهل الجامع المانع هكذا! دون أن نسأل الباحثة عن مفهومها عن النوع المسرحي الذي يبرر لها هذا النفي بكل هذا اليسر والثقة!
ويذهب محمد مسكين إلي أن من رأي من النقاد في هذه النصوص أو المظاهر مسرحا عربيا, لا يعدو أن يكون في حقيقته نوعا من التبرير, مؤكدا أن المسرح نما وترعرع خارج التربة الأصلية للتاريخ العربي(...) وأن جل الدراسات التي حاولت التأريخ للمسرح العربي قد سقطت في هوس البحث عن الغائب, وحين لم تجده, بحثت عن ظلاله(...) وأن هذه الدراسات(...) لم تبحث عن تاريخ للمسرح العربي إلا بهدف الاحتماء, وأن هذا التاريخ هو تاريخ عاطفي لا يعبر عن منطلقات واقعية عقلانية'...إلخ. وهو حكم يبدو في مظهره منهجيا وجادا, رغم مايحمله في نتيجته من فساد, بل إن هذا الكلام لا يزيد علي محض رطانة, كونه غير مسبوق بتأسيس, أو قائم علي استدلال..
لقد طرحت هنا قصدا عددا من آراء منظرين, وباحثين مسرحيين أنكروا وجود مسرح عربي في تراثنا, وموروثنا العربيين, لأعيد طرح ما أسقطته هذه الأحكام من أسئلة, ولأوضح أن جزءا مهما من الخطاب النقدي الذي شكك في معرفة العرب لفن المسرح في تراثنا وموروثنا الممتدين, قد قام علي منظور النقد الغربي للعمل المسرحي, فتعامل مع أصل النوع_ أو ما يظن أنه كذلك- بصفته النوع ذاته, الأمر الذي جعل عددا من جهود الباحثين النقدية- عند تناولها للفنون الأدائية لشعوب لم تعرف المسرح في شكله الأوروبي- شديدة الميل إلي التعامل مع هذه الأعمال بوصفها أعمالا بدائية تخلو من الوحدة, وتفتقر إلي النظام, ولايقبل الرأي العلمي صحة انتمائها إلي النوع المسرحي! وللحديث بقية.
المزيد من مقالات د. علاء عبدالهادى<!-- AddThis Button BEGIN <a class="addthis_button" href="http://www.addthis.com/bookmark.php?v=250&pub=xa-4af2888604cdb915"> <img src="images/sharethis999.gif" width="125" height="16" alt="Bookmark and Share" style="border: 0" /></a> <script type="text/javascript" src="http://s7.addthis.com/js/250/addthis_widget.js#pub=xa-4af2888604cdb915"></script> AddThis Button END -->
ساحة النقاش