بقلم: د. طه عبد العليم
طرح سؤال' الشعب المحارب' كجزء من الحرب النفسية الضارية علي مصر, بالتشكيك في الشخصية المصرية بعد عدوان وهزيمة يونيو.1967 لكن الصحيح عكس هذا تماما, لأنه كما جعل النيل المصريين صناع الحضارة علي مدي التاريخ.
فإن موقع مصر الجغرافي قد جعلهم شعبا محاربا مقاتلا. وقد كانت حرب أكتوبر1973 لتحرير سيناء أحدث دليل قاطع علي أن المصريين شعب محارب وأحدث تكذيب دامغ لنظرية الشعب غير المحارب, كما سجل جمال حمدان في بحثه عن شخصية مصر.
والواقع أن مصر لم تكف منذ فجر التاريخ عن المعارك والحروب, للمصريين أول سجل وأطول تاريخ معروف في الحرب والقتال. ولآلاف السنين تحلي المصري بالشجاعة الوطنية الفائقة والصلابة العسكرية النادرة في مجال الحرب. وشهدت مصر حروبا داخلية طاحنة اشتعلت نارها مئات السنين وانتهت ببناء دولة الوحدة بين الصعيد والدلتا بقيادة مينا في عام3200 ق. م! وكانت للملك' مينا' وخلفائه معارك حربية مهمة لصد غارات الزاحفين الذين سمتهم النقوش الفرعونية بالخاسئين! وخاضت أجيال من المصريين أول حركة تحرر وطني في التاريخ حتي دحرت وطردت الهكسوس. أخذ علي الإمبراطورية المصرية الفرعونية إفراطها في النزعة العسكرية والإسراف في الحروب. وأوصي نبي الإسلام العرب إن أتيح لهم فتح مصر أن يتخذوا فيها' جندا كثيفا لأنهم خير جند الأرض', ووظيفتهم الدفاع' في رباط إلي يوم القيامة'. واعتبر نابليون أن المصري خامة مثلي للجيش المقاتل, وقال إنه لو كانت كل جيوشه كالمصريين لملك العالم! واستبدل محمد علي المصريين بالجند الأتراك والألبانيين, وكانوا هم كل جيوشه وبهم حقق إبراهيم كل انتصاراته!
لقد كان شعب مصر دائما شعبا محاربا تماما كما كان شعبا بناء, وكان المصري قديما وحديثا هو الإنسان المحارب كما كان الإنسان الصانع. ويسجل جمال حمدان, المنظر المصري للقومية العربية, أن كلمة الدفاع هي الكلمة المفتاح, لأن شعب مصر كان يختلف عن الشعوب المحيطة من رعاة وبدو وأشباه بدو ورحل. فمصر غنية تغري بالطمع فيها بينما لا تجد في بيئتهم الفقيرة ما يغريها أو يدفعها إلي الاستيلاء عليهم. وهم لا يملكون ما ينفقون فيه طاقتهم إلا الهجوم والغزو, فهم محاربون باليدين, ولكن مصر بالضرورة تبني بيد وتحارب بالأخري. ولهذا لم يكن لمصر جيشا قائما دائما تحت السلاح, وإنما كانت جيشا احتياطيا مستعدا للاستدعاء عند أي خطر خارجي. لقد كانت مصر دائما شعبا محاربا, ولكن دون أن تكون دولة محترفة حرب, لأنها محارب مدافع أساسا, لا محارب معتد. فمصر الغنية لا تجد مصلحة في العدوان, لكنها كانت تحارب وتغزو وتتوسع طوال التاريخ للدفاع.
وبعد قرون وقرون من المجد والتألق والقوة والحضارة, تجمدت مصر وتخلفت إلي حد أو أخر لمدة طويلة بعد الفراعنة وحتي محمد علي. لكن الشعب المصري لم يستكن ولا استسلم أبدا في مواجهة الاستعمار, ولا انقطعت مقاومته الإيجابية والسلبية. وتوقف توزيع الأدوار الوطنية علي الموقع وجهة مصدر الخطر الخارجي. فإن أتي الغزو من الشمال تلقت الدلتا بالضرورة الضربة الأولي, بينما يظل الصعيد المعقل الأخير, كما حدث في الصراع مع الهكسوس والأشوريين. والعكس صحيح إذا أتي الخطر من الجنوب, كما حدث في الصراع مع الإثيوبيين.
ومنذ بسط الاستعمار الفارسي نفوذه علي مصر لم تنقطع ثورات التحرير الوطنية, فسجلت ثلاث انتفاضات خطيرة خلخلت قبضة الفرس كثيرا, واستطاعت ثلاث أسر مصرية مستقلة أن تنشأ خارج أو داخل الوجود الفارسي, معاصرة أو مصارعة له. ولم تنقطع ثورات التحرير الوطنية والشعبية ابتداء من الإثيوبيين والفرس حتي المماليك والترك. بل إن مصر هي التي انفردت بالزعامة الإقليمية في المنطقة لأطول مدي معروف أو ممكن: معظم العصور القديمة ونصف العصور الوسطي تقريبا.
ويبرز جمال حمدان سقوط النظرية الانهزامية التي رددها بعض السطحيين في يأس وتخاذل:' وهي لمن غلب!', كما قال المقريزي في خططه! ويقول أصحاب الاتهام إن مصر كانت تتخذ موقفا سلبيا بدرجة أو بأخري من الغزاة الطامعين فيها, فلا يكاد يبدي المصريون مقاومة تذكر, إن لم يقفوا متفرجين علي صراع الغزاة فيما بينهم علي أرضهم في انتظار نتيجة الصراع, فأنهم كانوا أحيانا يرحبون بغاز جديد أو يتركونه ليطرد غازيا قديما, بحيث لم يكن لهم هم أنفسهم دور أو فضل كبير بصفة خاصة في التحرير.
وفي إشارة إلي الفترات الإسلامية التي استقلت فيها مصر تحت حكام أجانب, تقول نظرية نجد صداها لدي حسين فوزي في كتابه سندباد مصري: إن مصر كانت مستقلة ولكن لم يكن كذلك المصريون, وأن مصر تحولت لألفي سنة إلي قوة منزوعة السلاح وإلي شعب أعزل حين انتزع الحكام الأجانب كالمماليك المرتزقة والأتراك وظيفة الحرب لأنفسهم فانصرفت هي إلي صناعة الحضارة وانصرفوا إلي صناعة الحرب. وقيل أيضا إن مصر في العصور الوسطي كانت' وعاء القوة' ولكنها لم تكن' أداة القوة', حيث كانت قوة ضاربة ولكن في يد غيرها, أو كانت مصر' مطرقة قوة' ضخمة ولكن ليس' اليد الضاربة'! وقيل إن تقسيم العمل بين المحكومين الزراعيين وبين حكامهم الفاتحين من بدو الصحراء قد طبع المصريين بطابع قومي غير قوي.
وهذه النظرية أو تلك النظرة تتناسي المقاومة العنيدة العنيفة والدموية المتمثلة في الثورات والانتفاضات والصدامات مع الجميع. ولم يحدث أن دخل مصر غاز أجنبي أو أقام بها كنزهة عسكرية هينة بلا ثمن باهظ من الدماء والخسائر الفادحة, بل والانكسارات المحققة أحيانا. وتبرز ظاهرة نضالية معينة تتكرر تحت كل استعمار بإلحاح كأنها اللحن الدال أو المميز: صراع دموي قاس رهيب بين المصريين والمحتل الأجنبي يتخذ شكل ثورتين أو ثلاث علي الأقل في كل حالة أو سلسلة من التمردات العسكرية وحركات العصيان كثيرا ما يضطر الإمبراطور المستعمر إلي القدوم بنفسه لإخمادها, دون جدوي غالبا! حدث هذا خلال كل من الاحتلال الليبي والإثيوبي والأشوري والفارسي, وكذلك تحت البطالسة والرومان, بل وحتي تحت العرب مثل الثورة في عهد خلافة المأمون! وقاتل أهل تنيس لجند المعز الفاطمي' قتالا شديدا' كما يخبرنا المقريزي. وفيما بعد كانت المقاومة الوطنية هي التي ألقت بحملة فريزر في البحر, وكانت ثورة المصريين كفاحهم المسلح هي وحدها التي طردت الحملة الفرنسية.
وحتي حين احتكر الأجانب السلاح, كانت حروب مصر وانتصاراتها في الداخل والخارج تتم بجيش جسمه الأساسي من المصريين وقوامه الأول الفلاح المصري. فالمقريزي لا ينفك يذكر الجند' المصريين' في قوات ابن طولون ثم الإخشيديين, وفي حروب الأيوبية والمملوكية مع الصليبيين والمغول كان الجندي المصري عصب القوة المحاربة خلف قيادة الفرسان المماليك. ونعلم من المقريزي أن سكان المدن وقتئذ كانوا يصنعون أنواع السلاح جميعا ثم يشتركون في المعارك الحربية الكبري ضد الحملات الصليبية الثلاث علي مصر. لقد باد غزاة مصر وذهبوا, وبقيت مصر أكبر مقبرة للغزاة!
[email protected]'
المزيد من مقالات د. طه عبد العليم<!-- AddThis Button BEGIN <a class="addthis_button" href="http://www.addthis.com/bookmark.php?v=250&pub=xa-4af2888604cdb915"> <img src="images/sharethis999.gif" width="125" height="16" alt="Bookmark and Share" style="border: 0" /></a> <script type="text/javascript" src="http://s7.addthis.com/js/250/addthis_widget.js#pub=xa-4af2888604cdb915"></script> AddThis Button END -->
ساحة النقاش