اقتصاد المعرفة
كانت المعرفة منذ الأزل المولّد الرئيسي لكل الأنشطة الإنسانية، مهما كان نوعها وتوجهها ومستواها، ولكنها لم تستثمر استثمارًا حقيقيًا، ولم يُلتَفَت إلى أهميتها الفعلية إلا مع نهايات الألفية السابقة وبدايات الألفية الحالية، بحيث تحوّلت إلى ركن أساسي من أركان الاقتصاد العالمي، الذي تحرر من قيود رأس المال، والعمال، واتكأ على المعرفة إما بشكل كلي فيما يُعرف بـ(Knowledge Economy) الذي يشير إلى اقتصاد المعرفة، أو شبه كلي فيما يُعرف بـ(Knowledge-Based Economy)، الذي يشير إلى الاقتصاد المبني على المعرفة، إلا أن هذين المصطلحين يُعرفان على وجه الإجمال بين المختصين باسم (اقتصاد المعرفة).
ويمثّل اقتصاد المعرفة اتجاهًا حديثًا في الرؤية الاقتصادية العالمية، ينظر إلى المعرفة بوصفها محرك العملية الإنتاجية، والسلعة الرئيسية فيها، إذ يرى أنها تلعب دورًا رئيسيًا في خلق الثروة غير المعتمدة على رأس المال التقليدي، ولا على الموادّ الخام، أو العمال، إنما تعتمد كليًا على رأس المال الفكري، ومقدار المعلومات المتوفرة لدى جهة ما (شركة، أو دولة، .. إلخ)، وكيفية تحويل هذه المعلومات إلى معرفة، ثم كيفية توظيف المعرفة للإفادة منها بما يخدم البعد الإنتاجي.
وبظهور اقتصاد المعرفة في عالم الاقتصاد ظهرت مفاهيم جديدة مصاحبة له، مثل: المعرفة الإنتاجية، ورأس المال الفكري والبشري، وثقافة المعلومات وغيرها. وإذا كان رأس المال الفكري أو البشري يعني المهارات والخبرات التي تمتلكها مجموعة من الكفاءات البشرية، وثقافة المعلومات تعني القيم اللازمة للتعامل مع عصر المعلومات، كما أشار إلى ذلك د. صلاح زرنوقة في مقالته (قراءة في مفهوم اقتصاد المعرفة)، فإن مفهوم المعرفة الإنتاجية يظلّ مفهومًا دقيقًا، يستدعي التوقف عنده، رغم أنه لم يعدْ حديثًا، لكنه يثير الكثير من الأسئلة التي تطرح نفسها في هذا السياق، ومن جملتها: ما المعرفة؟ وكيف تكون المعرفة إنتاجية؟ أو كيف يتحقق اقتصاد المعرفة؟
ومع ما يوحي به السؤال الأول –خصوصًا- من بساطة وبداهة إلا أن الإجابة عليه لن تكون بسيطة ولا بدهية، بل تحتاج إلى كثير من التفكير العميق كي يتسنى لمن سيتصدى للإجابة عليه أن يقدم تعريفًا ولو مبدئيًا للمعرفة.
على أننا يمكن أن نظفر بتعريف مبدئي للمعرفة بأنها: المعلومات التي يملكها الشخص امتلاكًا يخوّله الاستفادة منها في كتاب مثل (الإنسان والمعرفة في عصر المعلومات) لـ(كيث دفلين).
ومع وجود كلمة معلومات في تعريف المعرفة قد يشعر القارئ بشيء من التداخل أو اللبس، لأننا درجنا على اعتبارهما لفظتين مترادفتين، مع أنهما في الواقع مختلفتان عن بعضهما؛ فالمعلومات هي البيانات عندما يضيف إليها واضعُها المعنى، وهي موجودة في الفكر الجماعي للمجتمع، في حين توجد المعرفة في الفكر الفردي للشخص.
وقد تنبّه بعض علماء الاقتصاد على إمكانية الاستفادة من المعرفة لتصبح سلعة اقتصادية يمكن استثمارها (أو استغلالها!) لتحقيق قدر أكبر من الأرباح، وجني الكثير من الأموال، فكان أن انبثقت فكرة علم الاقتصاد المعرفي ليصبح اقتصاد القرن الواحد والعشرين، نتيجة الطفرة المعلوماتية التي تغمر العالم منذ نهايات القرن الماضي في مختلف المجالات.
ولكن لماذا المعرفة بالذات؟ وكيف يمكن أن نتقبل فكرة الالتفات إلى المعرفة بوصفها سلعة اقتصادية بعد أن كانت السلع الاقتصادية تعتمد على مواد خام كما في الزراعة والصناعة والبتروليات.. إلخ.
وبقليل من التفكير يمكن لأي منّا أن يتنبّه على أن عماد الاقتصاد الناجح هو وجود مادة خام غير قابلة للنضوب على المدى الطويل، أو غير قابلة للنضوب إطلاقًا. ومثل هذا الشرط ينطبق على المعرفة التي تعدّ معينًا لا ينضب، ولا يخشى القائمون على هذا الاقتصاد مجيء يوم ينفد فيه مخزونهم المعرفي. ولا تتميز المعرفة فقط بكونها تمثّل رأس المال الذي يطمئن أربابه إلى عدم نضوبه، بل إن من طبيعتها أن تزداد مع الاستخدام بحسب د.زرنوقة؛ فاستخدام المعلومات يولد المعلومات، واستخدام المعرفة يخلق معرفة إضافية.
وقد أصبحت المعرفة، بعد اتحادها مع الاقتصاد، ذات تأثير كبير على مختلف الجوانب الحياتية، خصوصًا في ضوء الطفرة التكنولوجية، والثورة المعلوماتية، التي وفّرت المادة المعرفية للجميع بلا استثناء، وبقي فقط أن يتعلم الجميع بلا استثناء كيفية الإفادة من هذه المادة المعرفية، وتوظيفها، وحسن إدارتها.
ومما لا شك فيه أن التكنولوجيا الحديثة تؤدي دورًا مهمًا في هذا النوع من الاقتصاد، ولكنها لا تؤدي الدور كاملاً، إذ يجب أن تتضافر معها جهود العقول البشرية المفكرة والمنتٍجة، وكذلك العلاقات الاجتماعية التي قد تكون أكثر أهمية من معرفة مبادئ علمية شديدة الدقة والتخصصية كما جاء في مجلة (عرين) الصادرة عن مجلة النادي العربي للمعلومات. إذن، يجب أن يُحسَن فهم هذا النوع من الاقتصاد، وعدم حصره في زاوية واحدة ضيقة، لا تمثله حق التمثيل، ولا تعبر إلا عن جزء يسير من المفهوم الذي ينطوي تحت المصطلح.
إن النظر إلى البعد التكنولوجي بوصفه أساس هذا النوع من الاقتصاد يعني أن تُحرَم دول كثيرة من حقها في اللحاق بركب الدول التي قطعت شوطًا طويلاً في هذا الميدان، ولكن الحقيقة هي أن أي دولة، مهما كان نصيبها من السلة التكنولوجية، تستطيع أن تدرك ذلك الركب إن هي أحسنت فهم أبعاد الاقتصاد المعرفي، وعرفته من جميع جوانبه، وعملت على توفير أهم أسسه، وهو رأس المال الفكري، لمواطنيها في مواقعهم الوظيفية المختلفة، وذلك من خلال التأكيد على برامج التعليم الدائم والمستمر، والتركيز على تجديد العلوم والمعارف في مختلف التخصصات وتحديثها، وتوظيف كل معرفة جديدة في المجالات التي يمكن أن تؤثر فيها تأثيرًا إيجابيًا وفعالاً. بهذه الطريقة يمكن لأي دولة أن تصيب سهمًا وافرًا من هذا النوع من أنواع الاقتصاد، الذي بدأ حيزه يتسع في السنوات الأخيرة، ويكاد تأثيره يتفوق على تأثير الأنماط التقليدية التي عرفها الميدان الاقتصادي من قبل.
د. فاطمة البريكي
جامعة الإمارات
ساحة النقاش