|
|
طنطاوى |
للوهلة الأولى، بدا كما لو أن العالم مصدوم من الجريمة الإسرائيلية الأخيرة، التى ارتكبتها بحق أسطول الحرية، ومبعث الصدمة هنا أن الغرب نفسه هو الذى ظل طوال ما يزيد على ٦٠ سنة يروج لديمقراطية الدولة اليهودية، ويدفع ثمن صورتها كدولة مظلومة مضطهدة من جانب جيرانها العرب.
تلك الصورة المغلوطة، فندها الدكتور سيد طنطاوى، شيخ الأزهر الإمام الأكبر الراحل، إذ خصص رسالته للدكتوراه، فى عام ١٩٦٩، لكشف ما يمكن تسميته جذور العنف فى التاريخ اليهودى، منذ دخولهم مصر، وخروجهم منها وتأسيس دولتهم، بعد أن أبادوا شعوباً بكاملها فى سبيل ذلك.
«المصرى اليوم» تقدم قراءة جديدة فى علم الراحل، احتفاء به من ناحية، ولضرورة كتبها هو نفسه فى مقدمة دراسته، حينما قال «كان مقصدى الأول أن أكشف للشباب المسلم بصفة خاصة وللعقلاء والمنصفين بصفة عامة عن أحوال بنى إسرائيل وتاريخهم وأخلاقهم وأكاذيبهم وقبائحهم معتمدا فى بيان ذلك على ما جاء فى القرآن الكريم وفى السنة النبوية المطهرة وفى التاريخ الصحيح.
يستهل «الإمام الراحل» الفصل الثانى فى دراسته ببيان أهم الوسائل التى اتبعها القرآن الكريم لحمل اليهود على الدخول فى الإسلام، والإيمان بنبوة محمد عليه الصلاة والسلام، وبيان أهم مظاهر الإنصاف والتسامح التى عامل بها الإسلام أهل الكتاب، مثل إقامة الدليل لهم ولغيرهم على صدق النبى محمد، وإرشادهم إلى أن ما دعاهم إليه محمد يوافق ما دعا إليه الأنبياء السابقون، وترغبيهم فى اتباعه بالأسلوب الليّن الحكيم، وإنذارهم بالعقوبة إذا لم يتبعوه، وإرشادهم إلى أن اختلافهم فى الدين سببه البغى والحسد، وإخبارهم بأن القرآن الكريم يقص عليهم الحق فيما اختلفوا فيه.
ثم تنتقل الدراسة فى فصلها الثالث إلى شرح مسالك اليهود «الخبيثة» لكيد الإسلام والمسلمين، فيذكر الكاتب كيف أحسن الرسول معاملتهم، وعقد معهم معاهدة عادلة أمّنهم فيها على أنفسهم وأموالهم وعقائدهم واشترط عليهم، وشرط لهم. وتنقل الدراسة نص المعاهدة، حسب رواية ابن كثير، عن محمد بن إسحاق، جاء فيها بخصوص اليهود: «وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وأن يهود بنى عوف أمة مع المؤمنين: لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم أو أثم فإنه لا يوتغ (يهلك) إلا نفسه وأهل بيته، وأن ليهود بنى النجار ما ليهود بنى عوف، وأن ليهود بنى الحارث ما ليهود بنى عوف، وأن ليهود بنى ساعدة ما ليهود بنى عوف،
وأن ليهود بنى جشم ما ليهود بنى عوف، وأن ليهود بنى الأوس ما ليهود بنى عوف، وأن ليهود بنى ثعلبة ما ليهود بنى عوف، وأن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم نصراً على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة». وهى المعاهدة التى قال عنها الأستاذ عبدالرحمن عزام فى كتابه «الرسالة الخالدة»: «هذه المعاهدة من أنفس العقود الدولية، وأمتعها، وأحقها بالنظر والتقدير، من الناس كافة، وما أولاها بأن تكون نبراسا» للمسلمين فى أصول العلاقات الدولية، بينهم وبين مخالفيهم من أهل الأديان الأخرى».
وبعد أن يعدد «طنطاوى» الأسباب التى جعلت اليهود يسالمون الدعوة الإسلامية فى الشهور الأولى، يبدأ فى شرح المخاوف التى أصابتهم بسبب انتشار الدعوة، وكيف بدأ القلق يقض مضاجعهم، وحز فى نفوسهم ما شعروا به من أن عظمتهم المادية والسياسية المبنية على تفرق العرب، وتمزق وحدتهم، قد بدأت تتلاشى وتنهار، بعد أن دخل الأوس والخزرج فى الإسلام، ولأنهم بطبيعتهم أحرص الناس على حياة، وأجشعهم فى جمع المال، شعروا بأن حركة التجارة التى يحتكرونها فى المدينة منذ مئات السنين، ويستغلونها للكسب الحرام مهددة، وهو ما دفعهم لسلوك بعض المسالك الكيدية، التى تقسمها الدراسة إلى ثمانية أساليب رئيسية.
أول هذه الأساليب، كان مسلك المجادلات الدينية والمخاصمات الكلامية، وهى أول طريقة اتبعها اليهود لإيذاء الرسول وإثارة الفتنة بين صفوف المسلمين، وهى الإكثار من المجادلات الدينية، والمخاصمات الكلامية، فإن الإسرائيلى من طبعه الجدل والمماراة فى قبول الحق، و«قصة أمرهم بذبح بقرة، وقصة الملأ من بنى إسرائيل، الذين قالوا لنبى لهم ابعث لنا ملكا نقاتل فى سبيل الله، وغيرهما مما جاء فى القرآن الكريم فى شأن لجاجهم، خير دليل على ما نقول، ومن بعض الأمور التى جادل اليهود فى شأنها الرسول مسألة نبوته، وملة إبراهيم، ونبوة عيسى، ومسألة النسخ، وما أحله الله وحرمه من الأطعمة».
ومن مسالكهم الخبيثة للطعن فى نبوة محمد إنكارهم نزول الوحى عليه من السماء، وغرضهم بذلك اتهامه بأن ما يقوله ليس من عند الله ولكن من عند نفسه، حيث أخرج ابن أبى حاتم، عن سعيد بن جبير قال: جاء رجل من اليهود يقال له: مالك بن الصيف فخاصم النبى، فقال له النبى: «أنشدك بالذى أنزل التوراة على موسى، هل تجد فى التوراة أن الله يبغض الحبر السمين؟» وكان حبرا سمينا، فغضب وقال: «ما قدروا الله حق قدره»، فقال له أصحابه: ويحك ولا على موسى، فأنزل الله « مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ».
وقال النيسابورى، قال محمد بن كعب القرظى: أمر الله محمد أن يسأل أهل الكتاب عن أمره، وكيف يجدونه فى كتبهم، فحملهم الحسد لمحمد أن كفروا بكتاب الله وكفروا برسوله، وقالوا: ما أنزل الله على بشر من شىء، فأنزل الله هذه الآية.
وهذه هى بعض الصور الجدلية، التى اتبعها اليهود للطعن فى نبوة النبى، التى هى أقرب ما تكون لحرب الأعصاب، أو ما يسمى بـ«الحرب الباردة» فى عصرنا الحاضر، فتعقب مزاعم اليهود وفنّدها، ورد عليها بما يدحضها، ويثبت صدق النبى، وهو يشبه ما حدث فى إنكارهم نبوة عيسى، حيث يرون أنه قد أتى عن طريق غير شريف،
وأن أمه كانت امرأة بغياً، حيث أخرج ابن جرير، عن ابن عباس رضى الله عنهما، قال: «أتى رسول الله نفر من اليهود ياسر أبو أخطب، ورافع بن أبى رافع، وأزار بن أزار، وأشيع فسألوه عمن يؤمن به من الرسل؟
قال: أؤمن بالله وما أنزل إلينا، وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتى موسى وعيسى، وما أوتى النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون. فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته وقالوا: لا نؤمن بمن آمن به ولا نعلم بأهل دين أقل حظا فى الدنيا والآخرة منكم، ولا دينا أشرَّ دينا من دينكم، فأنزل الله «قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْـزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْـزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُون».
وتوضح الدراسة أن أهم الشبهات والمجادلات التى أثارها اليهود كانت بعد تحول المسلمين فى صلاتهم إلى المسجد الحرام، فتذكر: «قلنا إن الرسول بعد هجرته إلى المدينة استقبل فى صلاته بيت المقدس بأمر الله تعالى، تأليفا لقلوب اليهود، لأن بيت المقدس قبلتهم ورمز وحدتهم، وقد فرحوا لصلاة الرسول والمسلمين إليه، وكان أمل النبى أن يلبوا دعوته، وأن يسارعوا إلى الدخول فى الإسلام، ولكنهم عموا وصموا، وأخذوا يشيعون بين الناس أن النبى اتبع قبلتهم وعما قريب سيتبع ملتهم، واعتبروا اتجاه المسلمين فى صلاتهم إلى بيت المقدس نوعا من اقتباس الهدى منهم، فتأثر الرسول من موقفهم الجحودى، وانبثقت فى نفسه أمنية التحول إلى الكعبة، وأكثر من التضرع والابتهال إلى الله، كى يوجهه إلى قبلة أبيه إبراهيم.
وقد أجاب الله تعالى رجاء نبيه فولاه القبلة التى يرضاها، أما اليهود ومن على شاكلتهم ممن فى قلوبهم مرض، فقد استقبلوه بالاستهزاء والجحود، وإثارة الشبهات، لبلبلة الأفكار، وتشكيك المسلمين فى عقيدتهم، ومما قاله اليهود، الذين تولوا أكثر التشكيك فى صحة التوجه إلى البيت الحرام، إن القبلة الأولى، وهى بيت المقدس، إن كانت على حق فقد تركتم أيها المسلمون الحق، وإن كانت على باطل فعبادتكم السابقة باطلة، ولو كان محمد نبيا حقا ما ترك قبلة الأنبياء قبله وتحول إلى غيرها، وما فعل اليوم شيئا وخالفه غدا، ومقصدهم الأول من وراء هذه المقالات المرذولة، الطعن فى شريعة الإسلام، وفى نبوة النبى عليه الصلاة والسلام، إلا أن ما قالوه من شبهات حول تحويل القبلة، لم يجد آذانا صاغية من المؤمنين، لأن الله تعالى قد مهد للتحويل، بما يطمئن النفوس ولقن نبيه الجواب على شبهاتهم قبل أن ينطقوا بها».
وتكمل الدراسة استعراضها لمحاولات اليهود الكيد للمسلمين بأسلوب جديد وهو تعنتهم فى الأسئلة بقصد إحراج الرسول، فتقول: حين وجدوا أن هذه المجادلات قد فشلت وخرجوا منها بخيبة وخسران، لجأوا لأسلوب آخر لتشكيك المسلمين فى عقيدتهم، ألا وهو توجيه الأسئلة المتعنتة إلى الرسول بقصد إحراجه وإظهاره بمظهر العاجز عن إجابة مطالبهم.
وتستشهد الدراسة بحديث بن جرير حيث قال: عن محمد بن كعب القرظى قال: جاء أناس من اليهود إلى رسول الله فقالوا: يا محمد، إن موسى جاء بالألواح من عند الله، فأتنا أنت بالألواح من عند الله، حتى نصدقك فأنزل الله «يَسْئَلُكَ أَهْلُ الكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ» وتفسيره: يسألك اليهود يا محمد، على سبيل التعنت والعناد، أن تنزل عليهم كتابا من السماء مكتوبا جملة، كما جاء موسى لآبائهم بالتوراة، مكتوبة فى الألواح جملة، أو يسألونك أن تنزل على رجال منهم بأعيانهم كتبا من السماء، تأمرهم بتصديقك، واعلم يا محمد أنهم لو أجيبوا إلى ما طلبوا ما آمنوا بك، لأن الذى حملهم على سؤالهم هو: التعنت والجحود، والمتعنت والجاحد لا يقنعه دليل، أو برهان، ولو كانوا يريدون الإيمان حقا، لما سألوك ذلك، لأن الأدلة القاطعة قد قامت على صدقك.
وينتقل الإمام الراحل فى دراسته إلى ثالث أساليب اليهود، وهو محاولة الوقيعة والدس وإثارة الفتنة بين المؤمنين، وأخرج بن جرير فى سبب نزول الآيات «قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنتُمْ شُهَدَاء وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ. وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ. وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ»، عن زيد بن أسلم قال: مر شاس بن قيس- وكان شيخا قد عسا (كبر) فى الجاهلية عظيم الكفر شديد الضغن على المسلمين شديد الحسد لهم- على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج فى مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من جماعتهم وألفتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام بعد الذى كان بينهم من العداوة فى الجاهلية،
فقال: قد اجتمع ملأ بنى قيلة- يعنى الأنصار الأوس والخزرج- بهذه البلاد، لا والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار، فأمر فتى شابا من يهود وكان معه فقال له: اعمد إليهم فاجلس معهم فذكرهم يوم بعاث وما كان قبله، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار، ففعل، فتكلم القوم عند ذلك فتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب فتقاولا، وقال بعضهم لبعض: إن شئتم رددناها الآن جذعة، وغضب الفريقان وقالوا: قد فعلنا، السلاح السلاح، موعدكم الحرة فخرجوا إليها وتحاوز الناس على دعواهم التى كانت فى الجاهلية،
فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه حتى جاءهم فقال: يا معشر المسلمين، الله الله.. أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ هداكم الله إلى الإسلام وأكرمكم به وقطع عنكم أمر الجاهلية واستنقذكم به من الكفر وألف بين قلوبكم ترجعون إلى ما كنتم عليه كفاراً؟ فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان وكيد من عدوهم، فألقوا السلاح وبكوا وعانق بعضهم بعضا، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين، قد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله شاس بن قيس.
وتنتقل الدراسة لعرض رابع أساليب، وهو محاولة اليهود رد المسلمين عن دينهم بطريق الخداع والتلبيس، وذلك عن طريق إظهارهم الإيمان لفترة من الوقت، ثم رجوعهم عنه بعد ذلك إلى الكفر، وقد حكى القرآن عنهم هذا اللون الخبيث من المخادعة فى كثير من آياته، ومن ذلك استشهدت الدراسة بقوله تعالى «وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِى أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون».
وهو لون الخداع الذى قال عنه المرحوم الشيخ محمد عبده: «هذا النوع الذى تحكيه الآيات من صد اليهود عن الإسلام، مبنى على قاعدة طبيعية فى البشر، وهى أن من علامة الحق ألا يرجع عنه من يعرفه، وقد فقه هذا «هرقل» ملك الروم، فكان مما سأل عنه أبا سفيان من شؤون النبى عندما دعاه للإسلام، هل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل الإسلام، فقال أبوسفيان: لا. وقد أرادت هذه الطائفة أن تغش الناس من هذه الناحية ليقولوا: لولا أن ظهر لهؤلاء بطلان الإسلام لما رجعوا عنه بعد أن دخلوا فيه، واطلعوا على بواطنه وخوافيه».
خامس الأساليب التى تعرضها الدراسة هو تلاعب اليهود بأحكام الله تعالى، ومحاولتهم فتنة الرسول عند تقاضيهم أمامه، فيروى مسلم، عن البراء بن عازب رضى الله عنه قال: مرّ على الرسول يهودى محمماً (أى مسوداً بالفحم) مجلوداً فدعاهم الرسول فقال: أهكذا تجدون حد الزانى فى كتابكم؟ قالوا: نعم، فدعا رجلاً من علمائهم فقال: أنشدك بالله الذى أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزانى فى كتابكم؟
قال: لا، ولولا أنك نشدتنى بهذا لم أخبرك، نجده الرجم، ولكنه كثر فى أشرافنا، فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، قلنا تعالوا فلنجتمع على شىء نقيمه على الشريف والوضيع، فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم إنى أول من أحيا أمرك إذا أماتوه»، فأمر به فرجم، فأنزل الله عز وجل «يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِى الْكُفْرِ» وكانت اليهود تقول: ائتوا محمدا فإن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه، وأن أفتاكم بالرجم فاحذروا.
وتعرض الدراسة لسادس أساليب الكيد للمسلمين، وهو تحالف اليهود مع المنافقين ضد الإسلام، ومظاهرتهم لكل مناوئ لها بصفة عامة، ومحالفتهم للمنافقين فى سبيل القضاء بصفة خاصة، وقد بلغت المودة، حسب الدراسة، بين اليهود والمنافقين، فى المدينة مبلغا كبيرا، بدليل أن عبدالله بن أبى، زعيم المنافقين، لما حضرته الوفاة أحاط اليهود بسريره، وأخذوا يبكون وينتحبون، فغضب لذلك أحد أبناء «عبدالله بن أبى» وأراد أن يطردهم، فمنعه أبوه، وقال له: دعهم فإن قربهم منى يشفى قلبى وصدرى، فقال له اليهود: يا عبدالله نود أن نفديك بدمائنا وأموالنا،
ولما مات أرادوا أن يقوموا على دفنه، فمُنعوا من ذلك، وبعد دفنه أخذ اليهود ينثرون التراب على رؤوسهم من شدة الحزن والألم لوفاة زعيم المنافقين. وينهى «طنطاوى» هذا الجزء قائلا: إن وجود اليهود فى المدينة من الأسباب القوية، التى علمت بعضاً من أهلها النفاق، وذلك لأن العربى صريح بطبعه، وحركة النفاق ما ظهرت فى العهد المكى، لأن القرشيين صرحاء فى حربهم للإسلام والمسلمين.ولهذا نرى فى المدينة أن اليهود كانوا من وراء المنافقين يشجعونهم، ويمدونهم بالمال وبالأفكار الخبيثة لحرب المسلمين، وبضعف اليهود ضعف معهم شأن المنافقين.
وسابع أساليب اليهود للكيد تضعه الدراسة تحت عنوان «تحالفهم مع المشركين.. وشهادتهم لهم بأنهم أهدى من الذى آمنوا سبيلا»، وتستشهد بتوبيخ القرآن الكريم لليهود لمناصرتهم المشركين فى قوله تعالى: «أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا» وتفسيرها أن اليهود لا حظ لهم، ولا نصيب من الملك المستقر الدائم بسبب ظلمهم وطغيانهم، وعصبيتهم الجامحة، فلو كان لهم نصيب منه، لما أعطوا غيرهم أى قدر من حقوقهم عليهم، ولو كان ضئيلا بالغا أقصى حدود الضآلة، ذلك لأن اليهود قوم لا ينظرون إلا لمصلحتهم الذاتية، ويتوهمون أنهم صنف ممتاز فى الخليقة، وأنهم أبناء الله وأحباؤه،
وأثبتت الأيام صدق ما أخبر به القرآن الكريم عنهم، فإنهم بعد أن دخلوا بعض البلاد الإسلامية فى فلسطين بمساعدة الاستعمار، طردوا أهلها الشرعيين منها، واستولوا على كل ما فيها من خيرات.. وأقرب مثال لذلك أنهم عندما احتلوا، عن طريق الغدر، قرى دير ياسين، وقبية، وكفر قاسم، واللد والرملة، وغيرها من البلدان الفلسطينية، قاموا بذبح النساء والأطفال والشيوخ، ومن نجا من الذبح والقتل استلبوا منه جميع ما يملكه.
واستشهدت الدراسة بشهادة الدكتور اليهودى إسرائيل ولفنسون، أستاذ اللغات السامية بكلية دار العلوم، الذى كتب فى كتابه «تاريخ اليهود فى جزيرة العرب»: كان من واجب هؤلاء اليهود ألا يتورطوا فى مثل هذا الخطأ الفاحش، وألا يصرحوا أمام زعماء قريش بأن عبادة الأصنام أفضل من التوحيد الإسلامى، ولو أدى بهم الأمر إلى عدم إجابة مطلبهم، لأن بنى إسرائيل الذين كانوا لعدة قرون حاملى راية التوحيد فى العالم بين الأمم الوثنية، باسم الآباء الأقدمين، والذين نكبوا بنكبات لا تحصى، بسبب إيمانهم بإله واحد..
كان واجبهم أن يضحوا بحياتهم فى سبيل أن يخذلوا المشركين، فضلا عن التجائهم إلى عبادة الأوثان وهم إنما كانوا يحاربون أنفسهم، ويناقضون تعاليم التوراة، التى توصيهم بالنفور من أصحاب الأصنام». ويختتم «الإمام الراحل» فصله الثالث من الدراسة بذكر محاولات اليهود المتعددة لقتل رسول الله، وإيذائه بالقول القبيح والخطاب السيئ، وكيف رد الإسلام على خطابهم بالنهى عن موالاتهم ومصافاتهم، والتحذير من أن ينهج المؤمنون نهجهم.
|
ساحة النقاش