شــــعراء الــربابة
بقلم: فاروق شوشة
كانت المرة الأولي التي يخطو فيها أديبنا الكبير نجيب محفوظ الي مبني الاذاعة بشارع الشريفين لتسجيل أول حوار أدبي معه‏,

 

‏ في الحلقة الأولي من برنامج مع الأدباء ـ لاذاعة البرنامج الثاني‏(‏ البرنامج الثقافي الآن‏)‏ الذي كلفني الإعلامي الكبير سعد لبيب بإعداده وتقديمه‏,‏ ومن بين الأسئلة التي سيجيب عنها نجيب محفوظ سؤال عن رفيق رحلته الأدبية عادل كامل‏,‏ الذي توقف مبكرا عن الكتابة ولم يواصل كما فعل نجيب محفوظ نفسه بعد أن أصدر أعمالا ابداعية لافتة هيمليم الأكبر وملك من شعاع وويك عنتر وقصته القصيرة الطويلة ضباب ورماد التي نشرت في مجلة المقتطف‏,‏ وحين قدمتها للاذاعة استغرقت قراءتها خمسا وسبعين دقيقة‏,‏ وكان رد نجيب محفوظ علي السؤال يتضمن اشادة بقدر عادل كامل وسبقه الي الكتابة الواقعية في روايته مليم الأكبر‏,‏ وأنه في طليعة كتاب جيله بلا جدال‏,‏ الا أن حساسيته المفرطة جعلته لايحتمل ضغوط الحياة والمجتمع ومايلاقيه الأدب والأدباء من اهمال‏,‏ فقرر التوقف عن الكتابة‏,‏ وشجعني كلام نجيب محفوظ علي استضافة عادل كامل في الحلقة التالية من البرنامج‏,‏ ولما وجهت اليه مباشرة سؤالي عن أسباب توقفه عن الابداع‏,‏ كانت اجابته الحاسمة‏:‏ لقد أحسست أني أشبه شاعر الربابة‏,‏ يملك أن يتكلم عن الأبطال ويتغني بأعمالهم وبطولاتهم دون أن يكون هو نفسه بطلا‏.‏ وأصابتني العبارة في الصميم‏,‏ وظلت تصاحبني وتلاحقني بظلالها طيلة سنوات‏,‏ كنت مشغولا خلالها بقراءة أولي لواقعنا الثقافي والأدبي‏,‏ وكان أكثر ما لفت انتباهي أن هناك من يسعده دور شاعر الربابة‏,‏ حين ينظم المؤتمرات والجوائز والمسابقات‏,‏ مؤديا دوره من وراء ستار دون أن يكون لديه أمل في جائزة أو تكريم‏,‏ وانما سعادته في أن يحظي غيره بالغنيمة‏,‏ ويظل هو مشغولا بالتنظيم والدعوة لجوائز أخري لن تكون من نصيبه ذات يوم‏,‏ ثم أتيح لي أن أتعرف علي عدد ممن يسمون الكتاب الأشباح الذين يقومون بالكتابة لغيرهم‏,‏ ويقنعون بأداء الدور بعيدا عن الأنظار‏,‏ في حين تذهب الشهرة والنجومية ومايترتب عليهما ـ من غنائم ومغانم ـ لغيرهم من أصحاب الأسماء اللامعة والمكانة الرفيعة‏.‏ كانت ظاهرة الكتاب الأشباح التي هي بمثابة الاستنساخ المبكر لشعراء الربابة قد تفشت واتسع تأثيرها‏,‏ بين من يؤلفون لأساتذتهم في الجامعات ويترجمون لهم بدلا عنهم‏,‏ ومن يكتبون لبعض المبدعين الكبار ـ الكبار في الشهرة وذيوع الصيت ـ قصصهم ورواياتهم وأشعارهم‏,‏ وكان مثار العجب في بعض المواقف أن نجد الكبير المشهور يطلب من الصغير المغمور قصيدة عاطفية مواصفاتها كذا وكذا‏,‏ لأنه يريد أن يوصل لحبيبته رسالة مضمونها كذا وكذا‏,‏ وكنت أقول لنفسي‏:‏ حتي في الأمور الشديدة الخصوصية والذاتية والمتعلقة بالمشاعر والعواطف والأحساسيس لايستنكفون البحث عمن يكتب لهم ويريحهم من مشقة الكتابة ومعاناة التجربة‏!‏ واستمرت الظاهرة تتسع وتتضخم والأصابع تشير الي مجمعي أديب يكتب لفلانة وفلان‏,‏ ويراجع ماقد يكتبانه ـ اذا كتبا ـ حتي يكون صحيحا‏,‏ وله أن يحذف أو يضيف أو يغير بطبيعة الحال‏,‏ كما كانت تشير الي شاعر كبير الموهبة قليل الحظ في الحياة لايأنف من الكتابة لشاعر اكثر شهرة وحظا‏,‏ ثم دلني زملائي في العمل الاذاعي علي واحد من شعراء الأغنية ـ كان مشهورا بغزارة انتاجه وشدة احتياجه لما يسد رمقه ورمق أسرته ـ كان عندما ينتهي من تأليف أغنية‏,‏ يبيعها بقروش زهيدة لواحد من مؤلفي الأغنية يسارع الي تبنيها ونسبتها الي نفسه‏,‏ ولامانع من أن تذكر الصحافة الفنية أن ابداعه في مجال الأغنية قد بلغ المئات عدا‏,‏ وأنه من الرواد الكبار‏,‏ وأنه وأنه‏,‏ والحقيقة غائبة عن كل مايقولون‏.‏
لكن شاعر الربابة يظل أشرف من هؤلاء جميعا‏,‏ أولئك الذين ارتضوا لأنفسهم هذا المستوي من المهانة‏,‏ ووجدوا سعادتهم في صنع أهرامات وهمية من نماذج مجوفة‏,‏ خاوية‏,‏ لكنها شديدة الادعاء‏,‏ لأن هذا الشاعر يروي وينشد للناس ماسمعه وحفظه وأجاده‏,‏ فهو فنه وليس فن غيره‏,‏ وهو يرويه في كل مرة‏,‏ ولكل جمهور يصادفه‏,‏ بطريقة مختلفة وأداء مغاير‏,‏ وهو يملك أن يضيف اليه وأن يزيد ويكرر ـ أحيانا ـ لكنه لم ينسب عمله أبدا لآخر‏,‏ ولاأحس بالانسحاق المهين الذي يعيشه المؤلف الشبح والكاتب الشبح والشاعر الشبح‏,‏ وهو يري توقيعا آخر علي جهده وكلامه وابداعه‏,‏ ولايملك أن يصرح أو يبوح مادامت المنفعة قائمة‏,‏ والغنائم مواتية‏,‏ والأسرار بعيدة عن التداول‏.‏
لقد توقف عادل كامل عن الكتابة ذات يوم‏,‏ لأنه أدرك في لحظة مأساوية أنه كشاعر الربابة‏,‏ يتغني بالأبطال ولايملك هو أن يكون بطلا‏,‏ وهأنذا أتلفت حولي الآن‏,‏ لأري مئات النماذج في عشرات المجالات ـ أقساها بالطبع وأبشعها مجالات الكتابة ـ وهي تمارس وجودا لاعلاقة له بالصدق والشرف‏,‏ وتطيل من أمد الفساد والزيف‏,‏ في أخطر مايمتلكه الانسان‏,‏ وهو مجال الابداع الحقيقي‏,‏ والكبرياء التي تمنحه شرف وجوده ومعني كرامته‏,‏ وتصونه عن الانزلاق الي هذا المستوي المتدني من فقدان القيمة‏.‏
ذلك أننا نعيش عصر شعراء الربابة‏!‏

 

المزيد من مقالات فاروق شوشة<!-- AddThis Button BEGIN <a class="addthis_button" href="http://www.addthis.com/bookmark.php?v=250&pub=xa-4af2888604cdb915"> <img src="images/sharethis999.gif" width="125" height="16" alt="Bookmark and Share" style="border: 0" /></a> <script type="text/javascript" src="http://s7.addthis.com/js/250/addthis_widget.js#pub=xa-4af2888604cdb915"></script> AddThis Button END -->
azazystudy

مع أطيب الأمنيات بالتوفيق الدكتورة/سلوى عزازي

  • Currently 45/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
15 تصويتات / 183 مشاهدة
نشرت فى 6 يونيو 2010 بواسطة azazystudy

ساحة النقاش

الدكتورة/سلوى محمد أحمد عزازي

azazystudy
دكتوراة مناهج وطرق تدريس لغة عربية محاضر بالأكاديمية المهنية للمعلمين، وعضوالجمعية المصرية للمعلمين حملة الماجستير والدكتوراة »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

4,687,099