كتب - د. جمال عبدالجواد:
الاتفاق الإطاري الذي وقعته دول منابع النيل أدخل سياسة مصر الخارجية في اختبار جاد. فرغم أن تحول اتفاق دول المنبع لإجراءات تؤثر علي نصيب مصر من مياه النيل لن يحدث بمجرد توقيع الاتفاق
فإن تهديد الإطار القانوني الذي يحكم العلاقة بين مصر ودول منابع النيل في حد ذاته يمثل تحديا لا يمكن التعامل معه بتهاون أو استخفاف.
أمام مصر عدد من السنوات قبل أن تقام أي مشاريع مائية مهمة يمكنها أن تؤثر علي نصيب مصر من المياه القادمة من دول المنبع, ومن المتوقع أن تستفيد مصر من هذه الفسحة الزمنية بحيث تبعد احتمالات التأثير في موارد مصر المائية بقدر الإمكان, وأن تخفف من آثاره إذا لم نوفق في منعه كلية. وأعتقد أن الفترة المتاحة أكثر من كافية لإعادة صياغة سياسة مصر الخارجية, خاصة تجاه دول حوض النيل. غير أن تطورا في هذا الاتجاه لن يكون ممكنا دون إعادة صياغة لنظرية سياسة مصر الخارجية, ودون إعادة فهم طبيعة الموقع الجغرافي والاستراتيجي لمصر.
موقع مصر الجغرافي وتطورها التاريخي والثقافي وطبيعة مواردها هي جزء من أكثر من إقليم ونطاق استراتيجي في نفس الوقت. فمصر جزء من إقليم الشرق الأوسط, في نفس الوقت الذي هي فيه جزء من إقليم النيل وشرق أفريقيا. وإذا قبلنا التمييز الذي يقيمه البعض بين الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كإقليمين استراتيجيين متميزين, فإن مصر تصبح أيضا جزءا من إقليم شمال أفريقيا.
الانتماء إلي أقاليم ونطاقات إستراتيجية متعددة ليس سمة تتفرد بها مصر, فبلد مثل تركيا تنتمي استراتيجيا للإقليم الأوروبي, ولإقليم الشرق الأوسط, وكذلك لإقليم البحر الأسود والقوقاز. أما إيران فإنها إلي جانب انتمائها إلي إقليم الشرق الأوسط, فإنها أيضا تنتمي إلي إقليم القوقاز وآسيا الوسطي. ويختلف هذا عن الحال في بلاد أخري مثل المملكة العربية السعودية وسوريا والعراق التي تنتمي كلية إلي إقليم الشرق الأوسط فقط. وليس في الانتماء إلي إقليم استراتيجي واحد أو أقاليم استراتيجية متعددة ميزة أو أفضلية, ولكنها الجغرافيا والتاريخ يفرضان مقتضياتهما, وعلي الدول التعامل معها وقبولها, فلا أحد يستطيع تغيير جغرافيا وتاريخ الأوطان والبلاد.
لقد تمت صياغة نظرية الدوائر الثلاث علي يد الزعيم جمال عبد الناصر في كتابه' فلسفة الثورة', وتم وضع أسس السياسة الخارجية المصرية الحديثة ومؤسساتها علي أساس من هذه النظرية التي ظلت تمثل النظرية المعتمدة لسياسة مصر الخارجية, والدرس الأول الذي يتعلمه ممارسو السياسة الخارجية في مصر طوال العقود الستة الماضية, برغم التغيرات الكثيرة التي لحقت بسياسة مصر الخارجية.
المشكلة في نظرية الدوائر الثلاث هي أنه تم تقديمها باعتبارها تمثل دوائر للانتماء/الهوية, بحيث تم اعتبار الهوية أساسا وحيدا للسياسة الخارجية المصرية. لا يحتاج المرء لإنكار الدور الذي تلعبه الهوية في صياغة السياسة الخارجية لكي يكشف الخطأ الكامن في نظرية الدوائر الثلاث. فالتركيز علي الهوية باعتبارها الأساس الوحيد للسياسة الخارجية زرع في سياسة مصر الخارجية تناقضات يصعب حلها. فالهويات في أغلب الأحوال متنافسة ولا يمكن التوفيق بينها, فلا يمكن لمصر أن تكون عربية وأفريقية في نفس الوقت, رغم محاولة البعض التوفيق بين الهويتين العربية والأفريقية بفذلكات نظرية وحلول لفظية. وحتي إذا أقنعنا أنفسنا بعدم التعارض بين الهويات, فإن جيراننا الأفارقة, وجيراننا العرب كذلك, لا يبدو عليهم الاقتناع بإمكانية هذا التوفيق أو الازدواج.
لقد أمكن إخفاء التناقض الكامن في نظرية الدوائر الثلاث طوال العقد والنصف الذي تلا صك هذه النظرية عبر الصلة التي أقامتها سياسة محاربة الاستعمار. فتركيز سياسة مصر الخارجية طوال الخمسينيات وأغلب الستينيات علي محاربة الاستعمار في أي مكان جعل دوائر السياسية الخارجية المصرية الثلاث تبدو متسقة وغير متعارضة. غير أنه ما أن انقضي عهد الظاهرة الاستعمارية, وما أن انشغلت الشعوب والحكومات بأولويات أخري بخلاف محاربة الاستعمار, إلا وأتضح التناقض بين الدوائر الثلاث, فكان علي مصر الاختيار بين الدائرتين العربية والأفريقية, بل أن مطالبة البعض بالتركيز علي إحدي الدائرتين, خاصة الدائرة الأفريقية, نوع من الاحتجاج علي القول بانتماء مصر العربي, وإعلاء لتعريف آخر لهوية مصر الوطنية. فصياغة سياسة مصر الخارجية علي أساس الانتماء والهوية جعل هذه السياسة موضعا للتنافس بين المدارس والتيارات المتصارعة حول هوية مصر. ومع صعود تيار وهبوط آخر شهدت سياسة مصر الخارجية تقلبات, أخذت شكل موجات تنقلنا فيها بين إهمال هذا الإقليم أو ذاك بشكل تبادلي متتابع.
لقد اتسمت السياسة الخارجية المصرية لعدة عقود بعدم القدرة علي تركيز اهتمام متساو علي أكثر من منطقة جغرافية واتجاه استراتيجي في نفس الوقت, وقد تم تفسير هذا بالتنافس بين مدارس وتيارات إيديولوجية تتصارع علي هوية مصر, حتي باتت سياسة مصر الخارجية ومصالحها الإستراتيجية في الأقاليم المحيطة بنا مجالا للتعبير الإيديولوجي عن الهوية وموضعا للصراع بين تيارات إيديولوجية مختلفة, أكثر منها أداة لتحقيق مصالح مصر الإستراتيجية في العالم الخارجي. ومع تعمق أزمة الهوية في المجتمع المصري تحولت سياسة مصر الخارجية أكثر وأكثر إلي موضوع للصراع ولأداة للتعبير عن صراعات الهوية, وليست أداة لتحقيق المصلحة الوطنية. ولعل النظر إلي السياسة الخارجية التي تتبعها دول مثل تركيا وإيران وإسرائيل في اتجاهات إستراتيجية متعددة تبين ضعف الصلة بين الهوية من ناحية, والسياسة الخارجية من ناحية أخري.
أظن أن الصلة بين كل هذا وبين التعامل مع الأزمة في العلاقة مع دول حوض النيل واضحة. فتعزيز علاقات مصر مع دول النيل يجب أن تكون له الأولوية دون أن يترتب علي هذا بالضرورة تقليص لاهتمام مصر بأقاليم أخري أو انعزالها عنها. فانتماء مصر لأكثر من إقليم جغرافي واتجاه استراتيجي يحتم عليها تطوير القدرة علي إدارة علاقاتها بنفس الكفاءة في أكثر من اتجاه. وحتي لو حدث بعض من ترتيب الأولويات في إطار مقتضيات السياسة العملية وضمن قيود تفرضها الموارد المحدودة, فإن هذا لا يعني حسما لصراع الهوية, لأن السياسة الخارجية مجال لتحقيق المصلحة الوطنية في المقام الأول, أما التعبير عن الهوية فله مجالات ونطاقات أخري.
ساحة النقاش