فقه التغيير وجهاد النفس
بقلم:د. نيفين عبد الخالق
النفس الإنسانية هي جوهر عملية التغيير, وفقه التغيير لابد له أن يقوم علي مخاطبة النفس الإنسانية, فالإنسان الفرد هو اللبنة الأولي في بناء أي مجتمع, والمجتمع هو كل مكون من مجموع أفراده.
ولابد وأن يتعرف الإنسان علي مكانته في هذا الكون, وعن المهمة المنوط به آداؤها, حتي تتحرك في نفسه بواعث النهوض والإصلاح, ويبدأ بنفسه أولا.
وفقه التغيير يحتاج إلي إحلال قيم محل قيم, وتقديم قيم علي قيم: الإيثارمحل الأنانية, وتقديم المصلحة العامة علي المصلحة الخاصة, وأن يحل التواضع محل الاستكبار والغرور, والعدل والإنصاف محل الظلم والإجحاف, ومما لاشك فيه أن شيوع روح الأثرة والأنانية, والتكالب علي المناصب والبحث عن الشهرة وحب الظهور ارضاء للنفس وتجنبا لمجاهدتها هو الآفة الأساسية التي تقف كحجر عثرة أمام محاولات التغيير, فأي تغيير يمكن ان ننشده إذا لم نجد من يؤثر المصلحة العامة علي مصالحه الشخصية, فرسولنا الكريم صلي الله عليه وسلم يحثنا بقوله: لا يؤمن أحدكم حتي يحب لأخيه ما يحب لنفسه( متفق عليه). فأين من يجاهد نفسه ويجاهد بنفسه من أجل التغيير.
من هنا, فإن التغيير لا يحدث بغير تغيير الأنفس الشح ومغالبتها, وبغير ان يبدأ كل فرد بنفسه, ويكون مستعدا لمجاهدة نفسه, وللمجاهدة بنفسه, فالنفس عالم كبير تدور فيه أصول الحياة.
التغيير تغيران, والصلاح قبل الإصلاح
وبتأمل الآية الكريمة: إن الله لا يغير ما بقوم حتي يغيروا ما بأنفسهم( الرعد11), يتضح أن هنا تغييرين: التغيير الاول, هو تغيير ما بالانفس, وموقعه من عملية التغيير الشاملة انه يأتي أولا, اي له الأولوية, وقد جعل سببا لحدوث التغيير الثاني. أما التغيير الثاني, فهو الحادث في المجتمع, وهو ما بالقوم, وهو يأتي نتيجة للتغيير الاول الذي يقوم به الناس فهم يغيرون ما بأنفسهم فيغير الله ما بهم وعادة ما يقال إنه لايستطيع ان ينفع الناس من أهمل نفسه, ففاقد الشيء لا يعطيه. وذلك يعد جهاد النفس وتزكيتها هو المقدمة الضرورية لاي تغيير مرغوب فيه لانه يحدث من الداخل ومن الباطن, ولا يكون شكليا أو صوريا.
ومن ثم, فإن أي فقه للتغيير ينبغي له أن ينتبه إلي أولويات التغيير, وخطواته التراتبية, ذلك لان أزماتنا المتعددة التي تركت علينا ركاما هائلا من الضعف والتخلف والتبعية تحتاج الي تغيير حقيقي لاتقوم به إلا نفس واعية مدركة لقيمة الحياة والدور المنوط بالانسان فيها حتي يحدث العمران البشري الذي يعم خيره علي الجميع. وقد أكد الإمام الشاطبي في الموافقات علي انه ينبغي ان يراعي في فقه التغيير أحوال البلاد والعباد, وأن تراعي سنة التدرج مع الناس كي يقع منهم القبول. وبعض ممن بحثوا في فقه التغيير اطلقوا تعبير التغيير الذكي علي نوع من التغيير الايجابي الذي يدور في دوائر ثلاث: ـ دائرة الذات, وهو ما نعنيه بجهاد النفس واصلاح الفرد ـ دائرة التأثير, وفيها يجري التغيير في الوسط القريب ـ دائرة الاهتمام, وهي الأوسع نطاقا حيث تشمل المجتمع بأسره.
وفقه التغيير يرتبط بمعاني التجديد ونلاحظ ان الحاجة للتغيير قد تعبر في احد معانيها عن ذلك النزوع الإنساني نحو الافضل, وعن عدم القدرة الانسانية عن الخضوع لحال دائم, فقد عد التغيير من نعم الخالق عز وجل علي الانسان, يقول الله تعالي في محكم التنزيل: فل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا الي يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون. قل أرايتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلي يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون( القصص:71 ـ72). وفقه التغيير يرتبط في معناه ايضا بالإصلاح, فبقاء الأحوال علي ما هي عليه مدة من الزمن يجعلها كالمياه الراكدة في حاجة الي من يحركها, وهذه هي مهمة التغيير والإصلاح, وهذا هو حال المجتمعات الحية التي تتمتع بحراك اجتماعي نشط, ولا تأتيها رياح التغيير, ولا تملك القدرة علي التجدد والإصلاح.
وفقه التغيير يرتبط ايضا بمعاني النهوض والنهضة, ولقد تناول عديد من المفكرين المسلمين موضوعات وقضايا شتي تتعلق بفقه التغيير والمعاني المرتبطة به, وتحدثوا أيضا عن ضوابط في فقه التغيير, وعن ارتباط التغيير بالسنن الإلهية.
إرادة التغيير والثقافة المأزومة ومواصلة الاجتهاد
إن التغيير لابد وان يعبر عن حركة واعية طموح للنهوض بالحاضر والتأثير في المستقبل, ولابد أن تتوافر له الإرادة.... إرادة التغيير, فبدونها يظل الحديث عن التغيير مجرد أحلام وأمنيات لاترقي لمستوي الافعال والانجازات, وفقدان الإرادة ماهو إلا تعبير عن نوع من الثقافة المأزومة التي تتصارع فيما بينها ولا تلبث أن تندثر ويخفت صوتها, وذلك فإن فقه التغيير يشمل بالإضافة لكل ماسبق, حركة اجتهاد متواصلة علي كافة الصعد والميادين, وقد استغرقت هذه الحركة جهود علماء ومفكري الأمة الإسلامية المحدثين والمعاصرين طيلة القرنين السابقين, ولكن لم تصل تلك الجهود المباركة الي مستوي تأسيس مدرسة شاملة قادرة علي مواصلة الجهود في فقه التغيير والتجديد, وذلك يعود في جانب منه الي الظروف الموضوعية المصاحبة لتلك الجهود, ولكننا نلاحظ من ناحية أخري إن هذه الجهود ما كانت لتري النور لولا الانفتاح الواعي علي نتاج الفكر البشري الحديث والمعاصر, بحيث تجعل اطلاعها عليه رافدا تستفيد منه وهي واقفة علي ارض صلبة مؤسسة علي الفهم الواعي لنصوص الشريعة الغراء, وواعية ـ في الوقت نفسه ـ إلي البون الشاسع ما بين الاتباع والتقليد, وبين الابداع والتجديد.
ومن ثم, يمكننا القول ان فقه التغيير بركيزته التي تنطوي علي الفعل الإيجابي الواعي قد شاع طيلة القرنين السابقين, وان فكرة التغيير ظهرت تحت مصطلحات عدة كالإصلاح والنهضة واليقظة والتجديد... الي آخر هذه الكلمات التي تنطوي علي معاني تغييرية, إلا أن الاختلاف قد وقع حول مناهج التغيير التي تعددت وكثرت بشأنها الرؤي, وهكذا نجد أن هذا الاتفاق علي ضرورة التغيير وأهميته وكذلك الاختلاف حول مناهجه والطرق والأساليب المختلفة لتحقيقه ـ كل هذا الزخم والحراك ـ إنما يصب في فكرة اساسية ألا وهي: إن رياح التغيير لا يمكن لها ان تهب بدون ان يبدأ كل فرد بنفسه أولا, وبدون فقه واع لايسقط من حساباته عاملي الزمان والمكان, ذلك وبعبارة موجزة هو فقه التغيير. [email protected]
ساحة النقاش