جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
اختفت الحارة.. والعشوائيات فرضت نفسها علي الأعمال الأدبية |
|
نجيب محفوظ رصد صورة المجتمع من خلال حارته الرائعة تحقيق - صلاح صيام لم يبدع أديب في وصف الحارة المصرية مثل نجيب محفوظ الذي أظهرها بالشكل الطبيعي في أعماقها، وخاصة في التغيير الذي حدث لها إبان الاستعمار الانجليزي كما في روايته "زقاق المدق"، ونجح في محاولة عرض أحوالها بشكل أدبي من خلال رواياته المختلفة سواء التاريخية أوالاجتماعية أو الاقتصادية وعالج كل هذا بشكل درامي يشد القارئ، فماذا بعد رحيل "محفوظ" وهل فقدت الحارة عاداتها ونسيجها الاجتماعي مع اندثار نمط معماري استمر قرونا طويلة، وهل يمكن العودة الي نمطها الاجتماعي دون المكاني. في فترة سابقة كانت الحارة أكثر حضوراً في الأدب والفن، لكنها توارت بعد ذلك وتركتنا نتساءل هل فقدت الحارة سحرها وجاذبيتها وحل محلها العشوائية التي طالت كل شيء في حياتنا واصبحت مادة دائمة في الاعمال الابداعية في هذا التحقيق نحاول فهم الحقائق والوصول الي النتيجة. الدكتور مرعي مدكور يري أن الحارة المصرية تغيرت تماما، واختفت معالمها بشكل كبير، فالحارة الآن مرتبطة تكنولوجيا بمعظم دول العالم عن طريق الأجهزة الحديثة، وأصبح شغل أهلها الشاغل المزيد من التكنولوجيا، وتغيرت الأخلاق تبعاً لذلك وظهرت قيم جديدة وحتي علي المستوي الرسمي أصبح العيب الذي يمكن أن تستحي منه ليس كذلك وانظر الي المسلسلات والافلام التي تقدم قيما جديداً وترسيخ مفاهيم كنا نعتبرها محظورات قبل ذلك. والحقيقة أن الادباء معذورون، فالحارة لم تعد موجودة، والاعلام يسلط أضواءه علي ما يحدث في الحياة وهو أكثر ثراء وحيوية مما يرصده الأدب، واضرب مثالا بسيطاً فعندما كتب يوسف القعيد عن والد يبيع ولده في ميدان التحرير بسبب الفقر قامت الدنيا ولم تقعد واستنكر الجميع هذا الطرح وبعد سنوات قليلة حدث ما هو أبشع فالواقع يسبق الادب بمراحل بل ويسبق الأفكار التي ترد في خاطر أي مبدع. ويؤكد سعيد الكفراوي تحول الحارة المصرية إلي شيء آخر بمواضعها القديمة وصفاتها في شكل المكان والزمان والأشخاص، ولم تعد موجودة، وللتأكد من ذلك راجع رواية نجيب محفوظ الرائعة "حكايات حارتنا" المليئة بالطرافة والأسطورة والصراع حول إحياء قيم العدل عند الفتوات والمواءمة عند الجيران واكتشاف الدهشة عند الطفل، أما الآن فهناك حالة من الضجيج يخترقها "التوك توك" و"الميكروباص" وأخلاق العائدين من سفريات مشبوهة بمرجعيات جديدة في السلوك الأخلاقي وطبيعة التصرفات بين البشر، هل تستطيع أن تخرج الآن شخصية السيد محمد عبد الجواد، اختلطت الأمور بين الإعلامي والفن الهابط والقيم التي عامت علي سطح الحياة المصرية لتجسد تلك الأخلاط من الشخوص والأخلاق والقيم. ومن حسن الحظ أن الادب الجديد الذي يقدمه الشبان مشغول تماماً بتجسيد تلك المعاني والرؤي ليضيف إلي ما كتب عن الحارة اضافة أخري مختلفة دلالة علي أن أصدق ما يجسد حياتنا هو الأدب، ويضيف "الكفراوي" أن الـ 86 حيا عشوائيا حلت محل الحارة الطيبة وخلقت مفاهيم جديدة في حارة جديدة وأفرزوا نماذج إنسانية جديدة تعيش في الجحيم الذي تعيشه مصر كلها منذ السبعينيات وحتي الآن وتغيرت الحياة من حالة الفهم والوئام وطرح السؤال والحوار إلي حالة عدم الفهم، فمعظمهم المصريين لا يفهمون ما يدور حولهم من أحداث ولا يهتمون بذلك. وتري الأديبة وفية خيري ان العشوائيات حلت مكان الحارة المصرية في الأدب الآن لذلك نجدها القاسم المشترك الأعظم في جميع الأعمال الإبداعية تقريبا، فبعد أن كنا نتغني بأخلاقيات الحارة المصرية، أصبحنا نعاني من أخلاقيات العشوائيات التي تعاني هي الأخري من الفقر والجهل والمرض ومع ذلك مازالت هناك أماكن حول القاهرة تتمتع أخلاقيات الحارة القديمة، وتتمسك بالقيم والعادات الشعبية الجميلة وتصر علي التحلي بالشهامة والمروءة، ولكن تنتظر من يكتب عنها ويبتعد عن الأدب السهل الذي لا يعبر عن الواقع، وأظن أن هذه الأماكن في الجمالية وما حولها. يعترف محمد السيد عيد في البداية أن الحارة المحفوظية تغيرت لكن شدة صدق أديب نوبل في وصفها جعلت من كتاباته أساسا يمكن أن نعيش عليه، فرواياته الأولي هي روايات مكان بل أنه أعطاها أسماء أماكن "قصر الشوق - السكرية - بين القصرين - زقاق المدق" ليؤكد ارتباطه بالمكان، لكن ليس معني هذا أن الكتابة بعد "محفوظ" توقفت فهناك جمال الغيطاني الذي كتب واهتم كثيراً بالحارة المصرية خاصة قصصه القصيرة "حارة الطبلاوي - وقائع حارة الزعفراني" لكي نعرف أهمية الحارة في أعماله، وهناك محمد جلال الذي كتب "عطفة خوخة" وغيرها، وهناك مصطفي نصر الذي كتب عن الاسكندرية واحيائها الشعبية بما فيها من حارات وجو مرتبط بهذه الحارات بصورة مختلفة عن الحارة القاهرية وخاصة حارة "محفوظ" الذي لم يكن يهتم بمجرد تقديم الحارة، بل يرصد صورة المجتمع المصري في مرحلة مهمة من التاريخ بدأ فيها التغيير الاجتماعي، فكانت رواياته صورة لهذه الحارة قبل أن يدركها التغيير. ولابد أن نعترف بشيء مهم وهو أن الكاتب أسير للمكان الذي نشأ فيه، ومن هنا فان الكتاب الذين لم يولدوا ولم يعيشوا في الحارة المصرية لم يتمكنوا من الكتابة عنها. ويؤكد الدكتور صلاح الراوي أن المشكلة في مجتمعنا تكمن في النخبة التي لم تعد متصلة اتصالا حميما بشئون المواطنين واصبحت همومها ذاتية جداً، ويبدو أن الحارة سقطت من وجدان الكتاب وإن كانت في الواقع شاخصة إيجاباً او سلباً، ويبدو كذلك ان مفهوما قد تغير وأصبح النموذج العابر للأوطان هو ما يشغلها، ولا شك أن الحارة المصرية تمثل معني ورمزاً وقيمة، من هذه الجوانب الثلاثة لابد أن ننطلق، وحتي إذا افترضنا جدلاً أن الحارة المصرية قد اختفت، فلابد أن نذكرها ونرصد قيمها ونكرس لمفاهيم مهمة في حياتنا ما أشد حاجتنا إليها الآن. يري فؤاد قنديل أن هناك سببين لعزوف الأدباء عن الكتابة عن الحارة المصرية أولهما هو أن نجيب محفوظ كتب عنها كل الكتابات التي يمكن أن تكتب واستطاع أن يصور لنا أعماقها وماضيها وآلامها وأحلامها وسكانها ورؤاهم وما يجمعهم من عواطف حميمة، أوصراعات وغيرها من مشاعر، كما أنه عبر عن ملامحها المكانية ومعالمها وأشكال مبانيها ومشربياتها وكل ما ينتمي إليها سواء مساجد أو أسبلة أو زوايا وأركان فضلاً عما يقام فوقها من عشش للحمام، والحارة المصرية موجودة الآن وستبقي لأن مصر كلها حارة، وعندما تكلم عنها نجيب محفوظ تكلم عن مصر دون أن يكشف رموزه، فظل لها هذا الحضور الغامض واقتربت المسافة واتسعت ما بين الرمز والأصل، وهناك كتاب كتبوا عنها مثل جمال الغيطاني، ومحمد جبريل، ولكن اختلف التعبير عن الحارة لأن الادب مشبع به، وملامح الحارة تراجعت مع عنف قبضة المدينة التي أصبح لها حضور قوي تجاوز محاولة حصره في حارة، وأصبحنا نتحدث عن صراعات كبيرة، ومبان شاهقة وسيارات فارهة ومصاعد كهربائية وازدادت الحضارة والمدنية لتدهس الإنسان وتسحق مشاعره بعد أن كانت الحارة أماً له حنوناً تحتضنه وتربت علي ظهره وهذا هو السبب الثاني من عزوف الكتاب عن الكتابة عن الحارة التي قتلتها المدنية. |
|
|
|
مع أطيب الأمنيات بالتوفيق
الدكتورة/سلوى عزازي
ساحة النقاش