مياه النيل ـ تحديات ورؤية مستقبلية
د‏.‏ مغاوري شحاتة دياب
انقضت الجولة الثامنة عشرة لاجتماعات وزراء دول الموارد المائية والري لدول حوض نهر النيل علي نهاية كان من السهل التنبؤ بها وهو تمسك دول المنبع بمواقفهم تجاه دول لمصب وهو الرفض التام لمطالب‏(‏ مصر والسودان‏)‏ في قضايا الأمن المائي والإخطار المسبق وشرط الأغلبية أو الاجماع فيما يتعلق بالتصويت علي القضايا المطروحة أمام مفوضية دول.
 
 

 

حوض النيل المقترح انشاؤها‏.‏ ولعل التوقع بنتيجة المفاوضات لم يكن رجما بالغيب‏,‏ ولكنه حاصل تراكم مواقف متعددة سابقة لدول منابع حوض النهر منذ بداية القرن الماضي بالنسبة لإثيوبيا ومنذ بداية الستينات بالنسبة لدول المنابع الاستوائية لحوض النهر الست الواقعة في منطقة هضبة البحيرات ولتوضيح ذلك نشير إلي المواقف الآتية‏:‏
‏1‏ ــ أن إثيوبيا كانت دائمة الرفض للمشاركة في كل ما يتعلق بمفاوضات دول حوض النهر واتخذت موقف المراقب في أغلب الاحيان كما أنها رفضت التوقيع علي الاتفاق الاطاري للمجاري المائية العابرة للحدود والذي تم توقيعه عام‏1997‏ ضمن قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة انذاك وحتي عندما وقع الرئيس محمد حسني مبارك اتفاقا مع السيد‏/‏ مليس زيناوي‏1993‏ يتضمن التعاون فيما يتعلق بمياه نهر النيل جمدت اثيوبيا هذا الاتفاق من جانبها‏.‏
‏2‏ ــ أن إثيوبيا تقوم بانشاء سدود علي مقاطع من منابع نهر النيل منذ عام‏2002.‏ وغالبا تقوم بفرض الامر الواقع من منطلق أنها المساهم الأكبر في حصة مياه نهر النيل وكذلك بدافع ان لديها مناطق في غرب البلاد تحتاج الي مياه النهر كذلك لحاجتها لطاقة كهرومائية ـ وغالبا ما تستقبل مصر هذه التصرفات بدافع الرغبة في التعاون طالما كان ذلك لا يؤدي الي إيقاع الضرر علي مصر‏.‏
‏3‏ ــ أما بالنسبة لدول حوض النيل في منطقة الهضبة الاستوائية وهي رواندا ـ بوروندي ـ الكونغو ـ تنزانيا ـ أوغندا ـ كينيا‏,‏ فمواقفها متفاوتة طبقا لظروفها الديموغرافية والاقتصادية والتنموية ـ لقد تطورت مواقف هذه الدول علي النحو التالي‏:‏ بدأت تنزانيا في مطالع الستينات من القرن الماضي رفض الاتفاقات الموقعة بخصوص مياه نهر النيل بما في ذلك الاتفاقات الموقعة بين مصر والسودان‏,‏ وأرسل الرئيس جوليوس نيريري رئيس تنزانيا آنذاك رسالة إلي الرئيس عبد الناصر تفيد رفض تنزانيا الاعتراف بهذه الاتفاقات‏,‏ وأمهلت تنزانيا مصر عامين للرد وبالطبع لم يرد عبد الناصر علي هذه الرسالة لاعتبارات متعددة من بينها عدم قدرة تنزانيا آنذاك علي التأثير في حصة مصر من المياه‏.‏
اتبعت كل من كينيا وأوغندا ما يعرف بمبدأ نيريري في رفض ما سبق توقيعه من اتفاقات بخصوص مياه نهر النيل وتوالت مواقف الرفض تباعا‏,‏ كما أعلنت بوروندي أيضا رفضها التوقيع علي الاطار الاتفاقي للمجاري المائية العابرة للحدود الذي اتخذته الجمعية العامة للامم المتحدة عام‏1997‏ وفي المقابل امتنعت مصر عن التصويت علي هذا الاتفاق‏.‏ لقد ذكرنا أن مواقف هذه الدول الست متفاوتة وهذا أمر واقع‏,‏ فالكونغو لا يعنيها من قريب أو من بعيد مياه نهر النيل لان لديها فائضا هائلا من المياه في حوض الكونغو‏,‏ كما ان رواندا وبوروندي تعلنان عن رغبتهما في بيع المياه لمن يشتري‏,‏ كما أن كينيا لها ظروف أخري لحاجتها الي مزيد من الطاقة لمشروعاتها الاستثمارية وأن مصالحها مع الدول المجاورة وهي دول حبيسة ليس لها مخرج بحري سوي مواني كينيا مقابل الكهرباء من الماء طبعا‏,‏ أما أوغندا فهي أقرب الدول الي التعاون مع مصر كما شهد بذلك تاريخ البلدين وما تم تنفيذه من مشروعات التعاون الفني والزراعي والمائي‏,‏ وغيرها ولذا فإن موقفها أكثر عجبا‏.‏ وفي المقابل اتخذت مصر والسودان مبدأ التعاون والتفاوض والتوافق لتحقيق صالح جميع دول حوض النهر في مراحل زمنية وحتي الآن‏,‏ كما أن مصر قد اضطرت سابقا لتقليص التعاون مع الدول الإفريقية إجمالا ليس عن عمد ولكن عن اضطرار تحت وطأة حرب‏1967‏ وما تلاها وحرب‏1973‏ وما تلاها وانغماسها في قضاياها الداخلية وقضايا التنمية الذاتية وكان ذلك دافعا لوجود قوي أخري بمنطقة دول المنابع‏.‏ لقد كانت مصر دائمة الانتباه الي أهمية مياه نهر النيل فطورت منابعه وساعدت مختلف دوله من منطلق الرغبة في التعاون وتبادل المصالح وليس من منطلق الترضية أو فرض الامر الواقع‏.‏ والآن بدأت مرحلة جديدة لا تسير الأمور فيها علي نهج منطقي خاصة اذا ما تبدلت المصالح ووجد علي الساحة لاعبون دوليون لا يهمهم بث روح التعاون خاصة اذا كان الامر يتعلق بالمصالح العليا للدول وليس هناك أهم من موضوع المياه لكل من مصر والسودان فلماذا لا يكون اللعب علي هذا الوتر؟ لقد عرضت الولايات المتحدة الامريكية اكثر من أربعة وعشرين مشروعا ضخما في إثيوبيا منها مشروعات أراض وسدود وكهرباء في بداية الستينات ردا علي قيام الاتحاد السوفيتي ببناء السد العالي وها هي مشروعات السدود يتم تنفيذها في أثيوبيا الآن بأياد صينية وشركات اسرائيلية وايطالية ولم نعد في حاجة الي انكار ذلك أو اخفائه خاصة ان هذه المشروعات لن تؤثر علي حصة مصر المائية حاليا سواء كانت في اثيوبيا أو في دولة من دول المنابع‏.‏ وبالفعل تقوم إثيوبيا بعمل مشروعات استصلاح الاراضي غرب البلاد بعد ان اقتلعت‏40%‏ من مساحة غاباتها تمهيدا لزراعتها زراعة مستديمة علي مياه نهر النيل‏.‏ كما تقوم دول البحيرات بمشروعات عملاقة لتوليد الكهرباء واستصلاح الاراضي‏,‏ وعلي الرغم من ورود‏15%‏ فقط من مياه نهر النيل من هذه المنابع الا انها تمثل أهمية خاصة في مستقبل الإمداد بالمياه في حال تنفيذ مشروعات المبادرة التي طرحتها مصر للاستفادة من المياه المهدرة بهذه المنطقة‏.‏ ان تقدير الاحتياجات المائية لكل دول حوض النهر يؤكد حاجة مصر الي‏32‏ مليار متر مكعب اضافية حتي عام‏2050,‏ وأن حاجة اثيوبيا حاليا تقدر بنحو‏9‏ مليارات متر مكعب سنويا وأن أوغندا في حاجة الي خمسة مليارات متر مكعب سنويا‏,‏ أما الكونغو وبورندي ورواندا فليست في حاجة الي مزيد من المياه حاليا‏,‏ وأن السودان في حاجة لنحو‏12‏ مليار متر مكعب اضافية من المياه وأن اجمالي المقدر من الاحتياجات للمياه لجميع الدول هو نحو ستين مليار متر مكعب اضافية سنويا وأن توفير هذه الاحتياجات أمر ممكن فقط في حال التعاون وتبادل المنفعة‏,‏ لماذا الاختلاف اذن؟‏!‏ يرجع الاختلاف كما ذكرنا الي عوامل تاريخية لا ترتبط بالموضوعية ـ حيث إن التعاون هو الضامن لمصلحة الجميع‏,‏ وأن الاختلاف هو خسارة للجميع وإن كانت مصر هي الاكثر خسارة وضررا يليها السودان يرجع الخلاف لتفسير غير منطقي لدي دول المنابع بأن مصر والسودان قد وقعتا اتفاقا فيما بينهما لتقسيم مياه حوض النهر عند أسوان عند بناء السد العالي دون الرجوع الي هذه الدول وأنه قد حان الوقت لكي ترد دول المنابع الصاع صاعين لدول المصب لقد تناست هذه الدول انه لم يقع عليها ضرر من وراء هذه الاتفاقات وأن مصر والسودان قد اتفقتا علي ما يرد اليهما من مياه‏.‏ أن واقع الامر يؤكد ان الازمة الحالية هي أزمة تعبير عن إثبات الذات تحت يافطة السيادة أكثر منها أزمة مياه في هذه الدول والتي لديها مصادر مياه غير مياه نهر النيل وأن ادارتهما للمياه تحتاج إلي تعاون وتفاهم‏.‏ إن تكتل دول المنابع علي هذا النحو ضد مصر والسودان وإعلان تكوين مفوضية تجمع هذه الدول فقط وأن الباب مفتوح لعضويتها لمدة عام لمن يرغب فاذا رفضت كل من مصر والسودان وأصرتا علي شروطهما سيفوتهما قطار المفوضية يقتضي هذا الموقف التعامل بهدوء وحزم أما الهدوء فيقتضي عدم التهديد بأي نوع من أنواع القوة فهذا أمر مرفوض من جانب مصر وأما الحزم فيقتضي عدم التفريط في حصة مصر‏,‏ المائية وحقوقها التاريخية ولابد من دفع الضرر الذي سوف يقع علي مصر من جراء هذا الاجراء غير المنطقي وهو رفض التعاون الا بشروط دول المنابع ماذا وإلا؟‏!!‏
اننا نؤكد عدم وقوع ضرر مائي علي مصر في المرحلة الحالية وربما لعدة عقود قادمة حتي في ظل قيام بعض الدول بمشروعات السدود واستصلاح أراض وتوليد الكهرباء وغيرها ولكن الاستعداد للمستقبل يقتضي تأمين مصادر المياه بل والعمل علي زيادتها ولن يكون ذلك من خلال وقف التعاون بل العمل علي استمراره للوصول الي صيغة توافقية تضمن صالح جميع الدول ولكن كيف ومتي؟ أن التعامل مع ملف المياه يجب ان يتضمن عددا من السيناريوهات التي تراعي ما يلي‏:‏
‏1‏ ــ أننا بصدد رسم خط التعاون مع مجموعة دول حوض النهر الذي نعتمد علي مياهه بنسبة تصل الي‏95%‏ وإننا الاكثر عرضة للضرر وإن من حقنا درء الضرر بقوة تتناسب مع حجم الضرر المتوقع وهو كبير‏.‏
‏2‏ ــ ان منطق مصر هو التعاون والتضامن والتوافق وتحقيق مصلحة الجميع‏,‏ ولذا فإن الاعلان عن وقف التفاوض من جانب الدول السبع سلوك لا يتفق مع ثوابت المجتمع الدولي في حل النزاعات الدولية بالتفاوض‏.‏
‏3‏ ــ انه قد حان الوقت لكي تتعامل مصر مع دول حوض النهر دولة دولة حيث لا مجال للتفاوض مع جبهة ثم تكوينها وهي الآن في مرحلة استعراض القوة تحت شعار السيادة والتي لم تمسها مصر من قريب أو من بعيد بل ان مصر كانت عنصرا داعما لحصول أغلب الدول الافريقية في الحصول علي السيادة‏.‏
‏4‏ ــ من الحكمة أن تدرس مصر مجمل الاوضاع في السودان وجنوبه لأهمية ذلك علي مستقبل المفاوضات‏.‏
‏5‏ ــ أن يتم التوجه إلي الدول والهيئات الداعمة لمبادرة حوض نهر النيل والدول التي تقوم بمشروعات مائية في مناطق دول المنابع لأهمية الحوار مع هذه الهيئات والدول وإقناعهم بمطالب مصر العادلة في تأمين مياهها ودرء الضرر عن شعبها‏.‏
‏6‏ ــ ان تستمر مصر بجدية في تنفيذ برامج التعاون مع دول حوض النهر سواء علي الصعيد الاقليمي تأكيدا لمبدأ تبادل المنفعة‏.‏
‏7‏ ــ ان ندرس إمكانية التوقيع علي انشاء المفوضية بتحفظات مصرية وسودانية علي نقاط الاختلاف‏.‏
‏8‏ ــ ان تعد مصر ملفا قانونيا وفنيا شاملا يمكن اللجوء في حالة إصرار الدول السبع علي مواقفها المتعنتة لعرضه علي مجلس الرؤساء أو أي منظمة عالمية قانونية عند الحاجة للتحكيم الدولي‏.‏
‏9‏ ــ انه لا مبرر الان لعقد اجتماع قمة علي مستوي رؤساء الدول في ظل هذا التوتر الحالي ولابد من الانتظار لتهيئة المسرح لنقل هذا اللقاء رفيع المستوي‏.‏

 

 

azazystudy

مع أطيب الأمنيات بالتوفيق الدكتورة/سلوى عزازي

  • Currently 45/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
15 تصويتات / 639 مشاهدة
نشرت فى 2 مايو 2010 بواسطة azazystudy

ساحة النقاش

الدكتورة/سلوى محمد أحمد عزازي

azazystudy
دكتوراة مناهج وطرق تدريس لغة عربية محاضر بالأكاديمية المهنية للمعلمين، وعضوالجمعية المصرية للمعلمين حملة الماجستير والدكتوراة »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

4,792,947