متناسية أو متجاهلة قضيتين لهما تأثير بالغ في مسيرة تطوير التعليم, إما للصعوبات أو التعقد أو لأنهما خارج الإطار الفني للتعليم, واعتبارهما هما مجتمعيا سياسيا. ذلك العاملان هما. اولا: هم التمويل: وقد اشرنا إليه في مقالين سابقين في الأهرام ـ والهم الثاني هو الدروس الخصوصية التي نذكر بمخاطرها في هذا المقال. ومما يؤسف له أن معظم الأطراف المعنية بالعملية التعليمية قد اعتبرتها أمرا يمكن ان يصرف عنه النظر مؤقتا بحلول مرحلة التطوير الحالية. لقد اعتبرها أولياء الأمور مع ما ينفقون فيها من مليارات لابد من قبوله تضحية في سبيل إتاحة التفوق لأبنائهم.. ووجد فيها الطلاب مجالا مختصرا قليل المعاناة في التعلم. وأتاحت لمؤلفي الكتب الخارجية ومذكراتهم سوقا للتوزيع, كما فتحت شهية قطاع من المعلمين إلي تكوين ثروات تضعهم في قائمة أصحاب الملايين. لقد غدت الدروس الخصوصية وباء كالطاعون أو كالسرطان الخبيث في انتشاره ينهش في الجسم التعليمي. وقد وجد انتشار الداء مبررات تنطلق من تدني الأوضاع الاقتصادية للمعلمين وأعضاء هيئات التدريس, ومن التذرع بكثافة الفصول مما لا يتيح لهم التدريس الفعال, نجم عن مثل تلك التبريرات أن اطمأنت ضمائر جماعة من المعلمين والأساتذة الي التهاون في أداء واجباتهم, مما هيأ المناخ للطلب علي الدروس الخصوصية لدي كل من اولياء الأمور والطلاب. إن الشكوي متواصلة مع ما بذلته الدولة من تحسين في الأجور في كادر المعلمين الجديد. والحاصل أن شكواهم لا تقتصر عليهم حيث إن معظم العاملين في الدولة يتطلعون الي تحسين أوضاعهم مما فتح آفاقا واسعة للفساد والإفساد, في كثير من قطاعات العمل الأخري, مما يبرر تخلي الجميع عن أداء مسئولياتهم بأقصي ما يستطيعون من جهد, وفاء لحق الوطن والمواطنين. ونحن نؤكد هنا أن ظاهرة الفساد والإفساد في كثير من أنشطة الدولة في حاجة الي اقتلاع من جذورها, وهي اخطر ما تكون في مهنة التعليم, ففي تنشئة المواطن وتكوينه لا يمكن التبرير بأن الضرورات الاقتصادية والمالية تبيح المحظورات التربوية والوطنية, سواء من قبل الدولة أو الأفراد العاملين, وإذا قام منهج التعامل في أي مجتمع علي استغلال المنتج للمستهلك تهاوت مقومات العدل الاجتماعي وتكافؤ الفرص, وأهدر اقتران الحق بالواجب, بل وتصدعت وشائج علاقات الانتماء بين المواطن ومؤسسات الدولة. ونود أن نؤكد هنا أن الدورس الخصوصية إنما تؤدي الي تآكل كثير من الجهود المبذولة في تطوير التعليم, ومن ثم فإنها تمثل استنزافا وخسائر فادحة منظورة وغير منظورة لسيرورة تطوير التعليم, إن ما تحدثه من خسائر ينتقص باليسار ما تسعي الوزارة إلي إنجازه باليمين, ممتدة آثار تلك الخسائر إلي جملة مكونات المنظومة التعليمية, ومما تجدر ملاحظاته أنه ما من مشروع إصلاحي إلا يواجه عقبة الدورس الخصوصية. ثم إنه نظرا للتنافس علي الالتحاق بما يعرف بــ كليات القمة, فقد جري ارتفاع باهظ في تكلفة الدروس الخصوصية في مواد العلوم الطبيعية والرياضيات واللغات الاجنبية كما ابتعد عنها فريق من الطلاب لارتفاع تسعيرة دروسها الخصوصية وتدنت في نظر الطلاب, بل والمجتمع بأسره قيمة العلوم الاجتماعية والإنسانية, وفي هذه الطبقية تشويه مخل للقيمة المجتمعية لمختلف المعارف والعلوم, ولكل ما تتطلبه ثورة المعلومات ومجتمع المعرفة من ترابط وتشابك بين مختلف صنوف المعارف. والتفت طبقية المواد الدراسية بطبقية لدي المعلمين انفسهم بين الذين يدرسون المواد المؤهلة لكليات القمة والمواد الاخري. أما خسائر الطلاب فهي فادحة ايضا, حيث تتولد لدي الطالب نزعات الاغتراب عن المدرسة والقفز فوق اسوارها, وعن عدم احترام المعلم, وقيم البيئة التعليمية وتختزل لدي الطالب أي تأثير لها من حيث تنمية مختلف جوانب شخصيته خاصة فيما يتصل بمجالات الأنشطة والهوايات, ولعل هذا الاغتراب عن المدرسة أو الكلية اعتمادا علي الدروس الخصوصية, يتيح للطلاب وبالذات في مرحلة المراهقة والشباب مساحة واسعة للفراغ وممارسة المشاغبة ونزعات العدوانية لديهم, وقد يلجأ بعضهم الي الزوغان ليلتحقوا بأقران السوء ومصادر الانحراف خارج أسوار المدرسة أو الكلية. ومبلغ القول: أن علي وزارتي التعليم التصدي لوباء الدروس الخصوصية بمواجهة مباشرة حاسمة, اهتداء بمقولة أن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن, وأن الاتجار بالتعليم أخطر من الاتجار بأقوات الشعب. ومعهما في هذه المواجهة كل القوي المجتمعية التشريعية والتنفيذية والأمنية والإعلامية وهيئات المجتمع المدني من أجل وقاية الجسم التعليمي من وباء هذا الطاعون, ومع وقاية المقاومة يأتي العلاج الصحيح من خلال توفير الموارد المالية اللازمة كأولوية أخري قاطعة ضمانا لسلامة وعافية الجسم التعليمي, ومع الوقاية والعلاج يسلم هذا الجسم بمختلف اعضائه البدنية والعقلية والوطنية والأخلاقية. أنشد معذرة القارئ لهذا المقال الي أنه قد ذكرني بمقولة ذلك الصوفي العظيم:( معركتان في الحب لا يصح الوضوء لهما إلا بالدم) وفي معالجة هذين الهمين: الفجوة التمويلية, وقطع دابر الدروس الخصوصية يتجسد أهم عاملين في تطوير التعليم, وفي مواجهتهما فليتنافس المتنافسون.
المزيد من مقالات حامد عمار |
ساحة النقاش