الشِّعرُ فى طرقات قرطبة

  بقلم   فاطمة ناعوت    ٢٦/ ٤/ ٢٠١٠

الشِّعرُ لا يحبُّ المَنصّات العالية، ويفرُّ وَجِلاً من القاعات الأنيقة، ويسخرُ ملءَ قلبه من ربطات العنق المُنشّاة، التى ينتعشُ فيها المَوات. الشِّعرُ يحبُّ الحياةَ ويحبُّ الناسَ. تجده فى عين طفل يركضُ بفرح وراء فراشة، ثم تتحولُ الفرحةُ فى عينيه حَيرةً وقد انتبه إلى غياب أمّه، ثم تتبدّلُ الحيرةُ خوفًا، ثم يتحوّرُ الخوفُ دمعةً تغلّفُ العينَ الوَجْلى، قبل أن تسقط على الوجه الصغير، ثم تعودُ الدمعةُ فرحًا غامرًا وقد لمحَ وجهَ الماما بين عشرات الوجوه البعيدة.

يبحث الشِّعرُ عن ذلك الطفل، ويلازمُ تلك العينَ فى تحوّلاتها، وما إن يُسلّمه لأمه، حتى يطيرَ بعيدًا لينامَ فى غَيمةٍ نائية، أو جناح طائر مكسور، أو ورقة شجر صفراء مَنْسيةٍ، ألقاها الخريفُ بعيدًا عن غصن الشجرة الأم.

لكلِّ ذلك رحبتُ فورًا بالمشاركة فى مهرجان كوزموبوتيكا بمدينة قُرطبة الإسبانية. ليس فقط لأننى عزمتُ على السيْر فى كلِّ رواقٍ سار فيه ابن رشد، الفيلسوف المشاكس، الذى ضمّه مايكل أنجلو مع مُشاكسى العالم فى «لوحة الجحيم» على سقف الفاتيكان، وأسكنه دانتى آليجيرى مرتبةَ الجحيم الرابع «الكوميديا الإلهية»، ولا لأننى، كمعمارية، أتوقُ لزيارة مدينة دوّختِ التاريخَ، إذْ كادت أن تكونَ مسلمةً بعدما فتحها طارق بن زياد فى ق٨، حتى أعادها فرناندو الثالث فى ق١٣ للغرب المسيحىّ، فجمعت بذلك، فى تناغم فاتن، بين العمارة العربية والغربية، بل رحّبتُ بالمشاركة أيضًا لأسباب تخصُّ مفهومى عن الشعر.

نجح مهرجان Cosmopoética، منذ ميلاده عام ٢٠٠٤، فى جعل قراءة الشعر عادةً أصيلةً لدى الناس، من شريحة الأطفال إلى المسنّين، مرورًا بكل خيوط نسيج المجتمع، من العمال إلى ربّات البيوت إلى المعوّقين إلى المساجين حتى.

وهنا تلحُّ عليّ مقولة أفلاطون: «علّموا أولادَكم الفنَّ، ثم أغلقوا السجون.» فالفنُّ ضدٌّ للقبح والجريمة. كان الهدفُ تحريرَ الشعر من صندوقه الضيق الذى تتجمد فيه النخبُ المثقفة، وإطلاق سراحه نحو الأروقة الأكثر حياةً، حيث الشوارع والأزقة والميادين والمدارس والمساجد والكنائس التى تملأ جنبات قرطبة، مدينة التراث العالميّ، كما وصفتها اليونسكو، المدينة التى تمّ اختيارُها لتكون عاصمةً للثقافة الأوروبية عام ٢٠١٦. لا خيوطَ فاصلةً بين طرائق التعبير لدى هذا المهرجان.

لذلك عمل على تذويب الحوائط بين الشعر، والمسرح والسينما والتشكيل والموسيقى والنحت. مثلما أصر على تذويب الجدران بين الألسن، لذلك يدعو كل عام شعراءَ من أرجاء الأرض كافة، إضافةً إلى الشعراء الإسبان.

وهذا العام، يشارك شاعران عربيان فى دورته السابعة: عباس بيضون من لبنان، وكاتبة السطور من مصر. وتأتى فرحتى الشخصية فى أن إحدى أمسياتى الثلاث فى قرطبة كانت فى مدرسة ثانوية، إضافة إلى أمسية فى معرض الكتاب بقرطبة، وأخرى فى قرية اسمها «البئرُ البيضاء».

ولكى تجعلَ السماءُ فرحتى غامرةً فقد كان اسم المدرسة Averroes /ابن رشد! فهل أجملَ من أن تقرأ قصائدك على صِبية وصبايا فى طور التشكّل، لتعرفَ أين تقفُ قدماك فى تِيهٍ عظيم، ومخيف، اسمه: « تيه الشعر».

[email protected]

azazystudy

مع أطيب الأمنيات بالتوفيق الدكتورة/سلوى عزازي

  • Currently 47/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
16 تصويتات / 142 مشاهدة
نشرت فى 26 إبريل 2010 بواسطة azazystudy

ساحة النقاش

الدكتورة/سلوى محمد أحمد عزازي

azazystudy
دكتوراة مناهج وطرق تدريس لغة عربية محاضر بالأكاديمية المهنية للمعلمين، وعضوالجمعية المصرية للمعلمين حملة الماجستير والدكتوراة »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

4,795,546