الشاعر علي فودة
درسه الأول الذي حفظه:
كان الدرس الأول الذي حفظه الطفل (علي) أنه رغم التشرّد واللجوء أن يفخر بالمخيم الذي ترعرع فيه، فأرضه شهدت إحدى أهم معارك ثورة 1936 الفلسطينية، تلك المعركة المعروفة بمعركة (نور شمس)، ووقعت في 21/ 6/ 1936، وكان موقع (نور شمس) يتيح للمناضلين والثوّار مراقبة ورصد القوافل الصهيونية التي تعبر طريق حيفا –تل أبيب بحراسة القوات البريطانية... وقد قاد المعركة المجاهد البطل عبد الرحيم الحاج محمد، وتمكّن الثّوار من الصمود سبع ساعات في وجه قوات الصهاينة والبريطانيين التي تفوقهم عدداً وعدّة... لذلك كان (علي فودة) في عمّان وبيروت يكثر من أحاديثه عن تلك المعركة وذلك المخيم الذي حمل اسمها..
الشاعر علي فودة من جيل الشعراء محمد لافي وعلي البتيري ومحمد ضمرة ومحمود الشلبي ومؤيد العتيلي، كان اسمه إلى جانب أسمائهم، في المشهد الثقافي الاردني، وكان أقرب إلى شعر محمد لافي... وشاركهم جلساتهم في مقاهي عمّان، وكانوا من زوّاره في غرفته المطلّة على المقبرة بجبل النظيف.. وهي الغرفة التي كانت ثمرة لحياة بائسة ومعاناة طويلة بسبب وفاة أُمّه وزواج أبيه من امرأة اعترف بفضلها عليه، فهي التي (شكَّلتْ) بِاطِّهادِهَا وَدَعِّها (موسيقاه) الشعرية الداخلية (الموجعة والمحزنة).. إِذْ لولا قسوتها ربما لم يكن شاعراً ولا طيراً شادياً بألحان الدّنيا الني تكسّرتْ أغصانها كيلا يُمنِّي نفسه بالشدو عليها..!! ولم يجد من حيلة إلا الدعاء "أشكوكِ يا زوجة الأب.. أشكوك للرَّب"..
هي أيام ...
فأين وجه ضاع منّي ذات يومٍ كان خدّاهُ الدّوالي والنّدى كان الشِّفاه..؟
وأين وجه كان في عينيه فاتحة الصّلاهْ
واحسرتاهْ...
لقد كانت هناك دائماً صرخته، تشتعل وتحتدّ في الأفق الصاهل، وكان يصرُّ على أن يسمعها أولئك الذين جرّعوهُ (كأس العلقم)، وما انفكّوا يسلبونه حقوق العيش في سلام وأمانٍ مثل بقيّة أطفال الدّنيا:
وقصاصات من الشِّعر وجدناها على مقعدك النَّهريِّ تبكيك فأبكتْنا، وسال الدمعُ سالْ..
آهِ يا طفلاً كبير السِّنِّ كم أَحْرَجْتَنَا..!
نحن لم نُقْرِئْكَ يا.. حتّى السلامْ
ما سألنا عنكَ.. عن أوجاعِكَ الأولى..
تُرانا.. هل عمينا أم تعامينا عن الرمل الذي
عفّر أوراقَكَ، أم أنّ الظَّلامْ حجب الكوفيّة الحمراءَ عنا والعباءة؟!
وعندما تساءل أحدهم: ".. وفي مثل هذا الوضع غير الطبيعي هل لا يبقى إلاّ القهر والألم؟!".. فيكون الجواب على لسان الشاعر (عليّ فودة) نفسه صاحب (الوضع غير الطبيعي) فيقول: "أجل.. حينها لا يجري الصّراخ والبكاء"... إلا أن الشّعراء يظلّون يصرخون، ويعزفون سمفونيّة قهرهم وحزنهم.. ومكنونات مرايا نفوسهم المهشّمة...! قال لأحد أصدقائه المقرّبين وهو الشاعر (محمد ضمرة):
"أما تدري يا صديقي أن مشكلتي تكمن في الأم التي فقدتُها صغيراً، وأننّي أتمنّى أن تكون لي أمّ ولو(...)" فخدش قوله عاطفة صديقه، وأشعره بالمرارة... وعن ذلك الموقف قال محمد ضمرة معلقاً: "...فلماذا لا تدع الآخرين ليكونوا لك جزءاً من أُمّك أَمْ من أَمٍّ جديدة، لا شكّ أنّ كلَّ واحدٍ منّا يملك قليلاً من الحنانِ الذي يسدُّ احتياجاتك.. ثمّ وجدتُني أقول له بصوتٍ واضح: تذكّرْ يا عليّ نصيحة الفيلسوف الصّيني الذي قال: إذا لم تكن لك أُمّ فَابْحَثْ عن صديقٍ وفيٍّ لتُسْقِطَ دموعَكَ على أكتافه"...(•)
يوسف حمدان/ (أقحوان على ضفاف النهر ج2).