جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
<!--<!--<!--[if gte mso 10]>
<style>
/* Style Definitions */
table.MsoNormalTable
{mso-style-name:"Table Normal";
mso-tstyle-rowband-size:0;
mso-tstyle-colband-size:0;
mso-style-noshow:yes;
mso-style-parent:"";
mso-padding-alt:0cm 5.4pt 0cm 5.4pt;
mso-para-margin:0cm;
mso-para-margin-bottom:.0001pt;
mso-pagination:widow-orphan;
font-size:10.0pt;
font-family:"Times New Roman";
mso-ansi-language:#0400;
mso-fareast-language:#0400;
mso-bidi-language:#0400;}
</style>
<![endif]-->
أ- المسألة الأولى: (قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما).
الجمهور على أن المقصود القرآن والتوراة. قال ابن كثير: (والظاهر على قراءة (سحران) أنهم يعنون التوراة والقرآن؛ لأنه قال بعدها (قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه). وكثيرًا ما يقرن الله بين التوراة والقرآن، كما في قوله (قل من أنزل الكتاب الذى جاء به موسى نورا وهدى للناس) إلى أن قال (وهذا كتاب أنزلناه مبارك). وقال في آخر السورة (ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن) الآية. وقال (وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون). وقالت الجن (إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه). وقال ورقة بن نوفل: هذا الناموس الذي أنزل على موسى. وقد عُلم بالضرورة لذوي الألباب أن الله تعالى لم ينزل كتابًا من السماء فيما أنزل من الكتب المتعددة على أنبيائه أكمل ولا أشمل ولا أفصح ولا أعظم ولا أشرف من الكتاب الذى أنزل على محمد عليه الصلاة والسلام وهو القرآن، وبعده في الشرف والعظمة الكتاب الذى أنزله على موسى بن عمران عليه السلام، وهو الكتاب الذى قال الله فيه (إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء). والإنجيل إنما أنزل متمما للتوراة، ومحلا لبعض ما حرم على بنى إسرائيل).
السؤال: كيف يصف القرآن التوراة وقت البعثة بالهدى ؟
والجواب: أن الآية تتكلم عن التوراة المنزلة. يبين ذلك أن الآية التى قبلها تقول: (فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا: لولا أوتى مثل ما أوتى موسى؟ أولم يكفروا بما أوتى موسى من قبل؟! قالوا: سحران تظاهرا. وقالوا: إنا بكل كافرون). فتبين أن الكلام عن (ما أوتى موسى). ولذلك يقول الزمخشرى: ("هو أهدى منهما" مما أُنزل على موسى عليه السلام ومما أنزل عليّ).
وتقدم معنا قول ابن تيمية: (فهو سبحانه يذمهم على ترك اتباع ما أنزله في التوراة والإنجيل، وعلى ترك اتباع ما أنزله في القرآن، ويبين كفرهم بالكتاب الأول، وبالكتاب الثاني. وليس في شيء من ذلك أمرهم أن يحكموا بالمنسوخ من الكتاب الأول، كما ليس فيه أمرهم أن يحكموا بالمنسوخ في الكتاب الثاني).
المسألة الثانية: (مصدقًا لما معكم).
ورد التعبير فى قول تعالى: وقال تعالى: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ . وَآَمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ) البقرة 40، 41.
وقال تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) آل عمران 81.
وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آَمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا) النساء 47.
قدمنا أن التوراة لم تُحرف كلها، وليس كل لفظ منها مبدل. وعلى ذلك يصح أن يصدّق القرآن (لما معهم)؛ لأن (ما معهم) فيه حظ لم يُحرف. وأهل الكتاب الذين عاصروا البعثة معهم ما يصدقه القرآن.
وقال الكلبى فى (التسهيل لعلوم التنزيل 1/46): ("بما أنزلت" يعني القرآن "مصدقا لما معكم" أي مصدقا للتوراة. وتصديق القرآن للتوراة وغيرها، وتصديق محمد صلى الله عليه وسلم للأنبياء والمتقدمين، له ثلاث معان: أحدها: أنهم أخبروا به، ثم ظهر كما قالوا، فتبين صدقهم في الإخبار به. والآخر: أنه صلى الله عليه وسلم أخبر أنهم أنبياء، وأُنزل عليهم الكتب، فهو مصدق لهم أي شاهد بصدقهم. والثالث: أنه وافقهم فيما في كتبهم من التوحيد وذكر الدار الآخرة، وغير ذلك من عقائد الشرائع، فهو مصدق لهم لاتفاقهم في الإيمان بذلك).
وتقدم معنا قول ابن تيمية: (والصحيح أن هذه التوراة التي بأيدي أهل الكتاب فيها ما هو حكم الله، وإن كان قد بُدل وغُير بعض ألفاظها ... فعُلم أن التوراة التي كانت موجودة بعد خراب بيت المقدس وبعد مجيء بختنصر وبعد مبعث المسيح وبعد مبعث محمد فيها حكم الله. والتوراة التي كانت عند يهود المدينة على عهد رسول الله وإن قيل إنه غُير بعض ألفاظها بعد مبعثه، فلا نشهد على كل نسخة في العالم بمثل ذلك؛ ... وكذلك في الإنجيل، قال تعالى: (وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه) المائدة 47. فعُلم أن في هذا الإنجيل حكمًا أنزله الله تعالى).
إذا عرفت هذا، فلا إشكال فى الآيات التى ورد بها التعبير (لما معكم). واضمم إليها الآيات التى ورد بها التعبير (لما معهم).
قال تعالى: (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ) البقرة 89.
وقال عز اسمه: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) البقرة 91.
وقال: (وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) البقرة 101.
وما رُوى عن مجاهد من تفسير (لما معكم) بالإنجيل، فهو مشابه لكثير مما رُوى عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أهل التفسير. ولا إشكال فيه، لأنه لا يخالف ما قررنا. لأن مقصود المفسر، كمجاهد، أن القرآن مصدق لما معهم من الإنجيل المنزل. ليس مقصود المفسر أن القرآن مصدق لكل ما بأيدى أهل الكتاب على التفصيل. ألا ترى أن الكلبى لم يتردد فى تفسير (لما معكم) بالتوراة مع أنه يقول بتحريف ما بأيدى أهل الكتاب ؟ .. إنما ذاك لأنه لا يقصد أن القرآن مصدق للتوراة التى مع أهل الكتاب، وإنما قصد أن القرآن مصدق لما مع أهل الكتاب من التوراة المنزلة. وتأمل قول شيخ المفسرين: ("مصدقا لما معكم" يعني: محققا للذي معكم من التوراة التي أنزلتها إلى موسى بن عمران).
فإذا ضممت إلى التعبيرين السابقين: (مصدقًا لما بين يديه) و(مصدق الذى بين يديه) و(مصدق)، تكون آيات الباب الواحد قد جُمعت بين يديك.
قال تعالى: (قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) البقرة 97.
وقال: (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ) آل عمران 3.
وقال: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) المائدة 48.
وقال: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ) الأنعام 92.
وقال: (وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ) فاطر 31.
وقال: (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ) الأحقاف 12.
وقال: (قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) الأحقاف 30.
قال ابن تيمية: (أما تصديق خاتم الرسل محمد رسول الله لما أنزل الله قبله من الكتب، ولمن جاء قبله من الأنبياء، فهذا معلوم بالاضطرار من دينه متواترا تواترا ظاهرا، كتواتر إرساله إلى الخلق كلهم. وهذا من أصول الإيمان. قال تعالى: (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم) البقرة 136، 137. وقال تعالى: (قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) آل عمران 84، 85. وقال تعالى: (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون) البقرة 177. وقال تعالى: (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا مالا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين) البقرة 285، 286. وتصديقه للتوراة والإنجيل مذكور في مواضع من القرآن. وقد قال: (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه) المائدة 48. وقال تعالى: (الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني) الزمر 23. وقال تعالى: (نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن) يوسف 3. فبين أنه أنزل هذا القرآن مهيمنا على ما بين يديه من الكتب. والمهيمن الشاهد المؤتمن الحاكم، يشهد بما فيها من الحق، وينفي ما حرف فيها، ويحكم بإقرار ما أقره الله من أحكامها، وينسخ ما نسخه الله منها. وهو مؤتمن في ذلك عليها. وأخبر أنه أحسن الحديث وأحسن القصص، وهذا يتضمن أنه كل مَن كان متمسكا بالتوراة قبل النسخ، من غير تبديل شيء من أحكامها، فإنه من أهل الإيمان والهدى. وكذلك مَن كان متمسكا بالإنجيل من غير تبديل شيء من أحكامه قبل النسخ، فهو من أهل الإيمان والهدى. وليس في ذلك مدح لمن تمسك بشرع مبدل ـ فضلا عمن تمسك بشرع منسوخ ـ ولم يؤمن بما أرسل الله إليه من الرسل، وما أنزل إليه من الكتب. بل قد بين كفر اليهود والنصارى بتبديل الكتاب الأول، وبترك الإيمان بمحمد في غير موضع). 1/261.
يحضرنى من طريف هذا المقام، تفسير القس (بسيط أبو الخير) للتعبير القرآنى (بين يديه)، فى كتابه (الكتاب المقدس يتحدى) !. فسرها (جنابه) فقال: (بين يديه، أي معه، مع نبي المسلمين !!). وعلامتا التعجب من كيسه، فالرجل يتعجب بشدة، لم يصدق نفسه أنه توصل إلى هذا الكشف العبقرى المذهل !
والأكثر طرافة أنه فى السطر التالى مباشرة ـ إى والله ! ـ يشرح الآية بما يخالف فهمه الحرفى من أقوال المفسرين، ولا يجد أدنى غضاضة فى ذلك. قال: (قال الجلالين: "ولا بالذي بين يديه" أي: تقدمه) ! وقال أيضـًا: (وجاء في صحيح البخاري ... "لما بين يديه من الكتاب" لما نزل قبله من كتب سماوية وشرائع إلهية) !
وإيغالاً فى العمى والعمه يستدل بآيات لا يمكن أن يصلح معها تفسيره الحرفى بأشد أنواع التعسف. فهو يستدل بقوله تعالى: (قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) البقرة 97. يقول (جنابه) مستحقـًا أرفع وسام فى الغباوة: (وعبارة "مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ" تأكيد لوجود هذه الأسفار معه) ! .. فانظر كيف أعماه الله عن (مخاطبة) الآية للنبى عليه الصلاة والسلام، واعلم أن قلوبًا عليها أقفالها !
المسألة الثالثة: (فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ)
(الكتاب) فى الآية اسم جنس. تقولُ: (أكلتُ الطعام) وأنت أكلتَ بعضَه لا كله. فأهل الكتاب قرأوا بعض الكتاب، ونالوا حظـًا من الكتاب، وبدلوا حظـًا آخر.
قال ابن تيمية رحمه الله وجزاه عنا خير الجزاء: (والكتاب اسم جنس، كما تقدم نظائره في قوله (أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا)، وقوله (وطعام الذين أوتوا الكتاب)، وقوله (يا أهل الكتاب) في غير موضع، وقوله (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين)، ...
وأمره تعالى بسؤال الذين يقرءون الكتاب من قبله على تقدير الشك، لا يقتضي أن يكون الرسول شك ولا سأل، إن قيل: الخطاب له. وإن قيل: لغيره. فهو أولى وأحرى. فإن تعليق الحكم بالشرط لا يدل على تحقيق الشرط، بل قد يُعلق بشرط ممتنع لبيان حكمه. قال تعالى: (ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهرون وكذلك نجزي المحسنين وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين). فأخبر أنهم لو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون، مع انتفاء الشرك عنهم، بل مع امتناعه؛ لأنهم قد ماتوا؛ ولأن الأنبياء معصومون من الشرك به.
وقال تعالى: (قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين بل الله فاعبد وكن من الشاكرين). فهذا خطاب للجميع. وذكر هنا لفظ (إن) لأنه خطاب لموجود، وهناك خبر عن ميت.
وكذلك قوله: (فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل) لا يدل على وقوع الشك ولا السؤال. بل النبي لم يكن شاكا، ولا سأل أحدا منهم. بل رُوي عنه أنه قال: (والله لا أشك ولا أسأل). ولكن المقصود بيان أن أهل الكتاب عندهم ما يصدقك فيما كذبك فيه الكافرون، كما قال تعالى في الآية الأخرى: (قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب). وقال تعالى: (قل أرءيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين). وقال تعالى: (أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل). وقال تعالى: (الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين). وقال: (إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا). وقال تعالى: (وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين). وقال تعالى: (لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك). وقال تعالى: (وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون). وقال تعالى: (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم).
فالمقصود بيان أن أهل الكتاب عندهم ما يصدقك فيما كذبك فيه الكافرون، وذلك من وجوه:
أحدها: أن الكتب المتقدمة تنطق بأن موسى وغيره دعوا إلى عبادة الله وحده، ونهوا عن الشرك، فكان في هذا حجة على مَن ظن أن الشرك دين. ومثل هذا قوله تعالى: (وسئل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون). وقوله تعالى: (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون). وقوله تعالى: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين).
الوجه الثاني: أن أهل الكتاب يعلمون أن الله إنما أرسل إلى الناس بشرا مثلهم، لم يرسل إليهم ملكا، فإن من الكفار مَن كان يزعم أن الله لا يرسل إلا ملكا، أو بشرا معه ملك، ويتعجبون من إرسال بشر ليس معه ملك ظاهر، كما قال تعالى: (وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا). وقال تعالى: (ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره أفلا تتقون فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين إن هو إلا رجل به جنة فتربصوا به حتى حين). وقال تعالى: (كذبت ثمود بالنذر فقالوا أبشرا منا واحدا نتبعه إنا إذا لفي ضلال وسعر). وكذلك قال الذين من بعدهم: (ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون). وكذلك قال قوم فرعون لموسى وهارون: (أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون). وقال فرعون: (أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين). وكذلك قالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم. وقال تعالى: (الر تلك آيات الكتاب الحكيم أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم قال الكافرون إن هذا لساحر مبين). وقال تعالى: (وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون). فبين سبحانه أنكم لا تطيقون التلقي عن الملك، فلو أنزلناه ملكا، لجعلناه في صورة بشر، وحينئذ كنتم تظنونه بشرا، فيحصل اللبس عليكم. فأمر الله تعالى بسؤال أهل الكتاب عمن أرسل إليهم: أكان بشرا أم كان ملكا ؟ ليقيم الحجة بذلك على من أنكر إرسال بشر، كما قال تعالى: (وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم ومن نشاء وأهلكنا المسرفين). وأهل الذكر هم أهل الذكر الذي أنزله الله تعالى.
الوجه الثالث: أنهم يسألون أهل الكتاب عما جرى للرسل مع أممهم، وكيف كان عاقبة المؤمنين بهم وعاقبة المكذبين لهم.
الوجه الرابع: يسألون أهل الكتاب عن الدين الذي بعث الله به رسله، وهو دين الإسلام الذي اتفقت عليه الرسل، كالأمر بالتوحيد والصدق والعدل وبر الوالدين وصلة الأرحام والنهي عن الشرك والظلم والفواحش.
الوجه الخامس: يسألونهم عما وصفت به الرسل ربهم: هل هو موافق لما وصفه به محمد صلى الله عليه وسلم؟ أم لا؟
وهذه الأمور المسئول عنها متواترة عند أهل الكتاب، معلومة لهم، ليست مما يشكون فيه، وليس ـ إذا كان مثل هذا معلوما لهم بالتواتر، فيُسألون عنه ـ يجب أن يكون كل ما يقولونه معلوما لهم بالتواتر.
وأيضا: فإنهم يُسألون أيضا عما عندهم من الشهادات والبشارات بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم. وقد أخبر الله بذلك في القرآن فقال تعالى: (ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم). وقال تعالى: (وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين).
فقد أخبر عن عيسى أنه صدق بالرسول، والكتاب الذي قبله وهو التوراة، وبشر بالرسول الذي يأتي بعده وهو أحمد. قال تعالى: (فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون) إلى قوله (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون). وقال تعالى: (وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين وإنه لفي زبر الأولين أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل).
وقال تعالى عن من أثنى عليه من النصارى: (وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا). وقال تعالى: (وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا). وقال تعالى: (أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين). وقال تعالى: (ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرءون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون). وقال تعالى في سورة الأنعام: (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون). وقال تعالى: (ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فعلنة الله على الكافرين). والأخبار بمعرفة أهل الكتاب بصفة محمد صلى الله عليه وسلم عندهم في الكتب المتقدمة متواترة عنهم.
وكان قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم تجري حروب وقتال بين العرب وبين أهل الكتاب، فتقول أهل الكتاب: قد قرب مبعث هذا النبي الأمي الذي يُبعث بدين إبراهيم، فإذا ظهر اتبعناه وقتلناهم معه شر قتلة. فلما بعث النبي كان منهم مَن آمن به ومنهم من كفر به. فقال تعالى: (وكانوا من قبل يستفتحون). أي: يستنصرون بمحمد على الذين كفروا. (فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين).
ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم في خطابه لأهل الكتاب يقول لهم: (والله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني رسول الله). وكذلك مَن أسلم منهم، كعبدالله بن سلام، كان يقول لغيره من أهل الكتاب: والله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله. وهذا أمر معروف في الأحاديث الصحاح المخرجة في الصحيحين وغيرهما.
فظهر بما ذكرناه تحريف هؤلاء لكلام الله، وأنه لا حجة لهم فيما أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم). 1/292
المسألة الرابعة: (وعندهم التوراة فيها حكم الله).
أشبع ابن تيمية الكلام عليها فى الجواب الصحيح، وقدمنا طرفـًا صالحـًا من كلامه فى المقدمة فيُراجع.
سؤال: الرسول صلى الله عليه وسلم قد احتج على اليهود بآية موجودة في توراة آنذاك.
والجواب: قدمنا أن التوراة لم يبدل كل لفظ منها.
المسألة الخامسة: (يحرفون الكلم): يحرفون حدود الله في التوراة.
ما رُوى عن ابن عباس: (يحرفون حدود الله في التوراة) هو كعبارات أخرى للسلف الذين لا يقولون بالتحريف اللفظى. وقد عرفت من المقدمة أن المسألة فيها خلاف، فالذين لا يقولون بالتحريف اللفظى، فسروا التحريف المذكور فى الآية بالتأويل الباطل أو التبديل. وعلى كلا القولين يلزم أهل الكتاب الذم.
المسألة السادسة: (يقرءون التوراة والإنجيل)
ذكرت قوله صلى الله عليه وسلم: (ثكلتك أمك ابن أم لبيد أوليس هذه اليهود والنصارى يقرؤون التوراة والإنجيل لا ينتفعون منها بشيء).
فى مشكاة المصابيح : عن زياد بن لبيد قال: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم شيئا. فقال: (ذاك عند أوان ذهاب العلم). قلت: يا رسول الله، وكيف يذهب العلم، ونحن نقرأ القرآن، ونقرئه أبناءنا، ويقرؤه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة ؟ قال: (ثكلتك أمك زياد ! إن كنت لأراك من أفقه رجل بالمدينة ! أوليس هذه اليهود والنصارى يقرءون التوراة والإنجيل لا يعملون بشيء مما فيهما ؟!). رواه أحمد وابن ماجه وروى الترمذي عنه نحوه. وصححه الألبانى.
السؤال: الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقل (قرءوا) بصيغة الفعل الماضي بل قال (يقرءون).
وأنا أعطيك أحسن منها !
فى صحيح الجامع 6990 : (ثكلتك أمك يا زياد ! إن كنت لأعدك من فقهاء أهل المدينة ! هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى، فماذا يغني عنهم ؟!).
ليس المقصود أن التوراة المنزلة بكاملها (عند) اليهود (يقرءونها). وإنما المقصود هنا كالمقصود فى آيات كثيرة تذكر التوراة والإنجيل. المقصود ـ والله أعلم ـ أن اليهود والنصارى عندهم (من) التوراة المنزلة ما لو عملوا به لأفلحوا، لكنهم لا يعملون. ولذلك جاء فى الرواية (لا يعملون بشيء مما فيهما). وهذا كقوله تعالى: (ولو أنهم أقاموا التوراة). فأهل الكتاب لم يقيموا التوراة المبدلة فضلاً عن التوراة المنزلة.
وهذا الحديث قوى جدًا فى المعنى الذى نبهنا إليه أول الموضوع. النكير على أهل الكتاب يتوجه أولاً إلى تركهم العمل بما معهم من الحق. ويأتى التحريف اللفظى تاليـًا فى الأهمية. والله أعلم.
والذى ننبه ثَم إليه، أن الجمهور من العلماء الذين يقولون بالتحريف اللفظى، لا يقولون بتحريف كل نسخة على وجه الأرض، لا قبل البعثة ولا بعدها، إذ الحكم بذلك متعذر. لكنهم يقولون إن بعضـًا من أهل الكتاب حرفوا بعض النسخ قبل الانتشار، ثم شاعت النسخ المحرفة.
المسألة السابعة: (حق تلاوته) أن تحل حلاله وتحرم حرامه.
السؤال: هل التحريف في ترك حدود التوراة وتأويلها إلى غير ما هي عليه، وليس التحريف في الكتابة نفسها.
أحسب أنك تعرف الإجابة الآن إن شاء الله.
وأضيف بأن الذين يقولون بالتحريف اللفظى، وهم أكثر المسلمين، يقولون أيضـًا بالتأويل الباطل. فأهل الكتاب ارتكبوا الجريمتين: التحريف اللفظى، وما لم يُحرف أولوه. وبعض المسلمين يثبتون جريمة التأويل والهجر فقط دون التحريف اللفظى.
المسألة الثامنة: ذهب فقهاء الحنفية إلى أنه لا يجوز للجنب مس التوراة وهو محدث.
وأحسب أنك الآن تعرف الإجابة إن شاء الله. ليس كل علماء الإسلام يقول بالتحريف اللفظى. وهذا لا ينفع أهل الكتاب فى هذا المقام.
قال ابن تيمية رحمه الله: (وإنما المقصود هنا الجواب عن قولهم: إن محمدًا ثبت ما معهم، وأنه نفى عن إنجيلهم وكتبهم التي بأيديهم التهم والتبديل لها والتغيير لما فيها، بتصديقه إياها.
وقد تبين أن محمدًا صلى الله عليه وسلم لم يصدق شيئًا من دينهم المبدل والمنسوخ، ولكن صدَّق الأنبياء قبله، وما جاءوا به، وأثنى على مَن اتبعهم، لا على من خالفهم، أو كذب نبيًا من الأنبياء. وإن كفر النصارى من جنس كفر اليهود؛ فإن اليهود بدلوا معاني الكتاب الأول، وكذبوا بالكتاب الثاني وهو الإنجيل. وكذلك النصارى بدلوا معاني الكتاب الأول التوراة والإنجيل، وكذبوا بالكتاب الثاني وهو القرآن.
وأنهم ادعوا أن محمدًا صلى الله عليه وسلم صدَّق بجميع ألفاظ الكتب التي عندهم. فجمهور المسلمين يمنعون هذا. ويقولون: إن بعض ألفاظها بُدِّل كما قد بُدِّل كثير من معانيها. ومن المسلمين من يقول: التبديل إنما وقع في معانيها لا في ألفاظها. وهذا القول يقر به عامة اليهود والنصارى.
وعلى القولين فلا حجة لهم في تصديق محمد صلى الله عليه وسلم لما هم عليه من الدين الباطل؛ فإن الكتب الإلهية التي بأيديهم لا تدل على صحة ما كفرهم به محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، مثل التثليث، والاتحاد، والحلول، وتغيير شريعة المسيح، وتكذيب محمد صلى الله عليه وسلم. فليس في الكتب التي بأيديهم ما يدل لا نصا ولا ظاهرا على الأمانة التي هي أصل دينهم، وما في ذلك من التثليث والاتحاد والحلول، ولا فيها ما يدل على أكثر شرائعهم كالصلاة إلى الشرق، واستحلال المحرمات من الخنزير والميتة ونحو ذلك، كما قد بسط في موضع آخر.
ويقال لهم: أين ما معكم عن محمد صلى الله عليه وسلم مما يدل على أن ألفاظ الكتب التي بأيديكم لم يُغيَّر فيها شيء ؟
ومعلوم أن المسلمين وغيرهم إذا إختلفوا لم يكن قول فريق حجة على الفريق الآخر. فإذا كان المسلمون قد اختلفوا في تبديل بعض ألفاظ الكتب المتقدمة لم يكن قول فريق حجة على الأخرى. ولا يجوز لأحد من المسلمين ولا منكم أن يضيف إلى الرسول صلى الله عليه وسلم قولا إلا بدليل.
فأين في القرآن والسنة الثابتة عن محمد صلى الله عليه وسلم أن جميع ما بأيدي أهل الكتاب من التوراة والإنجيل والزبور ونبوات الأنبياء لم تبدل بشيء من ألفاظها حتى يقولوا إن محمدا صلى الله عليه وسلم نفى عن كتبهم ذلك ؟
وهؤلاء بنوا كلامهم على أن ألفاظ كتبهم تدل على صحة دينهم، الذي هم عليه بعد مبعث محمد صلى الله عليه وسلم، وبعد تكذيبهم لمحمد صلى الله عليه وسلم، وأنه لم يُبدَّل شيء من ألفاظها. وقد تبين فساد ذلك من وجوه متعددة).ا.هـ.
والحمد لله الذى بنعمته تتم الصالحات.
الرد الصريح على الكتكوت الفصيح
و الرد فيه مبحثان :
المبحث الأول : لمن تتوجه الآية بالكلام .
المبحث الثاني : من هم الذين يقرؤون الكتاب .
المبحث الأول
في قوله { فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ } تأويلان :
أحدهما ان تكون المخاطبة لرسول الله و المراد غيره من الشكاك ؛ لأم القرآن نزل عليه بمذاهب العرب كلهم ، و هم قد يخاطبون الرجل بالشئ و يريدون غيره ، و لذلك يقول متمثلهم : " إياك أعني و اسمعي يا جارة " ( مجمع الأمثال 1/50-51 و جمهرة الأمثال ص7 )
و مثله قوله { يا أيها النبي اتق الله و لا تطع الكافرين و المنافقين إن الله كان عليمًا حكيمًا } الخطاب للنبي و المراد الوصية و العظة للمؤمنين يدلك على ذلك أنه قال { و اتبع ما يوحى إليك من ربك إن الله كان بما تعملون خبيرًا } و لم يقل بما تعمل .
و مثل هذه الآية قوله { و اسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون } ، أي سل من أرسلنا إليه من قبلك رسلاً من رسلنا ، يعني أهل الكتاب ، فالخطاب للنبي و المراد المشركون .
و الآخر هو أن الناس كانوا في عصر النبي أصنافًا :
منهم كافر به مكذب لا يرى أن ما جاء به الحق .
و آخر مؤمن به مصدق يعلم أن ما جاء به الحق .
و شاك في الأمر لا يدري كيف هو ، فهو يقدم رجلاً و يؤخر أخرى .
فخاطب الله سبحانه هذا الصنف من الناس فقال : فإن كنت أيها الإنسان في شك مما أنزلنا من الهدى على لسان محمد فسل الأكابر من أهل الكتاب و العلماء الذين يقرؤون الكتاب من قبلك كما قال { يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم }
و { يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحًا فملاقيه }
و قال { و إذا مس الإنسان ضر دعا ربه }
و لم يرد في كل هذا إنسانًا بعينه ، إنما هو لجماعة الناس .
التأويل الراجح هو أن هذا الخطاب موجه للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد غيره ؛ وهذا هو ما قرره جماعة من المفسرين كابن عطية والرازي والشنقيطي رحمهم الله وغيرهم . قال ابن عطية : " والصواب في معنى الآية أنها مخاطبة للنبي والمراد بها سواه من كل من يمكن أن يشك أو يعارض ".
و قال ابن قتيبة بعد استعراض التأويلين : " إن المذهب الأول أعجب إلي ؛ لأن الكلام اتصل حتى قال { أ فأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين } . و هذا لا يجوز إلا لرسول الله " ( تأويل مشكل القرآن ص274 )
و قال الطبري : " و لو قال قائل : إن هذه الآية خوطب بها النبي و المراد بها بعض من لم يكن صحت بصيرته بالنبوة ، ممن كان قد أظهر الإيمان على لسانه ، تنبيهًا له على تعرف حقيقة أمره الذي يزيل اللبس عن قلبه كما قال جل ثناؤه { يا أيها النبي اتق الله و لا تطع الكافرين و المنافقين إن الله كان عليمًا حكيمًا } - كان قولاً غير مدفوعة صحته " (تفسير الطبري 11/116 )
المبحث الثاني
الآية تقول { فاسال الذين يقرؤون الكتاب } ولم يقل رب العزه : ( فاسال اهل الكتاب ) , والفرق كبير فهناك فريقان من اهل الكتاب : الفريق الاول آمن و أسلم مثل كعب الاحبارو وهب بن منبه و عبد الله بن سلام { ذلك بان منهم قسيسين ورهبانا } والفريق الثانى هم أهل الكتاب الذين ظلوا على كفرهم { لقد كفر الذين قالوا ان الله ثالث ثلاثه } والله عز وجل أورد فى نهاية الآية الإجابة التى سيسمعها الرسول او المسلم إن تبادر إلى ذهنه أن يسأل { انه الحق من ربك فلا تكونن من الممترين } ومثل هذه الاجابه لن تاتى الا من الفريق الاول الذى امن وصار من أهل الإسلام . ومن ثم فالسؤال لا يكون الا للمسلمين الذين كانوا من اهل الكتاب .
إذن معنى الآية : إن كنت في شك فاسأل علماء أهل الكتاب الذين يقرؤون الكتاب من قبلك مثل : عبد الله بن سلام و سلمان الفارسي و تميم الداري و أشباههم ، و لم يرد المعاندين منهم ، فيشهدون على صدقه و يخبرونك بنبوته و ما قدمه الله في الكتب من ذكره ( انظر تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة ص272 و أمالي المرتضى 3/166 )
فعن الضحاك أنه قال : " الذين يقرءون الكتاب يعني بهم من آمن من أهل الكتاب وكان من أهل التقوى ".
وقد نقله ابن جزي عن السهيلي رحمه الله ، فقد جاء في تفسير ابن جزي الغرناطي : " قال السهيلي هم عبد الله بن سلام ومخيرق ومن أسلم من الأحبار ".
قال السعدي في تفسيره : "أي اسأل أهل الكتاب المنصفين والعلماء الراسخين فإنهم سيقرون لك بصدق ما أخبرت به وموافقته لما معهم .
فإن قيل : إن كثيرا من أهل الكتاب من اليهود والنصارى بل ربما كان أكثرهم ومعظمهم كذبوا رسول الله وعاندوه وردوا عليه دعوته والله تعالى أمر رسوله أن يستشهد بهم وجعل شهادتهم حجة لما جاء به وبرهانا على صدقه فكيف يكون ذلك ؟
فالجواب عن هذا من عدة أوجه :
منها : أن الشهادة إذا أضيفت إلى طائفة أو أهل مذهب أو بلد ونحوهم فإنها إنما تتناول العدول الصادقين منهم وأما من عداهم فلو كانوا أكثر من غيرهم فلا عبرة فيهم لأن الشهادة مبنية على العدالة والصدق وقد حصل ذلك بإيمان كثير من أحبارهم الربانيين ك ـ عبد الله بن سلام وأصحابه وكثير ممن أسلم في وقت النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه ومن بعدهم .
ومنها: أن شهادة أهل الكتاب للرسول صلى الله عليه وسلم مبنية على كتابهم التوراة الذي ينتسبون إليه فإذا كان موجودا في التوراة ما يوافق القرآن ويصدقه ويشهد له بالصحة فلو اتفقوا من أولهم لآخرهم على إنكار ذلك لم يقدح بما جاء به الرسول .
ومنها : أن الله تعالى أمر رسوله أن يستشهد بأهل الكتاب على صحة ما جاءه وظهر ذلك وأعلنه على رؤوس الاشهاد ، ومن المعلوم أن كثيرا منهم من أحرص الناس على إبطال دعوة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم فلو كان عندهم ما يرد ما ذكره الله لأبدوه وأظهروه وبينوه فلما لم يكن شيء من ذلك كان عدم رد المعادي وإقرار المستجيب من أدل الأدلة على صحة هذا القرآن وصدقه .
ومنها : أنه ليس أكثر أهل الكتاب رد دعوة الرسول بل أكثرهم استجاب لها وانقاذ طوعا واختيارا فإن الرسول بعث وأكثر أهل الأرض المتدينين أهل الكتاب فلم يمكث دينه مدة غير كثيرة حتى إنقاذ للإسلام أكثر أهل الشام ومصر والعراق وما جاورها من البلدان التي هي مقر دين أهل الكتاب فلم يبق إلا أهل الرياسات الذين آثروا رياساتهم على الحق ومن تبعهم من العوام الجهلة ومن تدين بدينهم اسما لا معنى كالإفرنج الذين حقيقة أمرهم أنهم دهرية منحلون عن جميع أديان الرسل وإنما انتسبوا للدين المسيحي ترويجا لملكهم وتمويها لباطلهم كما يعرف ذلك من عرف أحوالهم البينة الظاهرة ".
و آخر كلامنا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين .
====================
مرحبا بك اخي الزائرنرجو ان ينال الموقع اعجابك
الكلمة الطيبة جواز مرور إلى كل القلوب
ساحة النقاش