وللرد عليهم وتبيان جهلهم نقول وبالله التوفيق :
أولاً : نقول لهم : إذا كنتم تعيبون النبي محمداً صلى الله عليه وسلم أنه تزوج عائشة وهي صغيرة ، فما رأيكم في أنبياء كتابكم المقدس الذي وصفهم بأنهم زناة ومجرمين كداود وحاشاه، وسراق كيعقوب وحاشاه، وعباد أوثان كسليمان وحاشاه الخ ؟! مع ان هذه الخطايا غير مسقطة لنبوتهم كما تؤمنون . . . . ؟!
أليس من العجيب إنكارهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم زواجه الشرعي من السيدة عائشة رضي الله عنها وهم يقبلون من كتابهم المقدس أن الأنبياء يمارسون زنى المحارم كالنبي لوط عليه السلام و يهوذا، و يزنون و يقتلون ليس فقط بدون وجه حق بل للوصول للزنى كقصة النبي داود عليه السلام و زوجة أوريا و أنهم أهل خمر كالنبي نوح و النبي لوط عليهما السلام فوق ذلك كله أنهم عبدة أوثان كالنبي سليمان عليه السلام الذي عبد الأوثان لأجل إرضاء زوجاته الوثنيات. كما في سفر الملوك .
ثانياً : لعل النصارى لا يقرأون لكتابهم ولا يعرفون دينهم جيدا..ولعل القساوسة يخفون الحقائق دائما..ففي الوقت الذي كان يسأل فيه النصارى عن زواج الرسول الكريم من السيده عائشة ويدعون ان الفرق السنى كبير بل كبير جدا في وجهة نظرهم المحدودة...
نجد ان السيدة مريم العذراء حينما كانت متزوجة (او مخطوبة) بشهادة النصارى من يوسف النجار وولدت السيد المسيح.. كان سنها 12 سنة فقط في حين كان يوسف النجار على مشارف التسعين من عمره.. حوالي(89).. يعني أكبر منها بحوالى77سنة.. وهذا الكلام موثق في الموسوعة الكاثوليكية...
http://www.newadvent.org/cathen/08504a.htm
" a respectable man to espouse Mary, then twelve to fourteen years of age, Joseph, who was at the time ninety years old "
http://www.cin.org/users/james/files/key2mary.htm
" Virgin Mary Delivers jesus Pbuh @ the age of 12 "
ثالثاً : إنّ زواج الرسول  صلى الله عليه وسلم من السيدة عائشة رضي الله عنها كان أصلاً باقتراح من خولة بنت حكيم على الرسول  صلى الله عليه وسلم لتوكيد الصلة مع أحبّ الناس إليه سيدنا أبي بكر الصدّيق ، لتربطهما أيضاً برباط المصاهرة الوثيق.
رابعاً : أنّ السيدة عائشة رضي الله عنها كانت قبل ذلك مخطوبة لجبير بن المطعم بن عدي، فهي ناضجة من حيث الأنوثة مكتملة بدليل خطبتها قبل حديث خولة.
خامساً : أنّ قريش التي كانت تتربّص بالرسول  صلى الله عليه وسلم الدوائر لتأليب الناس عليه من فجوة أو هفوة أو زلّة، لم تُدهش حين أُعلن نبأ المصاهرة بين أعزّ صاحبين وأوفى صديقين، بل استقبلته كما تستقبل أيّ أمر طبيعي.
سادساً : أنّ السيدة عائشة رضي الله عنها لم تكن أول صبيّة تُزفّ في تلك البيئة إلى رجل في سنّ أبيها، ولن تكون كذلك أُخراهنّ. لقد تزوّج عبد المطلب الشيخ من هالة بنت عمّ آمنة في اليوم الذي تزوّج فيه عبد الله أصغر أبنائه من صبيّة هي في سنّ هالة وهي آمنة بنت وهب. ثمّ لقد تزوّج سيدنا عمر بن الخطّاب من بنت سيدنا علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه وهو في سنّ جدّها، كما أنّ سيدنا عمر بن الخطّاب يعرض بنته الشابة حفصة على سيدنا أبي بكر الصدّيق وبينهما من فارق السنّ مثل الذي بين الرسول  صلى الله عليه وسلم وعائشة رضي الله عنها. ولكنّ نفراً من المستشرقين يأتون بعد أكثر من ألف وأربعمئة عام من ذلك الزواج فيهدرون فروق العصر والإقليم، ويطيلون القول فيما وصفوه بأنّه الجمع الغريب بين الكهل والطفولة ويقيسون بعين الهوى زواجاً عُقد في مكّة قبل الهجرة بما يحدث اليوم في بلاد الغرب حيث لا تتزوّج الفتاة عادة قبل سنّ الخامسة والعشرين. ويجب الانتباه إلى أنّ نضوج الفتاة في المناطق الحارّة مبكّر جداً وهو في سنّ الثامنة عادة، وتتأخّر الفتاة في المناطق الباردة إلى سنّ الواحد والعشرين كما يحدث ذلك في بعض البلاد الباردة. وأياً ما يكون الأمر فإنّه عليه الصلاة والسلام لم يتزوّج السيدة عائشة رضي الله عنها من أجل المتعة، وهو الذي بلغ الخامسة والخمسين من عمره، وإنّما كان ذلك لتوكيد الصلة مع أحبّ الرجال إليه عن طريق المصاهرة، خاصّة بعد أن تحمّل أعباء الرسالة وأصبحت حملاً ثقيلاً على كاهله، فليس هناك مجال للتفكير بهذا الشأن، ولو كان عليه الصلاة والسلام همّه النساء والاستمتاع بهنّ لكان فعل ذلك أيّام كان شاباً حيث لا أعباء رسالة ولا أثقالها ولا شيخوخة، بل عنفوان الشباب وشهوته الكامنة. غير أنّنا عندما ننظر في حياته في سنّ الشباب نجد أنّه كان عازفاً عن هذا كلّه، حتّى إنّه رضي بالزواج من السيدة خديجة رضي الله عنها الطاعنة في سنّ الأربعين وهو ابن الخامسة والعشرين. ثمّ لو كان عنده هوس بالنساء لما رضي بهذا عمراً طويلاً حتّى تُوفّيت زوجته خديجة رضي الله عنها دون أن يتزوّج عليها. ولو كان زواجه منها فلتة فهذه خديجة رضي الله عنها توفّاها الله، فبمن تزوّج بعدها؟ لقد تزوّج بعدها بسودة بنت زمعة العامرية جبراً لخاطرها وأنساً لوحشتها بعد وفاة زوجها وهي في سنّ كبير، وليس بها ما يرغّب الرجال والخطّاب. هذا يدلّ على أنّ الرسول  صلى الله عليه وسلم كان عنده أهداف من الزواج إنسانية وتشريعية وإسلامية ونحو ذلك. ومنها أنّه عندما عرضت عليه خولة بنت حكيم الزواج من عائشة فكّر الرسول  صلى الله عليه وسلم أيرفض بنت أبي بكر وتأبى عليه ذلك صحبة طويلة مخلصة ومكانة أبي بكر عند الرسول e التي لم يظفر بمثلها سواه. ولمّا جاءت عائشة رضي الله عنها إلى دار الرسول  صلى الله عليه وسلم فسحت لها سودة المكان الأول في البيت وسهرت على راحتها إلى أن توفّاها الله وهي على طاعة الله وعبادته، وبقيت السيدة عائشة رضي الله عنها بعدها زوجة وفيّة للرسول  صلى الله عليه وسلم تفقّهت عليه حتّى أصبحت من أهل العلم والمعرفة بالأحكام الشرعية. وما كان حبّ الرسول  صلى الله عليه وسلم للسيدة عائشة رضي الله عنها إلاّ امتداداً طبيعياً لحبّه لأبيها رضي الله عنهما. ولقد سُئل عليه الصلاة والسلام: من أحبّ الناس إليك؟ قال: (عائشة) قيل: فمن الرجال؟ قال: (أبوها). هذه هي السيدة عائشة رضي الله عنها الزوجة الأثيرة عند الرسول  صلى الله عليه وسلم وأحبّ الناس إليه. لم يكن زواجه منها لمجرّد الشهوة ولم تكن دوافع الزواج بها المتعة الزوجية بقدر ما كانت غاية ذلك تكريم أبي بكر وإيثاره وإدناؤه إليه وإنزال إبنته أكرم المنازل في بيت النبوّة .. والحمد لله ربّ العالمين.
سيرة السيدة عائشة رضي الله عنها زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم
لفضيلة الأستاذ محمد راتب النابلسي .
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة الكرام ... مع الدرس الحادي عشر من دروس سير الصحابيِّات الجليلات رضوان الله تعالى عليهن أجمعين ، ومع أمهات المؤمنين ، زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ، ومع الزوجة الثالثة السيدة عائشة بنت أبي بكرٍ رضي الله عنهما.
أيها الإخوة الكرام ... قد يسأل أحدكم : هذا الفارق الكبير في السن بين السيدة عائشة وبين رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ؟ كيف تزوَّج النبي امرأةً في سن أمه ؟ ثم كيف تزوج امرأةً في سن ابنته ؟ الأمور التي لا يدلي الشرع فيها بحكمٍ ترجع إلى الأعراف .
فأنت إذا قلت : أنا أكلت اللحم . ماذا تقصد ؟ لحم الضأن أو لحم البقر ، لأنك إذا أكلت سمكاً تقول : أكلت سمكاً . فإذا إنسان حلف بالطلاق ألّا يأكل لحماً ، فهل بإمكانه أن يأكمل سمكاً؟ نعم بإمكانه ، مع أن السمك لحم ، لكن العرف هو أن اللحم هو لحم الضأن أو البقر والسمك شيءٌ آخر ، ففي الموضوعات التي لم يكن هناك حكمٌ شرعي يعود الأمر إلى العرف.
وهذا موضوع طويل في أصول الفقه ، بابٌ كبير ، فأحد المصادر التشريعية العرف فهو الذي يحكم القضايا التي ليس فيها حكمٌ شرعي .
لو أن في زواج الرسول صلى الله عليه وسلَّم من السيدة عائشة ، أيُّ مأخذٍ في أعراف العرب وقتها لأُخِذ على النبي صلى الله عليه وسلَّم هذا الزواج ، بل إن البيئة وقتها تسمح بأن تأخذ امرأةً في سن أمك ، وتسمح بأن تأخذ امرأةً في سن ابنتك ؛ ولكن السيدة عائشة لها دور كبير جداً في موضوع الفقه ..
فقال بعض العلماء : " إن ربع الأحكام الشرعيَّة عُلِم منها " . إن ربع الأحكام الشرعية التي عرفناها من رسول الله صلى الله عليه وسلَّم إنما عُرِفَت من أحاديث روتها السيدة عائشة رضي الله عنها ، فامرأة النبي ، زوجة النبي ، أم المؤمنين لها دورٌ خطيرٌ جداً في الدعوة ؛ لأنها يمكن أن تختص بالنساء ، تعلمون أن النساء يسألن النبي عليه الصلاة والسلام عن موضوعاتٍ تخصُّ حالَهن ، وأفضل إنسانة تعبِّر عن الأحكام الشرعية المتعلِّقة بالمرأة زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ، إذاً لها دورٌ في الدعوة .
ويقول العلماء أيضاً : " ما رأوا أحداً أعلم بمعاني القرآن وأحكام الحلال والحرام من السيدة عائشة ، وما رأى العلماء أحداً أعلم بالفرائض والطب والشعر والنسب من السيدة عائشة " . مع أنها صغيرة إلا أنها كانت شيئاً نادراً في الذكاء ، وشيئاً نادراً في الحفظ ، وشيئاً نادراً في الوفاء للنبي عليه الصلاة والسلام .
إذاً فليعلم القارئ حقاً ويطمئن أن زوجات النبي صلى الله عليه وسلَّم قد اختارهنّ الله جلَّ جلاله له ، لما سيكون لهن من دورٍ في الدعوة مستقبلاً .
فهذا الذي يفكر أن النبي تزوج زوجةً في سن ابنته ، أو امرأةً في سن أمه ، هذا لا يعرف من هو النبي ، فالنبي عليه الصلاة والسلام بقي مع السيدة خديجة وهي في سن أمه ربع قرنٍ ، وكان بإمكانه أن يتزوَّج أجمل فتيات مكة ، فهو بعيدٌ جداً عن هذا الذي يفكِّر فيه أعداء الإسلام .
* * *
أيها الإخوة الكرام ... هذه السيدة الجليلة ـ السيدة عائشة ـ روت عن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ألفي حديث ومئتين وعشرة أحاديث ، وحفظت القرآن الكريم كلَّه في حياة النبي .
إذاً من يقول : إن هناك فارقاً في السن . هذا الفارق في السن كان مألوفاً في عصر النبي ، ولو كان هناك مطعنٌ في هذا الموضوع لما سكت أعداء النبي ، ولجعلوا من هذه القضية قضيةً كبيرةً جداً .
من صفات هذه الزوجة الطاهرة ، على صغر سنها ، أنّها كانت ناميةً ذلك النمو السريع ، العوام الآن يعبرون عن هذه الظاهرة بقولهم : قطعتها كبيرة . فالعبرة بالمرأة في قطعتها لا في عمرها ، كانت على صغر سنِّها ناميةً ذلك النمو السريع الذي تنموه نساء العرب ، وكانت متوقِّدة الذهن ، نيِّرة الفكر ، شديدة الملاحظة ، وهي وإن كانت صغيرة السن لكنّها كبيرة العقل .
نحن تعلَّمنا في الجامعة أن للإنسان عمرين ؛ عمر زمني ، وعمر عقلي ، وقد يبتعدان عن بعضهما ، قد تجد إنساناً عمره الزمني عشر سنوات ، أما عمره العقلي فخمسة عشر عاماً ، وقد تجد إنساناً عمره الزمني عشرون عاماً ؛ وعمره العقلي خمسة عشر عاماً ، فالعقل لا ينمو مع نمو الجسم بل له نموّه الخاص ، فالسيدة عائشة رضي الله عنها على صغر سنها نمت نمواً سريعاً وعلى صغر سنها كانت متوقِّدة الذهن ، نيرة الفكر ، شديدة الملاحظة ، فهي وإن كانت صغيرة السن لكنها كبيرة العقل ، أي لها دور في الدعوة الاًسلامية .
تروي كتب السيرة أن النبي عليه الصلاة والسلام تزوج امرأةً فيما بعد ، قال لها ضرَّاتها : " إذا التقيت بالنبي فقولي له : أعوذ بالله منك " . فلما دخل عليها النبي قالت : " أعوذ بالله منك ". فماذا قال لها ؟ :
" الْحَقِي بِأَهْلِكِ" *
( من صحيح البخاري : عن " السيدة عائشة " )
رفضها ، هل يعقل أن تكون زوجة رسول الله بهذا الإدراك ؟ فهي مبلِّغة عن رسول الله ، تبلِّغ عنه الشرع ، شيءٌ خطيرٌ جداً أن تكون زوجة النبي عليه الصلاة والسلام محدودة التفكير ، لأنها تنقل عنه ، وربما نقلت عنه الشيء الذي ما أراده النبي عليه الصلاة والسلام .
إذاً هناك حكمةٌ إلهيةٌ بالغة من أن الله سبحانه وتعالى هيَّأ لرسوله الكريم هذه الزوجة العاقلة، المتقدة في الذهن والذكاء والفطنة ، كثيرة الملاحظة ، ذات النفسيَّة الطيِّبة .
يقولون : " ولو لم تكن السيدة عائشة رضي الله عنها في تلك السن التي صحبت بها رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ، وهي السن التي يكون فيه الإنسان أفرغ بالاً ، وأشد استعداداً لتلقي العلم ، لما تهيَّأ لها ذلك " .
فالعلم شيءٌ أساسيٌ في حياة المؤمن ، والنبي عليه الصلاة والسلام كل شيءٍ يقوله ينبغي أن ينقل عنه ، وأفضل امرأةٍ تنقل عنه زوجته ، إذاً فلنطمئن أنّ الله سبحانه وتعالى اختارها على علمٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلَّم.
قال الإمام الزُهري : " لو جُمع علم عائشة إلى علم جميع أمهات المؤمنين ، وعلم جميع النساء لكان علم عائشة أفضل " .
والحقيقة أن الشيء الذي يدهش العقول ، أو الشيء الذي يلفت النظر أن تكون المرأة على درجة عالية جداً من الفهم والعلم والفقه ، فالمرأة عند الناس امرأة ، لكن المرأة التي تتمتَّع بعقلٍ راجح ، وإدراكٍ عميق ، وفهمٍ دقيق ، وحفظٍ شديد ؛ هذه امرأةٌ نادرةٌ جداً ، وامرأةٌ مؤهَّلةٌ لأن تكون زوجة لرسول الله صلى الله عليه وسلَّم .
عطاء بن أبي رباح يقول : " كانت عائشة أفقه الناس ، وأعلم الناس ، وأحسن الناس رأياً في العامة " .
والحقيقة مِن مُتَع الحياة أن تعيش مع الذكي ، ومن البلاء الشديد أن تعيش مع المحدود ـ محدود التفكير ـ تكاد تخرج من جلدك ، سمعتم مرةً مني أن الإمام أبا حنيفة رضي الله عنه بينما كان يلقي درساً على إخوانه حول صلاة الفجر ، وفيما قرأت كانت رجله تؤلمه ، وبينه وبين تلاميذه مُباسطة، ليس هناك كلفة ، ولعذرٍ فيه كان يمد رجله ، وتعلمون أن النبي عليه الصلاة والسلام ما رؤي ماداً رجليه قط بين أصحابه ـ أما إذا وجد عذر فموضوع ثانٍ ـ دخل رجل طويل القامة ، عريض المنكبين ، حسن الهيئة ، يرتدي عمامةً وجُبةً ، وجلس في مجلس هذا الإمام العظيم .
فأبو حنيفة رضي الله عنه ظنَّه عالماً كبيراً ، فاستحيا منه ورفع رجله ، أي أن بينه وبين إخوانه ليس هناك تكليف ، أما هذا فضيف غريب لعلَّه ينتقده ، فلما انتهى الدرس سأله هذا الرجل: يا إمام كيف نصلي الصبح إذا طلعت الشمس قبل الفجر ؟ فقال له : " عندئذٍ يمد أبو حنيفة رجله ".
فأن يعيش الإنسان مع شخص محدود التفكير يخرج من جلده أحياناً ، والحقيقة من سعادة الإنسان أن يكون الذين حوله في مستواه ، يفهمون عليه.
لذلك فأنا أرى أن من إكرام الله لرسول الله أنه قيَّض له أصحاباًعلى مستوى عالٍ من الفطنة، والوفاء ، والذكاء ، والحُب ، والتضحية ، والإخلاص ، وكلَّما ارتقى مقامك عند الله هيَّأ الله لك أُناساً قريبين منك ، كلَّما ارتقى مقامك عند الله هيَّأ الله لك أُناساً يفهمون عليك ، يفهمون عليك بالإشارة ، يقدِّرون ما أنت فيه ، يعرفون قدرك حق المعرفة ، يعرفون أهدافك النبيلة .
وإذا غضب الله على عبدٍ جعل مَن حوله لا يعرفون قيمته ولا فضله، لذلك ورد في الأثر :
" أكرموا عزيز قومٍ زل ، وغنياً افتقر ، وعالماً ضاع بين الجُهال " .
كانت عائشة أفقه الناس ، وأعلم الناس ، وأحسن الناس رأياً ، وقال أبو موسى الأشعري : "ما أشكل علينا أمرٌ فسألنا عنه عائشة ، إلا وجدنا عندها فيه علماً " .
وقال مسروق : " رأيت مشيخة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلَّم الأكابر يسألونها عن الفرائض " .
وقال عروة : " ما رأيت أحداً أعلم بفقهٍ ولا طبٍ ولا بشعرٍ من عائشة " .
وقال أبو الزناد : " ما كان ينزل بها شيءٌ إلا أنشدت فيه شعراً " .
شاعرة ، ذات حافظة عالية جداً ، ذكية ، فطنة ، تنقل عن رسول الله أكثر من ألفي حديث.
* * *
أيها الإخوة ... أردت من هذه المقدمة أن تعلموا أن عائشة أم المؤمنين ، اختارها الله عزَّ وجل لنبيِّه الكريم ، لتكون زوجته وأمينة سرِّه وراويةً عنه .
كلكم يعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام عقد عليها وهو في مكة قبل الهجرة ، ثم هاجر عليه الصلاة والسلام إلى المدينة ، واستقبله الأنصار ، وهم محيطون به ، متقلِّدي سيوفهم ، وهنا حدِّث ولا حرج عن سرور أهل المدينة ، فكان يوم تحوِّله إليهم يوماً سعيداً ، لم ُيرَوْا فرحين فرحهم برسول الله صلى الله عليه وسلَّم .
فكلكم تحضرون عقود قران ، وموالد بمناسبة ذكرى مولد الرسول عليه الصلاة والسلام ، ونشيد طلع البدر علينا يمكن ألا يكون واحد من الإخوة الحاضرين إلّا سمعه مئات المرَّات إن لم نقل أكثر .
والعبد الفقير لما كنت في المدينة المنورة في إحدى العُمرات ، وقفت قبالة مسجد قِباء ، فهناك ميدان في وسطه نُصب تذكاري ، مكتوب عليه بكرة جميلة طلع البدر علينا ، أيْ في هذا المكان ـ في مكان مسجد قباء ، وقباء في ظاهر المدينة ـ خرج الأنصار من المدينة ، ليستقبلوا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ، وفي هذا المكان بالذات أنشدوا : طلع البدر علينا . والله أيها الإخوة كأنني أسمع هذا النشيد لأول مرة ، وله وقعٌ في هذا المكان لا يوصف ، في المكان الذي وقف فيه الأنصار ينتظرون النبي عليه الصلاة والسلام ، وحينما أطل عليهم قالوا :
طلع البدر علينا من ثنيِّات الوداع وجب الشكر علينا ما دعا لله داع
أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المُطاع
* * *
وفي الصحيحين عن أبي بكرٍ رضي الله عنه في حديث الهجرة ، قال : " وخرج الناس حين قدمنا المدينة في الطرق وعلى البيوت ، والغِلمان والخدم يقولون : الله أكبر جاء رسول الله، الله أكبر جاء محمد ، الله أكبر جاء رسول الله ، وكان الأنصار قد اجتمعوا فمشوا حول ناقته صلى الله عليه وسلَّم ، لا يزال أحدهم ينازع صاحبه زمام الناقة شُحَّاً على كرامة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتعظيماً له ، وكلَّما مرَّ بدارٍ من دور الأنصار دعوه إلى المنزل ، فيقول عليه الصلاة والسلام :
" دعوها فإنها مأمورة فإنما أنزل حيث أنزلني الله " .
( من كشف الخفاء : عن " ابن الزبير " )
إخواننا الكرام ... كان عليه الصلاة والسلام حكيماً إلى درجةٍ كبيرة جداً ، لأنه لو اختار البيت بنفسه لكان ، كل إنسان لم يختر بيته ليكون نُزلاً لرسول الله يتألَّم ، لذلك ترك الأمر لله عزَّ وجل ، قال : " دعوها فإنها مأمورة ". حتى يطيِّب قلب أصحابه جميعاً فما اختار هو البيت ، بل قال "دعوها فإنها مأمورة " ، ونزلت في بيت أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه .
ولقد كنت في تركيا قبل سنة تقريباً ، وصلَّيت الجمعة في مسجد أبي أيوب الأنصاري في مدينة استنبول ، هذا الصحابي الجليل أين مات ؟ مات في أقصى الشمال ، وله مسجدٌ والله منوَّر تشعر فيه بروحانية عجيبة، فلما انتهت الصلاة زرت مقام هذا الصحابي الجليل وقرأت الفاتحة ، وتأثرت تأثراً كبيراً ، ولكن الذي أدهشني أن كل زوَّار المقام حينما يخرجون من هذا المقام لا يديرون ظهورهم إليه ، يرجعون القهقرى تأدُّباً معه ، فهذا الصحابي الجليل الذي أكرمه الله بأن يكون مُضيف النبي عليه الصلاة والسلام ، له قصصٌ رائعةٌ جداً .
فهو لم يستطع أن ينام في الدور الذي فوق رسول الله ، فبيته طابقان، والنبي عليه الصلاة والسلام رأى في الطابق الأرضي أسهل لزوَّاره ومن يأتيه ، وسمح لأبي أيوب أن ينام في الطابق العلوي ، من شدة أدب هذا الصحابي الجليل لم يستطع أن ينام في الطابق الذي فوق رسول الله ، وكان في حرجٍ شديد ، ومرةً قدر الماء انكسر ، فخاف أن ينزل على النبي قطرةُ ماء ، فجاء باللحاف الذي لا يملك غيره في الشتاء ، فوضعه فوق الماء ، كي يمنع نزول الماء على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هذا هو الصحابي الجليل أبو أيوب الأنصاري الذي حظي بضيافة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم .
ولما استقر عليه الصلاة والسلام في المدينة ، أين كانت عائشة ؟ كانت في مكة ، ولما يدخل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم .
يجب أن نعلم أيها الإخوة علماً دقيقاً ، أن العقد على عائشة سبق الدخول بسنوات ، فإذا قلنا صغيرة ، وبينها وبين النبي فرقٌ كبير ، فإن العقد شيء والدخول شيءٌ آخر ، عقد عليها بمكة ، ولم يدخل بها إلا في المدينة ، ولما استقر عليه الصلاة والسلام بالمدينة ، أرسل زيد بن حارثة وأبا رافع إلى مكة ليأتيا بمن خلَّف من أهله ، وأرسل معهما عبد الله بن أريقط يدلهما على الطريق ، فقدما بفاطمة وأم كلثوم ابنتيه ، وسودة زوجِه، وأم أيمن حاضنته في صغره ، وابنها أسامة بن زيد ، وأما زينب فمنعها زوجها أبو العاص بن الربيع ، وخرج مع الجميع عبد الله بن أبي بكر بأم عائشة زوج أبيه ، وأختيه عائشة وأسماء زوج الزبير بن العوام ، وكانت حاملاً بابنها عبد الله بن الزبير ، وهو أول مولود للمهاجرين في المدينة ، وصحبهم من مكة طلحة بن عُبيد الله .
وبعد أن استقر النبي بالمدينة ، وانتهى ضجيج الهجرة ، وانتهت المطاردة ، أرسل هؤلاء الصحابة ليأتوا بأهله ؛ أتوا بفاطمة ، وأم كلثوم ، وسودة ، وأم أيمن ، وابنها أسامة بن زيد ، أما زينب فمنعها زوجها من الهجرة .
والنبي عليه الصلاة والسلام يهيِّئ الدور لزوجته سودة ولزوجته عائشة ليستقبل فيها أهله .
وفي أيامنا هذه تجد شخصاً عادياً جداً يسألك عن مكان سكنى ابنته المخطوبة ، أين ستسكنها ؟ . غرفةٌ صغيرةٌ جداً ملحقةٌ بالمسجد هذه الغرفة بيت عائشة ، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، وكانت هذه الغرفة الصغيرة التي لا تتسع لصلاته ونوم زوجته معاً ، إما أن يصلي فتنزاح جانباً ، وإما أن يناما معاً ، أما أن يصلي هو وتنام هي فالغرفة لا تتسع لهما ، هذا بيت رسول الله .
طبعاً حينما حضر أهل النبي عليه الصلاة والسلام من مكة إلى المدينة ؛ ابنته فاطمة ، وأم كلثوم ، وزوجته عائشة وأمها ، ومن يصبحهنّ فهذا الشيء يبعث في النفس السرور طبعاً ، لأن ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام :
" المرء حيث أهله والمرء حيث رحله " .
وصلت هذه السيدة الجليلة إلى المدينة مع أمها أم رومان ، وأختها أسماء ، وأخيها عبد الله، واستقروا في دار الوالد الصديق رضي الله عنه، ولم تمضِ أشهر معدودات ـ بعد أشهر معدودة ـ حتى تكلَّم الصديق رضي الله عنه إلى النبي عليه الصلاة والسلام في إتمام الزواج الذي عقده بمكة .
فالنبي عقد بمكة قبل سنوات من الهجرة ، وبعد الهجرة بأمد طويل استقدم أهله ، وبعد هذا الاستقدام بقيت في بيت أبيها ، فلما كلَّم الصديق رسول الله في شأن إتمام الزواج ، سارع النبي عليه الصلاة والسلام ، وسارعت نساء الأنصار إلى منزل الصديق لتهيئة هذه العروس الشابَّة لرسول الله صلى الله عليه وسلَّم .
أجمل موقف وقفته أم السيدة عائشة رضي الله عنها ، حينما دخلت على النبي صلى الله عليه وسلَّم ، ومعها ابنتها العروس السيدة عائشة بعد أن هُيئت له ، دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في دار أبي بكر وقالت : " يا رسول الله هؤلاء أهلك ، بارك الله لك فيهن وبارك لهن فيك " . وهذا أجمل دعاءٍ يُلقى في عقود القِران : " بارك الله لك فيها وبارك لها فيك " .
والزواج المبارك هو الذي يكون مبنياً على طاعة الله ، وعلى تطبيق منهج رسول الله ، والله عزَّ وجل يلقي الحب بين الزوجين ، والألفة والمودَّة ، وينجب من هذين الزوجين الذرِّية الطيبة الصالحة ، فالزواج شيء جميل جداً ، والزواج له ثمرة ؛ وثمرته أولاد أبرار ، والإنسان حينما يموت ينقطع عمله ، أما إن كان له ولد صالح ، فهذا الولد الصالح ينفع الناس من بعده ، وكل أعماله في صحيفة أبيه .
البارحة زارني صديقان ، أحد الصديقين له ابنٌ طالبُ علمٍ شرعي ، متفتِّح ، يدعو إلى الله عزَّ وجل ، فقلت له : إن هذا الابن أثمن شيءٍ في الدنيا بالنسبة لأبيه .
* * *
أيها الإخوة ... وتنقضي ليلة الزفاف المباركة في دار أبي بكرٍ رضي الله عنه ، ثم يتحوَّل النبي عليه الصلاة والسلام بأهله إلى البيت الجديد ، ما كان هذا البيت سوى حجرةٍ من الحُجرات التي شُيِّدت حول مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ، من اللبن وسعف النخيل ، وقد فُرش بحصير ، ووضع فيه فراشٌ ، وبعض ملحقاته ، وأوانٍ بسيطة للشراب والطعام ، وهذا كلُّ بيت رسول الله .
غرفة سقفها من سعف النخيل ، جدرانها من اللبن ، فيها فراش ، وفيها بعض الأدوات البسيطة جداً ، وفي هذا البيت المتواضع بدأت حياة العروس الكريمة عائشة رضي الله عنها ، وبدأت الحياة الزوجية الحافلة بالمكرُمات والخيرات ، مكرُمات النبوة وخيرات الرسالة .
وأنا أعلم أن هناك بيوتاً فخمةً جداً لكن لا سعادة فيها ، وهناك بيوت متواضعة جداً فيها سعادة زوجية تامة ، السعادة الزوجية أساسها طاعة الله ، والشقاء الزوجي أساسه معصية الله عزَّ وجل .
هذه العروس الصغيرة على صغر سنها إلا أنها احتلَّت مكانها المرموق في بيت النبوة ، وحياة رسول الله ، وتاريخ الدعوة ، والتاريخ الإسلامي .
الحقيقة التي لا ريب فيها أنه يُشهد لهذه الزوجة أنها كانت في أعلى مستوى من العلم ، والمعرفة في شؤون الدين ، وعلى جانبٍ عظيم من الدراية لأسرار الأحكام الشرعية ، ولها منزلة رفيعة من التقوى والورع ، بالإضافة إلى معرفتها بالأمور الاجتماعيَّة والسياسية ، لذلك فاعلم أخي الكريم :
" الدنيا كلها متاع ، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة " .
( من الجامع الصغير : عن " ابن عمرو " )
التي ..
" إذا نظرت إليها سرتك ، وإذا غبت عنها حفظتك ، وإذا أمرتها أطاعتك".
( من الجامع الصغير : عن " عبد الله بن سلام " )
وحينما قال الله عز وجل :
(( رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ )) ( سورة البقرة )
قال العلماء : " حسنة الدنيا هي المرأة الصالحة " .
وأنا أرجو الله سبحانه وتعالى لكل إخوتنا الشباب ، الذين لم يقدموا على الزواج بعد ، فماذا يمنعهم أن يكون دعاؤهم لله عزَّ وجل : اللهمَّ ارزقنا زوجة صالحة . الزوجة الصالحة أحد أسباب النجاح في الحياة ، فحينما تطلب امرأة صالحة ، تتوافر فيها الشروط ، تكون قد حققت أحد جوانب السعادة في حياتك الدنيا .
في درسٍ آخر إن شاء الله ننتقل إلى هذه الزوجة الطاهرة مع ضرَّاتها ـ نساء النبي ـ عليهن جميعاً رضوان الله عزَّ وجل ، وكيف أن الحياة الزوجية جزءٌ من حياة الإنسان الطيبة ..
(( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ))
( سورة النحل : من آية " 97 " )
والمرأة الصالحة جزءٌ من الحياة الطيبة .
والحمد لله رب العالمين

akramalsayed

مرحبا بك اخي الزائرنرجو ان ينال الموقع اعجابك الكلمة الطيبة جواز مرور إلى كل القلوب

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 140 مشاهدة
نشرت فى 24 نوفمبر 2011 بواسطة akramalsayed

ساحة النقاش

اكرم السيد بخيت (الطهطاوي)

akramalsayed
ثقافي اجتماعي ديني »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

905,018