د. نادر فرجانى
مدير مركز "المشكاة" للبحث، مصر
يونيو 1998م
سياسات نشر التعليم وتجويده
لا يجدى فى بناء التعليم العربى المرجو إصلاح هنا وإصلاح هناك- فى بنية تعليمية تظل فى جملتها معوقة. ولا يفلح معه تجويد بعض مقومات النظام التعليمى. ولا يشفى غليله حتى الإنفاق المالى الكبير حيث يتوافر. بل لابد فيه من تجديد كامل متكامل لبنية التعليم ومحتواه وأدواته، يحمل فى ثنايا بنيته بذور تجدده دوماً، بما يفجّر لدى أبنائه الطاقات المبدعة القادرة على إنتاج مجتمع جديد حيوى ومقتدر. ومنطلق هذا التجديد الكامل، توفير صلة عضوية متلاحمة بين التعليم وبين البنى الاجتماعية والمهنية والتقانية والثقافية الجديدة التى يستلزمها بناء مجتمع عربى يحاول أن يتشكل فى سياق عالمى وإقليمى مضطرب وسريع التغير.
يتضمن هذا القسم جملة من السياسات، تنضوى تحت التوجهات الاستراتيجية الواردة فى القسم السابق، وبوجه خاص الأول منها، وتحدد المبادئ العامة لسبل التصرف التى يمكن أن تؤدى إلى تجويد التعليم جملة، والتعليم الأساسى خاصة.
ويتعين، بداية، توضيح أن هدف التعليم الأساسى- كما يتم التأكيد عليه هذه الأيام- هو تلبية حاجات التعلم الأساسية لكل فرد (طفلاً كان أو يافعاً أو راشداً). وتشمل هذه الحاجات، كما جاء فى "الإعلان العالمى حول التربية للجميع" الذى أطلقه مؤتمر "جومتيين"، كلاً من أدوات التعلم الأساسية (كالقراءة والكتابة والتعبير الشفهى والحساب وحل المشكلات) والمضامين الأساسية للتعلم (كالمعرفة والمهارات والقيم والاتجاهات) التى يحتاج إليها البشر من أجل البقاء ومن أجل تنمية كافة قدراتهم، ومن أجل العيش والعمل بكرامة، والمساهمة مساهمة فعالة فى عملية التنمية، ومن أجل تحسين نوعية حياتهم، ومن أجل امتلاكهم القدرة على اتخاذ قرارات مستنيرة ومواصلة التعلّم. ومن ثم، فإن التعليم الأساسى لا يكتسب كامل معناه ومداه وتأثيره إلا إذا تكاملت عناصره هذه كلها (شاملة العناية بالطفولة، والتعليم الابتدائى والمتوسط، وتعليم وتدريب اليافعين والكبار).
غير أن السياسات المقدمة لا تقتصر على التعليم الأساسى. فمنظومة التعليم كُل يتعين أن تتناغم حلقاته. ونجمل هذه السياسات فى السبع الآتية:
أ) التعلم الذاتى أو تعلم التعلم: ويأتى فى رأس قائمة السياسات لأنه مفتاحها جميعاً. ويعنى التعلم الذاتى أشياء كثيرة، على رأسها التركيز على أدوات التعلم.
وتتضمن هذه الأدوات فى حالة التعليم الأساسى: تعلم القراءة والكتابة والتعبير الشفهى والحساب وحل المشكلات، والمعارف العلمية والاجتماعية الضرورية، وتكوين الدوافع والمضامين الأساسية للتعلم كالمهارات اليدوية والتقنية، والقيم والاتجاهات الملائمة للعمل والإنتاج، والقدرة على البحث الذاتى عن المعرفة.
ولاشك أن تحديد المعارف الأساسية، ووضع تفصيلات مناهجها، أمر يمكن أن يختلف من بلد إلى بلد. وتتطلب هذه المهمة جهوداً كبيرة ودراسات اجتماعية واسعة ودراية خاصة بأصول وضع المناهج التربوية وتطويرها، وبوجه خاص تحديداً إجرائياً عملياً لهذه المعارف فى البلدان العربية. كما تتطلب مراقبة مستمرة وتقويماً مستمراً للمناهج أثناء تطبيقها وبعد تطبيقها.
ومع ذلك يمكن، على نحو تقريبى، إجمال هذه المعارف والأدوات الأساسية فى زمر سبع، جرياً على ما تأخذ به بعض الدراسات الحديثة فى البلدان المتقدمة:
- تربية الجسد والإحساس والعاطفة؛
- اكتساب المعايير والقيم الدينية السمحة- مع احترام عقائد الآخرين، وتلك التى تمليها المواطنة، والاهتمام بتكوين المواقف والاتجاهات الملائمة للعمل فى المجتمع، والتى يستلزمها بشكل خاص عصر العلم والتقانة؛
- تعلم القراءة والكتابة والحديث بلغة عربية سليمة؛
- معرفة الحساب وامتلاك معلومات أولية عن الأشكال والحجوم؛
- إدراك المكان والزمان وفهمهما، عن طريق التاريخ والجغرافيا وعلوم الطبيعة وعلوم الحياة؛
- التمرس العقلانى والمنظم بملاحظة الأشياء ومشاهدتها وبالأعمال اليدوية التى تتصل بها؛
- تعلم لغة أجنبية.
هكذا يهدف التعلم الذاتى فى خاتمة المطاف إلى تزويد المتعلم بالمعارف والقدرات والمواقف والاتجاهات التى تمكنه من أن يعلم نفسه طوال الحياة، ومن أن يجدّد تكوينه دوماً وأبداً.
ب) تنويع التعليم وتجديد إطاره: ويعنى ذلك أموراً كثيرة. منها توفير فرص التعليم لجميع فئات العمر، وفتح باب التعليم النظامى لمختلف الأعمار على صور وأشكال مختلفة، وإفساح المجال لتعليم العاملين فى مواقع الإنتاج عن طريق الدراسة بعض الوقت، وعن طريق مراكز تعليم وتدريب داخل مواقع الإنتاج نفسها، وتعليم بعض الوقت للأطفال العاملين.
ويمكن البدء فى تنويع التعليم منذ المرحلة المتوسطة، تمهيداً لتفريعه وتشعيبه فى المرحلة الثانوية- مع الإبقاء على أساسيات مشتركة. فالمرحلة المتوسطة (وهى جزء من التعليم الأساسى) ينبغى أن تكون مرحلة تعليم ومرحلة كشف عن القابليات وتوجيهها فى الوقت نفسه. ولكى يتحقق ذلك لابد من اعتماد التوجيه، أو الإرشاد، التعليمى بجدية وكفاءة، فالنظام المدرسى فى معظم البلدان حالياً يصطفى ولا يوجه.
ولا يأخذ تنويع التعليم كامل معناه إلا إذا امتد ليشمل التعليم الثانوى والتعليم العالى وسائر أنماط التعليم النظامى وغير النظامى. ولا يقتصر الأمر على تفريع التعليم وتشعيبه، بل يشمل التنويع (الذى يرتد إلى مرونة النظام التعليمى فى خاتمة المطاف) تيسير الانتقال بين فروع التعليم، وربط التعليم المهنى والتقنى الممارسة العملية عبر نظام "التلمذة المهنية"، وسائر ضروب التنويع التى تنطلق من مستلزمات إعداد الطالب للحياة العملية. ويعنى التنويع بهذا المعنى فيما يعنى، إيلاء الاهتمام لكل ما يؤدى إلى الربط بين التعليم وسوق العمل (كالتعليم المتناوب بين المدرسة ومؤسسات العمل)، ولتقوية ضروب التعليم غير النظامى بوجه خاص، بأشكال وصور مختلفة.
ج) استغلال التقانات التربوية الحديثة ووسائل الاتصال والإعلام المتطورة: فلهذه التقنيات دورها الهام فى التعليم النظامى، كما أن لها دوراً واسعاً فى التعليم غير النظامى والتعليم العفوى.
ومن شأن استغلال تقانات التعليم الحديثة أن يقود إلى تزويد المتعلم بأدوات قوية قادرة تساعده على أن يكون معلّم نفسه. ويساعد على إقبال الطلاب على التعلم ومحبتهم له وتفتيح طاقاتهم ومواهبهم من خلال ذلك. وللتقنيات التربوية دور مهم فى التعليم غير النظامى. وتشمل النماذج المطبقة فعلاً فى أنحاء مختلفة من العالم البرامج التعليمية الخاصة بالتعليم الابتدائى العام، بالإضافة إلى التدريب على المهارات المتصلة بالمهنة والعمل، والتعليم الثانوى مجاناً لليافعين غير القادرين، والنماذج المرنة للتعليم الذاتى. ويمكن كذلك رفع مستوى كفاءة المعلمين عن طريق التعليم من بُعد.
وتفتح القنوات الفضائية العربية المتعددة المتاحة حالياً، إن أُحسن استغلالها، الباب واسعاً للمساهمة فى نشر التعلم من بُعد.
د) التقويم المستمر للتعليم: إن تجديد التربية تجديداً يستجيب لحاجات نمو المتعلم والمجتمع ومستلزمات التنمية الشاملة يستلزم تقويم حصيلة التجديد. فلابد من قياس مدى نجاح العمل التربوى لمعرفة مقدار ما اكتسب المتعلم والنظر فى الطريقة التى يمكن بها تحقيق التعلم على أكمل وجه، ومعرفة مدى استجابة التعلم لاحتياجات الفرد والمجتمع على السواء. ومثل هذا التقويم هو بدوره منطلق لتجويد جديد أو لتجديد محدث، فالتجديد يستلزم التقويم، والتقويم بدوره منطلق للتجديد وللتجويد.
ويعنينا بوجه خاص تقويم ما اكتسبه الطلاب من حياتهم التعليمية (ولاسيما فى مرحلة التعليم الأساسى) وتقويم مدى تحقيق التعليم للأهداف المرسومة، خاصة من خلال دراسات تتبعية، من أجل معرفة مدى ملاءمة ما اكتسبه الطلاب لحاجات تنمية الفرد والمجتمع. ويجب العناية بوجه خاص بالمفاهيم والأساليب الأحدث لتقويم التحصيل التعليمى مثل التقويم متعدد الأبعاد، والتقويم الذاتى وغيرها.
هـ) المعلم هو محور العمل التجديدى: تضفى السياسات السابق طرحها على دور المعلم أهمية متزايدة وشأناً أكبر. فهى تنطوى على تغيير جوهرى فى أدوار المعلم الوظيفية، يتحول معها إلى مرشد إلى مصادر المعرفة والتعلم، ومنسق لعمليات التعلم، ومصحح لأخطاء التعلم، ومقوّم لنتائج التعلم، وموجه إلى ما يناسب قدرات كل متعلم وميوله. وهى تستلزم معلماً من طراز جديد، وإعداداً للمعلم ملائماً للأهداف المحدثة، وتدريباً مستمراً له على الجدائد التربوية المتطورة.
وتستلزم التقانات التربوية الحديثة بوجه خاص تغييراً جذرياً فى أساليب إعداد المعلم وتدريبه. ومن الضرورى أن يتم استخدام هذه التقانات فى إطار تكوين المعلمين.
بوجه خاص، ينبغى إعداد المعلم وتدريبه فى إطار التغير الجذرى الذى يجب أن يتم فى بنية التعليم ومناهجه وطرائقه، وفى أهدافه الأساسية، ولاسيما فيما يتصل بتمرس المعلم بأساليب التعلم الذاتى، وبالتعليم عن طريق فريق من المعلمين، وبأساليب التعاون مع الآباء ومع المجتمع المحلى، وتدريبه على الوسائل الجديدة فى تقويم الطلاب، وعلى "التوجيه التربوى"، وبربط التعليم الأساسى بحاجات المجتمع وبمواقع العمل.
ومن الضرورى أن يتم إعداد معلم التربية الأساسية فى البلاد العربية من قبل مؤسسات التعليم العالى المتخصصة. ويمكن إعداد المعلم إعداداً جيداً، وتجديد تدريبه أثناء الخدمة بعد ذلك- بفضل التقانات الحديثة- بتكاليف منخفضة.
و) إدارة "تطوير" لا إدارة "تسيير": لا غنى عن إدارة تربوية مجدِّدة، وقادرة على قيادة عملية التجديد. ويتطلب ذلك اعتماد اللامركزية فى الإدارة بتوسيع سلطات الإدارة فى المناطق إلى حد كبير، وإفساح قدر واسع من الحرية التربوية للإدارة، وإطلاعها دوماً على جدائد التربية، والعناية بوجه خاص بتدريبها على الوسائل التى ينبغى أن تلجأ إليها المدرسة من أجل تنمية روح التضامن والعمل المشترك والعمل فى فريق، ومن أجل تعميق مفاهيم الديمقراطية والمواطنة، وربط التعليم بالعمل ومواقع العمل، والتربية الدائمة المستمرة، ومن أجل خدمة المجتمع المحلى. ويتضمن تطوير الإدارة التعليمية أيضاً إدخال نظم جديدة فى إدارة المعلومات والبيانات تستند إلى الحاسوب، واستخدامها فى التعرف على المشكلات واتخاذ القرارات، وتطوير أساليب إعداد الميزانية، والأخذ بأساليب جديدة فى توزيع النفقات توزيعاً يعكس الأولويات الجديدة فى التعليم. كل ذلك فى سياق من المتابعة الدقيقة من قبل الإدارة المركزية للتعليم للإدارات فى المناطق من ناحية، وتفاعل حيوى فى الاتجاهين من ناحية أخرى.
ز) المشاركة الفاعلة لمختلف الفئات الاجتماعية فى التعليم، خاصة الأساسى، بحيث تمتد مشاركة الأسر والمنظمات غير الحكومية والقطاع الخاص والمجتمعات المحلية إلى صنع السياسات والتمويل والإشراف. وتضمن هذه السياسة، على وجه الخصوص إفساح مجال أوسع للتعليم الأهلى (غير الحكومى وغير الهادف للربح) مع مراقبته لضمان النوعية.
ويترجم القسم التالى السياسات المقدمة أعلاه، فى سياق التوجهات الاستراتيجية، بقدر من التفصيل، فى مجالات منتقاة ذات أهمية خاصة لنشر التعليم وتجويده فى البلدان العربية. ويتقاطع اثنان من هذه المجالات مع سياسات مقدمة مما يقوى من أولويتهما.
مجالات نشر التعليم وتجويده
تقانات التعليم الحديثة
تكررت الإشارة إلى ضرورة استغلال تقانات التعليم الحديثة، خاصة تلك القائمة على المعلوماتية ووسائل الاتصال الحديثة، فى نشر التعليم وتجويده فى البلدان العربية. ويقتضى ذلك وضع استراتيجيات واضحة للاستفادة من التقانة الحديثة فى التعليم، ودمجها فى العملية التعليمية، وتقديم كل الدعم لتوفير التقانة فى المؤسسات التعليمية، وتشجيع المؤسسات التعليمية على التوظيف الفعال والنشط للتقانة.
لقد أثبتت التقانات الحديثة المتجسدة فى شبكات الحاسوب، والبث التلفزيونى الفضائى، والفيديو التفاعلى، والوسائط المتعددة، والأقراص المضغوطة المقروءة، قدرتها كوسيط فعال فى التعلم بأوسع معنى. فشبكات الحاسوب مثلاً مستخدمة حالياً على نطاق أوسع فى التعليم الجامعى، غير أن التعلم عبر شبكات الحاسوب يمكن أن يطبق على جميع مراحل التعليم وأنواعه، من التعليم المدرسى إلى التعليم الجامعى إلى برامج التدريب فى أماكن العمل، أو خارجها، إلى التعلم العرضى فى المنازل. وبوجه خاص تتأتى فرصة التعليم عبر شبكات الحاسوب بعد انتهاء العاملين من أعمالهم، حيث تسمح لهم هذه التقانة بتطوير المهنة أو الاستزادة من المعلومات والثقافة العامة دون الحاجة للانقطاع عن العمل. كذلك يمكن استخدام شبكات الحاسوب فى تدريب المعلمين وتطويرهم مهنياً. وتتمتع الوسائط المتعددة بقدرة عالية على توفير بيئة تفاعلية تساعد المتعلم على اكتساب المهارات والخبرات والمعرفة وحل المشكلات. وتحتوى الأقراص المضغوطة على الصوت والصورة المتحركة أو الثابتة، وتحمل الموسوعات والقواميس وغيرها من مصادر المعلومات، مما يجعل قيمتها التربوية مرتفعة جداً.
وبوجه عام يساعد استخدام هذه التقانات الحديثة على زيادة حب التعلم، ونشر استخدام التقانة المتقدمة فى المجتمع، مما يمهد لتحسن رأس المال البشرى وقيام قدرة ذاتية فى العلم والتطوير التقانى.
وتعود مبررات استخدام تقانات التعليم الحديثة إلى مشكلات حالية، وتوجهات مستقبلية، للتعليم تشمل:
وجود أعداد غفيرة راغبة فى التعليم فى مراحله الأساسية، وفئات أخرى راغبة فى مواصلة التعليم من أجل تطوير المهنة والتدريب، بينما تبقى الأنظمة التعليمية الحالية عاجزة عن تقديم خدمة التعليم لهذه الأعداد الضخمة.
عدم التوازن فى التوزيع الجغرافى للمؤسسات التعليمية نتيجة للتركيز على المناطق المكتظة بالسكان والمناطق الحضرية على حين يتعذر الحصول على الخدمات التعليمية فى المناطق النائية، الريفية والصحراوية.
انخفاض مستوى التعليم، وعدم قدرة المؤسسات التعليمية على الإيفاء باحتياجات المجتمع فى التنمية.
تدفق المعلومات بصورة غزيرة وتعدد مصادرها وصعوبة متابعتها من قبل المعلمين والمتعلمين.
اعتماد أسلوب التعلم الذاتى فى التعلم المستمر وحق المتعلم فى تعليم نفسه بنفسه واختيار نوع التعليم والأساليب والوقت والمكان الذى يريده للتعلم.
تغير دور المعلم من المنفذ إلى المخطط، ومن المسيطر إلى الموجه والمرشد، ومن الملقن إلى المناقش والمحاور. فلم يعد المعلم المصدر الوحيد للتعلم والمعلومات، فظهور مصادر التعلم والمعلومات الحديثة، مثل الشبكات العالمية للمعلومات وشبكات الحاسوب المحلية وقواعد المعلومات وبنوكها، أثَّر بشكل كبير على دور المعلم فى العملية التعليمية. فأصبح المعلم موجهاً ومرشداً للمتعلمين للاستفادة من مصادر المعلومات وكيفية توظيفها فى التعلم.
ويجب ملاحظة أن استغلال التقانات الحديثة فى التعليم يواجه صعوبات كثيرة من أهمها:
تقف عقبات مالية فى وجه توفير هذه التقانات الحديثة، وصيانتها. الأمر الذى يمكن أن يزيد من اتساع الفجوة المعرفية بين الأفراد، والفئات الاجتماعية، والمناطق.
عدم قدرة المعلم أو عدم رغبته فى استخدام التقانات الحديثة. وتكمن المشكلة أساساً فى مرحلة إعداد المعلمين حيث يتم التركيز فى مرحلة الإعداد على استخدام وسائل تعليمية تقليدية، وعندما يُعين المعلمون فى المدارس يقومون بتقليد معلميهم الذين دربوهم بتوظيف نفس الوسائل التقليدية التى كانوا يستخدمونها. ولاستخدام التقانات الحديثة فى التعليم لابد من التأكيد على أهميتها فى تكوين المعلمين، قبل وأثناء الخدمة، وتوضيح دورها فى العملية التعليمية.
صعوبة الحصول على البرامج التعليمية عبر تقانات التعليم الحديثة باللغة العربية.
ولكى يتحقق الاستغلال الناجع للتقانات الحديثة فى التعليم لابد من وضع استراتيجية واضحة لتوظيفها، تقوم على:
التخطيط والإعداد المسبق. بحيث يتم اختيار التقانات المناسبة بناء على أسس واضحة تنبثق من الجوانب المتعددة للعملية التعليمية-التعلمية: الأهداف التعليمية، والمحتوى الدراسى، وخصائص المتعلمين، وتجربة المعلم وقدرته على التعامل مع تقانات التعليم الحديثة، وتفاعل هذه التقانات مع غيرها من مكونات الاستراتيجية التعليمية، وسهولة توافرها بأسعار معقولة، وسهولة صيانتها وتوافر قطع الغيار للأجهزة.
الاستخدام الفعال والناجح، الذى يتوقف على قدرة المعلم والمتعلم على التعامل مع هذه التقانات وسهولة استخدامها.
المتابعة والتقويم، اللذان تزداد أهميتهما نتيجة لحداثة استخدام هذه التقانات، وارتفاع تكلفتها، مما يوجب التأكد من حسن توظيفها.
وتتضمن السياسات التفصيلية المؤدية لنجاح استخدام تقانات التعليم الحديثة:
اعتماد تقانات التعليم الحديثة كأساس فى التعليم وليس كوسيط.
تشجيع المعلمين والمتعلمين على استخدام تقانات التعليم الحديثة وعدم التخوف من استخدامها، وإعداد وتدريب وإعادة تأهيل المعلمين فى مختلف المراحل الدراسية بشكل يؤهلهم للتعامل مع تقانات التعليم والمعلومات ووسائلها وبرامجها للاستفادة منها لأقصى درجة ممكنة فى التعليم.
توفير تقانات التعليم والمعلومات بأشكالها المختلفة للمؤسسات التعليمية، وتقديم كل التسهيلات اللازمة لهذه المؤسسات وأفرادها للوصول إلى المعلومات بأسهل الطرق وأقلها تكلفة، وربط هذه المؤسسات بمراكز وشبكات المعلومات بالداخل والخارج، بشكل متكافئ لجميع المتعلمين فى مختلف المراحل التعليمية.
تدريس تقانات التعليم والمعلومات كمقررات أساسية، وخاصة ثقافة الحاسوب واستخدام أصناف التقانة الأخرى، فى مختلف مراحل التعليم.
تشجيع المؤسسات والأفراد على إنتاج وتوفير المواد والبرامج التعليمية عبر التقانات الحديثة.
دعم التعاون بين المؤسسات التعليمية والمؤسسات الإعلامية والتجارية التى ترعى تقانات التعليم والمعلومات وتسوّق منتجاتها.
الاستفادة من تقانات الاتصال الحديثة المتوافرة حالياً فى الدول العربية وبالذات القمر الصناعى العربى الذى مازال استخدامه تربوياً وتعليمياً محدوداً.
تعليم الكبار
إن التعلم، كوظيفة جوهرية للمجتمعات الحية، يتعين أن يكون طائراً جناحاه تعليم الصغار وتعليم الكبار. وبقدر كفاءة الجناحين، وتناسقهما، يتحدد ما إذا كان التعلم يستطيع أن يطير، وإلى أى مدى يمكن أن يحلق، ويرفع المجتمع معه.
ومن أسف أن تعليم الكبار لم يلق العناية الواجبة فى البلدان العربية، وخاصة بالمقارنة بتعليم الصغار، سواء فى تخصيص الموارد، أو إعداد الكوادر التعليمية المؤهلة، أو إنشاء القنوات المؤسسية المناسبة، أو حتى البحث والتقييم.
فى الحد الأدنى، يتعين أن تعرّف الأمية على المستوى المستهدف، وليس الفعلى، لمستوى التحصيل التعليمى المخطط تحقيقه عند إتمام الحلقة الأولى من التعليم الأساسى (المرحلة الابتدائية).
غير أنه يمكن إعمال نفس المنطق الذى استخدم لتوسيع نطاق التعليم الإلزامى ليشمل التعليم الأساسى، من أجل تعريف مستوى وسيط من محو الأمية: أى مستوى التحصيل التعليمى المخطط تحقيقه عند إتمام التعليم الأساسى (مرحلة التعليم الإعدادى).
ويثور التساؤل عما إذا كان مستوى حتى أعلى من إتمام التعليم الإعدادى يمثل اختياراً أنجع للقرن الواحد والعشرين. والحق أن الإجابة ينبغى أن تكون بالإيجاب.
وعلى هذا الأساس، يوصى بتعريف ثلاث مراحل متتالية لتعليم الكبار: أساسى، ومتوسط، ومتقدم، بما يضع البلدان العربية فى مواجهة جادة لعملية للتعليم المستمر، الذى يؤمل أن يقوم، بشكل متزايد، على مبدأ التعلم الذاتى. ويمثل هذا التصور صياغة تتسق مع مقتضيات العصر لمفهوم تعليم الكبار. وتنطوى ضرورة مسايرة العصر على حتمية أن يتطور محتوى كل من هذه المراحل الثلاث مع تسارع الانفجار المعرفى الذى يعد أهم سمات القرن القادم.
ويعنى هذا التصور أن تعليم الكبار سيبقى ما بقى التسارع المعرفى، أى ما بقى البشر خلفاء فى الأرض. وأحد الوظائف المهمة لتعليم الكبار، فى ضوء التصور المطروح، هى التطوير المستمر لقدرات ومهارات خريجى برامج محو الأمية، بل والمراحل التعليمية المختلفة.
وكما اتضح فى "التمهيد"، فإن وتيرة الإنجاز السابق فى تعليم الكبار لا تكفى على الإطلاق لتحقيق هدف القضاء على الأمية، فى أى مدى زمنى مقبول، ناهيك عن الأهداف الأكثر طموحاً لتعليم الكبار.
ولذلك يتعين تخصيص موارد مجتمعية أكبر، لا تقتصر على المال، للقضاء على الأمية وتعليم الكبار. ومن قبيل ذلك توفير حوافز إيجابية مغرية للأفراد للتحرر من الأمية، وتقنين حوافز إيجابية وسلبية للجهات الحكومية ومنشآت قطاع الأعمال ومنظمات المجتمع المدنى على قدر نشاطها فى محو أمية العاملين بها. وتشجيع العمل الأهلى على القيام بدور نشط فى تعليم الشرائح الأصعب من الأميين المتناثرين فى تجمعات صغيرة فى طول البلاد وعرضها. والشبكة الأخرى التى توفر إمكاناً هائلاً للمساهمة فى محو الأمية هى دور العبادة، ومازالت إمكاناتها فى هذا الصدد غير مستغلة. وفى النهاية، لابد من اعتماد التعبئة المجتمعية التى تؤدى إلى بناء توافق عـام حول الأهمية الحرجة لمحو الأمية وتعليم الكبار ومتابعة تطور جهود القضاء على الأمية، بما فى ذلك التقييم الجاد للإنجاز.
ومن الأهمية بمكان توفير مقومات عدم الارتداد إلى الأمية. فالارتداد إلى الأمية سهل دون دعم متواصل، بل وتطوير مستمر، للمهارات المكتسبة بالتحرر من الأمية. كذلك يمثل الارتداد إلى الأمية إضاعة للفائدة المتوقعة فى مجال ترقية العنصر البشرى، وإهداراً لموارد المجتمع التى بذلت فى مكافحة الأمية. وأنجع وسائل منع الارتداد للأمية هو فتح باب التعلم المستمر على مصراعيه، سواء بتسهيل الالتحاق بمراحل التعليم النظامى المختلفة أو من خلال برامج راقية لتعليم الكبار.
ويلاحظ أنه ستبقى الحاجة لأعداد كبيرة من المعلمين وكوادر الإشراف والتوجيـه المؤهلين فى مجال تعليم الكبار، بل ستزداد فى المستقبل إذا ما أخذنا تحدى تعليم الكبار بالجدية الواجبة. ومن المعلوم أن لتعليم الكبار مقتضيات معرفية ومهارية تختلف عن تعليم الصغار. فى الأجل القصير، لابد من إنشاء برنامج كبير لإعداد معلمى الكبار، يقوم على توفير المرونة لتبنى الأساليب التعليمية الأنجع. ومن الضرورى فى هذا الصدد تعبئة الطاقة الهائلة للجامعات، هياكل مؤسسية وأساتذة وطلاباً، بشرط التدريب الجاد. والاستفادة كذلك من قدرات وخبرات المحـالين على المعاش، خاصة من المعلمين.
ولكن التطوير الحق للبنية المهنية لتعليم الكبار، كجناح أساسى للتعلم فى المجتمع، يتطلب تخليق مكون لتعليـم الكبار يتكامل عضوياً فى المنظومة العربية لإعداد المعلمين وفى الهيكل المهنى للمعلمين. ويقتضى ذلك العمل المنسَّق على عدة محاور: إدخال مواد عن تعليم الكبار فى برامج كليات التربية، إنشاء أو تقوية فروع فى كليات التربية متخصصة فى تعليم الكبار، وإقامة معاهد أو مراكز للبحث والدراسات العليا فى تعليم الكبار.
التعليم قبل المدرسى
يتطلب تحدى مجتمع المعلوماتية العالمى إعداد الأطفال مبكراً لكسب مهارات تجعلهم قادرين على الدخول فى مجتمع التنافس، ومؤهلين لمواجهة التحديات التنموية والحضارية، وعاملين على التوفيق بين الحفاظ على الهوية واحترام الاختلاف.
ويرتبط التعليم قبل المدرسى ارتباطاً وطيداً بالتربية الشاملة للطفولة المبكرة، كما أنه يشكل جزءاً لا يتجزأ من التعليم الأساسى، ويمثل أول خطوة للتوصل إلى التعليم للجميع. فتنمية وتطور الطفل عملية متعددة الأبعاد، شاملة ومستمرة، تتم عبر التواصل والتفاعل مع ظواهر الطبيعة والمجتمع.
وتتوقف قدرة الطفل على التعلم لدرجة كبيرة على سن التحاقه بالتعليم قبل المدرسى، وعدد السنوات التى قضاها به، ونوعية خبرة التعلم فيه. لذلك أصبحت كل البرامج الهادفة إلى ضمان التعليم للجميع تتوجه أولاً إلى الطفولة المبكرة معترفة بأن نمو الطفل وتطوره مرتبط بنوعية التجارب التى مر بها فى صغره وبأهمية التعليم فى هذه المرحلة كركيزة للتعليم الأساسى. لذلك تلعب رياض الأطفال دوراً جوهرياً، خاصة بالنسبة للمتعلمين ذوى الاحتياجات الخاصة أو الأطفال المحرومين من رعاية أسرية كافية.
مع ذلك لم يحظ التعليم قبل المدرسى حديثاً باهتمام الحكومات العربية حيث ينحصر مفهوم التعليم فى مراحله الثلاث: الابتدائى، الثانوى والعالى، وقلما يأخذ التعليم قبل المدرسى مكانته داخل السلم التعليمى.
فالبلدان العربية لا تضمن التعليم قبل المدرسى إلا لنسبة طفيفة من الأطفال. وهو فى غالب الأحيان ليس إلزامياً، ولا يبرمج ضمن النسق التعليمى العام، ولا يعد الالتحاق به شرطاً للالتحاق بالتعليم الأساسى، وتبقى كلفته بالنسبة للأسر، وخاصة الفقيرة، باهظة. ويقوم على تسيير قطاع التعليم قبل المدرسى فى غالب الأحيان القطاع غير الحكومى. كما تتسم رياض الأطفال فى البلدان العربية بطابع حضرى واضح.
ولكى تقوم بدورها على أكمل وجه، يتعين ألا تكون روضة الأطفال مدرسة ابتدائية مصغرة، ذات صفوف ومقررات، وإنما يجب أن تكون بيئة متكاملة ومؤسسة انتقالية توفر للطفل مجالاً للعب والتعلم والنماء الجسدى وتنمية الحواس والتكيف مع الجماعة، وتبرز قدراته الفكرية والعاطفية والاجتماعية.
وحيث تتم التنشئة بداية داخل الأسرة عبر المساهمة التلقائية والمساهمة الموجهة، فقد أكدت التجارب العالمية والقطرية على أن توعية الآباء وإدماجهم فى تحديد البرامج التعليمية، يساهم فى تشجيعهم على تحسين التواصل مع الأطفال، وتقوية وعيهم بالاحتياجات المتعددة للطفل، ويزودهم بمهارات جديدة ونماذج تربوية أخرى، الأمر الذى يؤدى إلى تفاعل أنجع بين الأسرة ورياض الأطفال والمدرسة فيما بعد.
غير أن مساهمة الأسرة تبقى رهينة وضعها الاقتصادى والاجتماعى. ويشكل تردى الظروف الاقتصادية والاجتماعية، الذى تعانى منه فئات عريضة من المجتمع العربى، أحد العوامل الأساسية التى تحرم الأطفال من التعليم قبل المدرسى، وتساعد على فشل برامج التعليم المبكر، وتؤثر سلبياً على تنمية الطفل العقلية والانفعالية والاجتماعية.
وتجدر الإشارة إلى الدور الحاسم الذى تقوم به وسائل الإعلام الحديثة، واسعة الانتشار، خاصة التلفاز، فى تشكيل عقول الأطفال ووجدانهم، الأمر الذى يكتسى خطورة واضحة مع تهافت المادة المذاعة فى أحيان كثيرة، وفى سياق قلة انتشار التعليم قبل المدرسى.
وليس من قبيل المبالغة القول بأن من أهم مقومات تجديد التعليم العربى أن تعنى السلطات التعليمية فى الوطن العربى، قطرياً وقومياً، بنشر التعليم قبل المدرسى وتوفير مقومات التربية الراقية فيه، وإقامة صلات وثيقة فى هذا المجال مع جميع مؤسسات التنشئة الاجتماعية الأخرى المؤثرة على الأطفال، خاصة الأسر ووسائل الاتصال الجماهيرى.
وتؤكد "الاستراتيجية العربية للتربية السابقة على المدرسة الابتدائية (مرحلة رياض الأطفال)" على أن مرحلة الطفولة تعد مرحلة حاسمة فى تكوين الإنسان. ومن هذا المنطلق فإن مرحلة التربية السابقة على المدرسة الابتدائية تكوّن الحجر الأساس فى تعليم الفرد وفى البنية التعليمية ككل. ولذلك فمن الجوهرى أن تتضافر المؤسسات الاجتماعية كافة فى إرساء حجر الأساس هذا، كبيراً ومتيناً.
وتدعو الاستراتيجية إلى التركيز على اللعب والقصة والحوار والاستكشاف والمناقشة فى الأنشطة والطرائق التعليمية فى التعليم قبل المدرسى؛ وإلى الاهتمام بوجه خاص بالتعلم الذاتى وبكل الوسائل التى تؤدى إلى تكوين الاتجاهات والمواقف والقيم الثقافية الحية والمبدعة، ولاسيما ما يتصل بمحبة العمل والنشاطات الحرفية، وبث روح التخطيط والتنظيم والتعاون والتضامن والعمل الجماعى المشترك وإيجابيات الثقافة العربية، فى نفوس الأطفال.
ذوو الاحتياجات الخاصة (بالتركيز على المتفوقين)
تختلف الحاجات الإنسانية من فرد لآخر. وتتباين القدرة على التعلم بين فرد وآخر. ولذا لابد أن تلتفت المجتمعات العربية إلى أفرادها جميعاً، وتوفر لهم فرص النمو والمشاركة الفاعلة فى الحياة الاجتماعية، كل وفق قدراته وإمكاناته. إن هذا لحق إنسانى أساس.
ويعتمد نجاح برامج رعاية ذوى الاحتياجات الخاصة، بداية، على مدى القبول الاجتماعى لها. ولا تواجه برامج المعوقين عادة مقاومة، إذ يسود الاعتقاد فى المجتمع بأن هذه الفئة محرومة، ومن الواجب دينياً واجتماعياً أن تتم رعايتها. أما بالنسبة لرعاية المتفوقين فالأمر مختلف. فلم تلق فئة المتفوقين الرعاية الواجبة، خاصة فى منظور مساهمتها فى تقدم الأوطان. بل هناك من يعارض وجودها أصلاً من حيث إنها "تربية نخبة".
ولذلك، وعلى حين تقوم الحاجة لتحسين جوهرى فى تعليم ذوى الحاجات الخاصة فى البلدان العربية بوجه عام، يقع التركيز هنا على تعليم المتفوقين، حيث يلعبون دوراً مهماً فى مجال الإبداع الضرورى للتقدم فى عصر المعرفة والتقانة. إلا أنه يتعين التأكيد على أن المقصود ليس التركيز على تعليم نخبة المتفوقين مع عدم الاهتمام بكل من عداهم. فالإبداع سمة مجتمعية. وغاية التعليم المنشود فى الوطن العربى هى تفجير أقصى الطاقة الإبداعية الممكنة فى الأفراد جميعاً. ولكن ستبقى دائماً فئة المتفوقين، طاقة هائلة محتملة، يتعين على نسق التعليم أن يساهم بقسط جوهرى فى إطلاقها وتوجيهها خدمة لنهضة الأمة.
ومن الضرورى التعرف على خصائص المتفوقين حتى تتبين السمات اللازمة فى برامج رعايتهم.
أولاً، يتسم التفوق بتعدد الأوجه. وعادة ما يختلف أداء المتفوق فيما يتصل بالنضج المبكر، والقدرة على التعلم الذاتى، وعلى توليد الأفكار الجديدة من المجال الذى يتعامل معه. فقدرة المتفوق على إدراك عناصر المجال عالية مما يعطيه الفرصة لإدراك العلاقة بين عناصره ومن ثم إعادة تشكيل المجال. كذلك تزداد حرارة دافعية المتفوق للعمل كلما ازداد انغماسه فى العمل وارتفع مستوى أدائه. فحين يبدأ المتفوق فى العمل ويسيطر على بعض مفردات المجال تبرق شرارة الدافعية. وإذا سيطر على المجال فإن شرارة الدافعية هذه تزداد سخونة. وتستعر الدافعية إذا بدأ المتفوق فى اكتشاف العلاقات وتمكن من الانتقال إلى مستويات أعلى لدرجة أنه يفقد الإحساس بالوقت وكذلك المحيطين به، ومن هنا ينشأ العلماء. وقد يتركز التفوق فى مجالات معينة دون غيرها. ولا يستغرب أن يظهر المتفوق عجزاً فى بعض المجالات. كما لا يحتاج بعض أصناف التفوق إلى ذكاء عال جداً، وخصوصاً عندما نتحدث عن الموهبة.
والتفوق هو محصلة لتفاعل الوراثة والبيئة معاً: الوراثة تزود الفرد بمدى من الاستعدادات ثم تأتى البيئة لتضع الفرد على أحد نقاط الاستعداد. ويكون المتفوقون أكثر قدرة من غيرهم على التوافق النفسى، وأقل عرضة للإحباط والقلق، فقط إذا عاشوا فى بيئة تتفهم قدراتهم واختلافهم عن الآخرين ولا تدفعهم لأن يكونوا على غير ما هم عليه.
وفى النهاية، فإن هناك فروقاً فردية بين المتفوقين. إذ يختلف المتفوقون فيما بينهم فى درجة التفوق ونوعيته، ومن حيث مجالات التفوق. ولذلك يجب أن تضع رعاية المتفوقين فى الاعتبار ضرورة مراعاة الفروق الفردية بينهم.
متطلبات رعاية المتفوقين
يجب أن يكون لرعاية المتفوقين حضور واضح ضمن السياسات والبنية التعليمية. وإذا تحقق ذلك يسهل عندئذ ترجمة رعاية المتفوقين إلى خطط وبرامج ومشاريع.
انتقاء أسلوب الرعاية المناسب: فى حالة أسلوب الفصل الكامل للمتفوقين فى "مدرسة خاصة" تواجهنا مشكلة التكلفة المادية والكثافة البشرية اللازمة، والتضحية التى ندفعها نتيجة عزل المتفوقين اجتماعياً عن الطلاب العاديين. أما إذا اخترنا "الفصول الخاصة" فى مدارس عادية، فهى أقل تكلفة وتحقق قدراً معقولاً من التفاعل الاجتماعى، لكنها فى الوقت نفسه تضحى بتوافر الظروف المتكاملة لرعاية المتفوقين مثل التجهيزات الخاصة والمدرسين المعدين للتعامل مع المتفوقين. وإذا اخترنا الأسلوب "الإثرائى" فإنه يتيح للمتفوقين التفاعل التام مع غيرهم من الطلبة العاديين، إضافة إلى خفض التكلفة المادية، لكن يفقد المتفوقون عندئذ فرصة التحدى مع بعضهم البعض، ولا ينجح هذا الأسلوب إلا بنسق مركب من الرعاية الخاصة للمتفوقين بين الطلبة العاديين.
توفير الدعم المادى والبشرى. برامج المتفوقين غير عادية فهى تحتاج إلى تكلفة مادية مرتفعة نسبياً وتسهيلات خاصة. وعلى سبيل المثال، تقتضى هذه البرامج تكلفة مرتفعة فى توفير تقانات التعليم الحديثة ومستلزماتها. وتظهر الحاجة لأدوات البحث وممكناته أكثر من برامج التعليم العادية. ولكن إذا أردنا أن نعرف التكلفة الحقيقية لرعاية المتفوقين فيجب أن نحسب التكلفة والمصروفات فى ضوء العائد المستقبلى، أى ما يمكن أن يحققه المتفوقون للمجتمع.
وفوق هذا تحتاج برامج المتفوقين إلى كادر بشرى يتناسب فى قدراته مع قدرات المتفوقين. على وجه الخصوص، لمعلم المتفوق دور محورى فى رعاية المتفوقين. فلا يفهم المتفوق بشكل جيد إلا متفوق مثله. ويجب الاعتماد على مدرسين يتمتعون بدافعية عالية أعدوا خصيصاً للتعامل مع المتفوقين. ولذلك فمن الضرورى إعداد هذه الفئة الخاصة من المعلمين على مستوى عال، الأمر الذى يستلزم زيادة جرعة التعلم فى الخارج.
استمرار الرعاية بعد التعليم العام. إن رعاية المتفوقين فى مرحلة التعليم العام ما هى إلا نقطة البداية فقط. فرعاية المتفوقين يجب أن تأخذ شكل حزمة من السياسات تبدأ بالتعليم العام، وتستمر إلى مرحلة التعليم العالى. بل يجب ألا تقف الرعاية عند الإعداد بل تتعداها إلى خلق مجالات عمل ملائمة لتوظيف قدرات المتفوقين. فلا يوجد سبب يؤدى إلى إحباط المتفوقين أكثر من عدم توفر فرص العمل التى تتناسب مع قدراتهم. إن المتفوقين بطبيعتهم لا يستطيعون أن يعملوا فى أوساط روتينية ونمطية ومقيدة، تفتقر إلى مقومات الإبداع، وهذه الصفات من الأسباب الرئيسة لسوء توافق المتفوق النفسى مع عمله. ويؤدى غياب هذه المتطلبات إلى فقدان المجتمع لعائد قدرات الموهوبين، وإن بقوا داخله. وإضافة إلى الفقد فى الداخل، يتسارع خطر فقد المتفوقين إلى مراكز النظام الاقتصادى العالمى لدرجة خطرة مع العولمة، كما أشير فى القسم الثانى.
ضرورة قيام عمل مجتمعى لمناصرة برامج رعاية المتفوقين. فى شكل رابطة أو جمعية لرعاية المتفوقين تضم فى عضويتها أولياء الأمور والمختصين فى مجال رعاية المتفوقين.
التعليم الفنى والمهنى
التعليم الفنى والمهنى هو أكثر أنماط التعليم التصاقاً بمواطن الإنتاج. وحجبها عنه، أو عزله عنه، ينطوى على ضرر بالغ. ومشكلة التعليم الفنى والمهنى الجوهرية فى المنطقة العربية أنه ظل فترة طويلة بعيداً عن مواطن الإنتاج. ونتيجة لذلك يعيش التعليم الفنى والمهنى، وينتهى، غريباً عن الإنتاج وفنونه.
وبينما قد يمتلك كثرة من خريجى مؤسسات التعليم الفنية والمهنية معلومات طيبة عن موضوع التخصص، فهم لا يمتلكون الخبرة المهنية والتقنية. حتى أولئك الذين يقضون وقتاً طويلاً فى العمل لا يقدرون بالضرورة على امتلاك الخبرة. لذلك كان لزاماً أن تتضمن برامج الإصلاح التعليمى، وبرامج إصلاح سوق العمل، ما يكفل لطلاب التعليم الفنى والمهنى أن يحصلوا على الخبرة الحقيقية.
وقد أصبح التأهيل لمعظم المهن يتطلب مستوى تعليمياً مرتفعاً بالمقارنة مع الماضى، ويستلزم وقتاً أطول من التعليم العام قبل التخصص المهنى. وعلى حين تناقصت الحاجة إلى المهارات اليدوية التقليدية بشدة فى معظم المهن، يزداد الطلب بسرعة على المهارات الاجتماعية والاتصالية والعقلية. ولذلك يكون التعليم الفنى والمهنى مجدياً إذا كان مفتوح القنوات، متصل الحلقات، مستمراً، لا يتوقف مداه عند حد معين.
كذلك صار مطلوباً أن تتوافر السمات الآتية فى خريجى التعليم الفنى والمهنى: امتلاك المهارات الخاصة بمهنة معينة أو مجموعة من المجالات المهنية؛ وامتلاك مهارات أساسية عديدة قابلة للتحول إلى حقول مهنية متعددة؛ والقدرة على استغلال المهارات فى مجالات جديدة؛ والفاعلية الذاتية، بمعنى القدرة على المبادأة والتصرف فى مواقف غير معتادة.
ويجب أن تعتمد معايير التعليم الفنى والتدريب المهنى، بالدرجة الأولى، على رؤى مؤسسات الإنتاج. فهناك حاجة دائمة إلى ربط التعليم الفنى والمهنى بسوق العمل الأمر الذى يستلزم على الدوام مراجعة مدى جودة التعلم الذى يتم داخل مؤسسات التعليم الفنى والمهنى. كما أن هناك ضرورة مستمرة لاختبار المعايير المتبعة فى تحديد المهارات والمعارف المطلوبة فى ضوء الواقع، بحيث يشارك فى هذا الاختبار المؤسسات الإنتاجية وأجهزة الاعتماد التعليمى والمهنى المتخصصة والجمعيات المهنية.
سبل تحسين التعليم الفنى والمهنى
إدخال مقدمات للتعليم الفنى والمهنى مبكراً فى التعليم الأساسى، ونشر الثقافة المهنية والتقنية من خلال وسائل الإعلام والتعليم من بُعد بالتعاون مع مؤسسات الإنتاج.
تغيير معايير توجيه الطلاب إلى التعليم الفنى والمهنى بحيث لا يبقى هذا المسار "عقاباً" لمن لا ترقى درجاته للاستمرار فى التعليم العام.
تحسين برامج خدمات التوجيه والإرشاد المهنى فى التعليم العام للطلبة من الجنسين، خاصة على نطاق التعليم الثانوى.
زيادة الاهتمام بالتعليم الفنى والمهنى الذى يقوم على درجة كافية من الفهم العام للعلوم التطبيقية والرياضيات فى الإطار التقنى والإنتاجى، بدلاً من الاقتصار على تعليم المهارات المحددة التى تتطلبها حرف معينة.
إيجاد صلة وثيقة بين مؤسسات التعليم الفنى والمهنى ومؤسسات العمل والإنتاج. وتستوجب هذه الصلة مشاركة مؤسسات العمل مشاركة مؤثرة فى تحديد أهداف التعليم الفنى والمهنى، وبرامجه وإدارته، ومتابعته وتقويمه، وفى توظيف خريجيه عند انتهائهم من البرامج الدراسية بنجاح. ويتطلب ذلك توفير قنوات اتصال فعالة بين معاهد التعليم الفنى والمهنى ومؤسسات الأعمال، خاصة فيما يتصل بتطوير المناهج الدراسية، وتحسين مؤهلات هيئة التدريب، والتخطيط لقبول الطلاب، والتوجيه المهنى لهم، وتوظيفهم.
تصميم مناهج التعليم الفنى والمهنى لتناسب احتياجات العمل، ولإكساب الطلبة المهارات اللازمة لمزاولة المهن فى الواقع مباشرة من خلال الارتباط بعالم العمل الحقيقى. ويشمل ذلك إتاحة فرص حقيقية للطلبة للعمل المنتج ضمن المنهاج الدراسى المعتاد من خلال تأمين فرص اتصال الطلبة بمواقع الإنتاج بما يؤدى إلى دمج الخبرة الدراسية المدرسية بالخبرة التطبيقية فى أماكن العمل.
توسيع قاعدة التعليم الأهلى الفنى والمهنى، فالتعليم الأهلى يمكن أن يكون أكثر قدرة على ربط التعليم بسوق العمل واحتياجاته، وأكثر فاعلية فى الاستجابة لاحتياجات قضاء الطلبة- ضمن برنامجهم الدراسى- لفترة تدريب ميدانى فى مؤسسات الأعمال، يتوفرون خلاله على الممارسة الفعلية للمهنة لتثبيت المهارات والخبرات التى حصلوا عليها ولترسيخ مفاهيم أخرى جديدة واكتساب مهارات عملية ضرورية.
تنويع برامج التعليم الفنى والمهنى بحيث لا يكون الهدف منها فقط منح درجات علمية، وإنما تعطى الفرصة لمن يحتاج للحصول على قسط من التدريب المهنى يساعده فى تطوير عمله وتوفير فرص التدريب الفنى والمهنى المستمر، خاصة بالتركيز على التعليم والتدريب فى المجالات الحديثة (المعلوماتية، الأتمتة، ... الخ).
توفير المعدات اللازمة للمدارس والمعاهد الفنية والمهنية (بما فى ذلك توفير التكلفة الجارية للمواد التدريبية والصيانة).
العناية بتوفير برامج التعليم الفنى والمهنى للنساء، وتوفير برامج وخدمات من شأنها أن تساعد على التأهيل المهنى لذوى الاحتياجات الخاصة.
مد مستوى الإعداد الفنى والمهنى إلى مستوى الكليات المتوسطة، وفتح مراحل الهيكل التعليمى لخريجى التعليم الفنى والمهنى.
تطوير برامج إعداد معلمى ومعلمات التعليم الفنى والمهنى وبمشاركة مؤسسات الإنتاج.
شمول التعليم الثانوى لبرامج جديدة ذات طابع مهنى وذلك لإعداد كوادر فنية يمكنها دعم احتياجات القطاعات المهنية من الأفراد المؤهلين، ودراسة التخلى عن نمط المدارس الثانوية التقليدية واستبداله بالمدرسة الثانوية الشاملة.
مراجعة التصنيفات المهنية القائمة حتى تعكس المهن المتاحة فى سوق العمل ومهن المستقبل ومجالات التعليم الفنى والمهنى المستحدثة. فسوق العمل تتميز بالتغير السريع والتطور المتلاحق، الأمر الذى قد يتطلب إيجاد آلية جديدة لتحديد المهن، وأدوار المهنة ومواصفاتها وأساليب تأديتها، وانعكاس ذلك على مضمون البرامج التعليمية.
العناية بالبحث العلمى فى مجال التعليم الفنى والمهنى.
تكوين المعلمين
تتعدد العوامل التى تؤدى إلى تقدم التعليم وتتشابك. غير أن إصلاح تكوين المعلمين هو أحد أهم العوامل، إن لم يكن أهمها على الإطلاق، فى تحقيق التقدم التعليمى. فالإصلاح التعليمى لا يعطى النتائج المرجوة بدون مشاركة فعالة من المعلمين، تعنى أن يصبح المعلم مهنياً محترفاً وفناناً فى القيام بعمله لتحقيق أقصى نماء ممكن لجميع المتعلمين، آخذاً فى الاعتبار قدراتهم ومستوياتهم العقلية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفكرية، من ناحية، وبحيث يُحسن المعلم ذاته من خبراته ومهاراته واتجاهاته أثناء هذه العملية التفاعلية مع المتعلمين، من ناحية ثانية. ويتطلب تطوير تكوين المعلمين فى البلدان العربية اتباع عدد من السياسات المتضافرة، تتلخص فيما يلى.
فى سياق تراكم المعرفة السريع، لا يمكن تحصيل المعلومات واكتساب المهارات التى يحتاجها المعلم فى فترة تعلّم قصيرة. إن أربع سنوات من التعليم العالى هو الحد الأدنى من الوقت اللازم للإعداد الأول للمعلمين، بغض النظر عن المرحلة التعليمية التى يعدون للتدريس فيها. وكلما زادت سنوات الإعداد عن ذلك كان ذلك أفضل من أجل الارتقاء "بالمهنة" واستعادة "مكانة" مرموقة للمعلم.
وفى هذا المنظور يجب أن تلغى معاهد إعداد المعلمين المتوسطة فى أقرب فرصة ممكنة، كما يجب أن تتبنى الدول العربية استراتيجيات غير تقليدية لرفع مستوى غير الجامعيين من العاملين فى الجهاز التدريسى وحسب خطة زمنية واضحة.
ويفضل قصر تكوين المعلمين على الجامعات ذات السمعة العلمية الرصينة فى البحث والتطوير، ويجب أن تنظر هذه الجامعات إلى برامج تكوين المعلمين كجزء من مسؤولياتها تجاه المجتمع.
ويتعين الاهتمام، بوجه خاص، بالتطوير المستمر لقدرات معلمى المعلمين- هيئات التدريس بكليات التربية- الذين يلعبون دوراً محورياً على قمة العملية التعليمية، من خلال فرص البحث وتدارس التطورات الحديثة، والتجارب المهمة، فى التعليم، فى الداخل وفى الخارج.
تطوير قاعدة معرفية ملائمة لبرامج تكوين المعلمين تتناول الثقافة العامة والمواد التخصصية والثقافة التربوية وطرق التدريس والتربية العملية، وتستمد جزئياً من الأدبيات العالمية، ومن نتائج البحوث والدراسات الأصيلة، ومن تراث الأمة. على أن تشمل القاع