د. هزوان الوز

اختلف علماء النفس وعلماء التربية وعلماء الاجتماع على وضع تعريفٍ محددٍ للذكاء، وبرغم تلك الجهود التي بذلت لسنوات طويلة من قبلهم، إلا أنهم لم يتفقوا حتى على وضع تصور عام لمفهوم الذكاء، وبالطبع فهذه مشكلة منهجية كبيرة، إذ أنَّ الاختلافات في فهم طبيعة الذكاء تؤدى بالضرورة إلى الاختلاف في كيفية دراسته وقياسه.
وقد يعود الاختلاف في تعريف الذكاء إلى:
أنَّ الذكاء ليس شيئاً مادياً محسوساً.
أنَّ الذكاء لا يُقاس بشكلٍ مباشر.
أنَّ العلماء تناولوه من زوايا مختلفة، وبحسب المفاهيم السائدة لديهم قاموا بتعريفه، لذا ظهرت العديد من المفاهيم حول الذكاء.

تعريفات متنوعة للذكاء:

عرّف عالم النفس "بينيه" الذكاء على أنه قدرة الإنسان على الفهم والابتكار والتوجيه الهادف للسلوك والنقد الذاتي.
أما العالم "ترمان" فقد عرّف الذكاء بأنه القدرة على التفكير المجرّد، بينما عرّفه "كالفن" بأنه القدرة على التحصيل.
ويعرف "سيبرمان" الذكاء بأنه القدرة على إدراك العلاقات وخاصة العلاقات الصعبة أو الخفية.
ويقسم "فريمان" تعريف الذكاء إلى أربعة أنواع:
النوع الأول: يهتم فيه التعريف بتكيّف الفرد أو توافقه مع البيئة الكلية التي تحيط به، ومن أمثلة هذا تعريف "بنتنر" للذكاء بأنه قدرة الفرد على التكيّف بنجاح مع ما يستجد في الحياة من علاقات.

النوع الثاني: يؤكد الذكاء باعتباره القدرة على التعلم، ووفقاً لهذا التعريف يُصبح ذكاء الفرد مرهوناً بمدى قابليته للتعلم، ومن أمثلة هذا النوع تعريف "ديربون" للذكاء بأنه القدرة على اكتساب الخبرة والإفادة منها.
النوع الثالث: يُعرّف الذكاء بأنه القدرة على التفكير المجرد، وهذا هو التعريف الذي قدمه لنا "لويس ترمان"، غير أنَّ هناك بعض الاعتراضات عليه، إذ إنه يتضمن أنَّ الذكاء لا يمكن أنْ يظهر في المستوى العياني أو الحسي.
النوع الرابع: هذا النوع من التعريفات أكثر اتساعاً في نظرته من الأنواع السابقة، ومن أمثلته تعريف "ويكسلر" للذكاء بأنه القدرة الكلية لدى الفرد على التصرف الهادف والتفكير المنطقي والتعامل المجدي مع البيئة.
ويُرجع البعض الآخر الفضل الأساسي في إدخال مصطلح الذكاء إلى العالم "سبنسر"، وذلك في أواخر القرن التاسع عشر، فمن خلال تعريف "سبنسر" للحياة يمكننا أنْ نتبيّن تعريفه للذكاء.
يعرّف "سبنسر" الحياة بأنها:
التكيّف المستمر للعلاقات الداخلية مع العلاقات الخارجية، فالتكيّف يحدث للحيوان من خلال الغرائز، وللإنسان من خلال الذكاء.
إذن الذكاء وظيفته تمكين الإنسان من التكيّف الصحيح مع بيئته المعقدة والمتغيرة.
ومن الإسهامات التي توصل إليها "سبنسر" أنه أثناء نمو الطفل يحدث نوع من التمايز في قدرته المعرفية الأساسية فتتحول إلى تنظيم هرمي من القدرات الأكثر تخصصاً شأنها شأن جذع الشجرة وما يتفرع منه من فروع.
ولقد أكدّت نتائج علم النفس المقارن والفيزيولوجي ما توصل إليه "سبنسر" من أهمية التنظيم الهرمي التكاملي لوظائف الجهاز العصبي فهي تنبع من النشاط العقلي العام ثم تتخصص وتتشعب.
ومن العلماء الذين حاولوا أنْ يفسروا الذكاء تفسيراً فيزيولوجياً، العالم "ثورنديك" وذلك من خلال تعرضه إلى مفهوم الروابط أو الوصلات العصبية التي تصل بين خلايا المخ فتكوّن شبكة متصلة، حيث يتوقف ذكاء الفرد على تشعب تلك الوصلات.
ومع التطورات المتلاحقة في فهم الجوانب المختلفة للذكاء، ومع تطور فهم نمو الذكاء وإمكان تنميته، فقد ظهرت في السنوات الأخيرة اجتهادات نظرية تهدف إلى البناء على المداخل الحديثة في فهم الذكاء، وخصوصاً المدخلين المعرفي والثقافي، وتهدف إلى التعامل مع مجموعة من القدرات وجوانب الذكاء التي تقصر عن تقديرها المناهج الدراسية واختبارات الذكاء التقليدية.
هناك ثلاث نظريات حديثة حول الذكاء، وهي:
الذكاء المتعدد لهوارد غاردنر (Howard Gardner).
الذكاء الثلاثي لروبرت سترنبرغ (Sternberg).
الذكاء البيولوجي لستيفن سيسي.
نظرية الذكاء المتعدد (multiple intelligences):
قدّم "هوارد غاردنر" الأستاذ بجامعة هارفارد بالولايات المتحدة النظرية لأول مرة عام 1983 في كتاب بعنوان "أطر العقل"، واستمر في تطويرها لما يزيد على عشرين عاماً.
حيث أثبت أنَّ كل إنسانٍ يملك سبعة ذكاءات، وبهذا دخل في صراع فكري مع القائلين بالذكاء الواحد، وأصحاب هذا التوجه هم "إيسنك"، و"جالتن"، و"جنسن"، و"سبرمان"، كما ذكرت "هان بايك" في مقالها (ذكاء أم ذكاءات؟ رؤى مختلفة للقدرات الإدراكية)، ويرى أصحابُ هذا التوجه بأنَّ الذكاء الإنساني يمكن أنْ يقاس باختبارات قياس الذكاء IQ.
أما الاتجاه الثاني فيضم "جاردنر"، "شترنبرج"، و"ثرستون"، ويعتقدون أنَّ هناك أكثر من ذكاء واحد، ولكنهم يختلفون في عدد الذكاءات.
لقد بدأ اهتمام "هوارد غاردنر" بالذكاء منذ مرحلة مبكرة من حياته مدفوعاً بعدة عوامل ذكرها في كتاب له صدر عام 1999 بعنوان (إعادة تأطير الذكاء)، وقبل ذلك نشر كتاباً بعنوان (الذكاء المتعدد، النظرية والتطبيق)، وفي خطاب ألقاه يوم 21 نيسان عام 2003 أمام رابطة البحوث التربوية الأمريكية American Educational Research Association  في مدينة شيكاغو الأمريكية، قدّم تاريخاً شخصياً لبداية تفكيره في النظرية وكيفية تطويرها. في صدر شبابه كان "غاردنر" مهتماً بالعزف على آلة البيانو وببعض الفنون الأخرى بالإضافة إلى اهتماماته العلمية. وعندما بدأ دراسة علم النفس المعرفي فيما بعد لفت نظره أنَّ هذا العلم لا يولي اهتماماً كبيراً لفهم الفنون، وأنَّ أنواع الذكاء والقدرات المرتبطة بالفن مازالت غير واضحة في هذا التخصص. وقد دفعه هذا إلى التفكير في الحاجة إلى دراسة الذكاء من منظور أوسع. ومن ناحية أخرى فقد بدأ "غاردنر" حياته المهنية بدراسة الأفراد المصابين بجلطات دماغية في أماكن مختلفة من المخ، وما يترتّب على هذه الإصابات من نتائج فيما يتعلق بالوظائف النفسية المختلفة كالذاكرة واللغة والانتباه وغيرها. أما ثالث العوامل المؤثرة في دراسة "غاردنر" للذكاء فكان عمله فيما يسمى المشروع صفر (Project Zero)، وهو مشروع بحثي أسسه "نيلسون غولدمان" N.Goldman  في جامعة هارفارد عام 1967 بهدف دراسة النمو المعرفي لدى الطفل والتضمينات التربوية المرتبطة به.
وهكذا توافرت لغاردنر فرصة مواتية لدراسة الذكاء بشكل منظّم اعتماداً على عدد متسع من التخصّصات تمتد من علم النفس وعلم الأعصاب إلى الإنسانيات والفنون. ولقد لعبت هذه العوامل دوراً كبيراً في تحديد اتجاه دراسة الذكاء لدى "غاردنر".
يبحث كتاب "أطر العقل" في الإمكانات الكامنة في النفس الإنسانية وما يُمثل ركازها، وهو جزء من مشروع علمي أطلق عليه "غاردنر" (مشروع الركاز الإنساني)، يُناقش هذا المشروع الجوانب الفلسفية لمفهوم الركاز، كما يدرس بشكلٍ شامل شروط النمو الإنساني من منظور مقارن وتاريخي.
وثمة جانبان رئيسيان لنظرية غاردنر توصل إليهما من خلال هذه الخبرات.
الجانب الأول: إنَّ الذكاء ليس مكوّناً أحادياً متجانساً، بل لقد أظهرت دراسات الحالات المتعددة أنَّ الأداء في أحد جوانب الذكاء لا ينبّئ أو يحدّد مستوى الأداء في الجانب الآخر، وبالتالي لا يوجد ذكاء واحد، بل يوجد عدد من أنواع الذكاء التي يُشكّل كل منها نسقاً مستقلاً خاصاً به، وعلى هذا الأساس فإنَّ "غاردنر" لا يرى في هذه الأنواع المختلفة من الذكاء قدرات أو مواهب تُشكل أبعاداً أو عوامل للذكاء، بل يرى أنَّ كلاً منها يشكّل نوعاً خاصاً ومستقلاً من الذكاء، وبالتالي فهناك حاجة إلى فهم هذه الأنواع المختلفة من الذكاء التي تقصر عن تقديرها اختبارات الذكاء التقليدية التي لا تقيم حسب رأي "غاردنر" سوى مزيج من القدرات اللغوية والمنطقية، وهي القدرات الضرورية فقط لأساتذة القانون والمحامين.
أما الجانب الثاني من جوانب النظرية، فهو أنَّ أنواع الذكاء تتفاعل للقيام بمهام الحياة المختلفة فحل مشكلة رياضية مثلاً يتطلب تعاوناً من الذكاء اللفظي والذكاء المنطقي والرياضي، وعلى هذا فإنَّ الناس يختلفون بين هذه الأنواع، بحيث يمكن القول إنَّ كل إنسان لديه "بروفيل" عقلي Intellectual profile خاص به. وقد قدّم "غاردنر" لاحقاً دراسات حول الأشخاص ذوي "البروفيلات" العقلية المتميّزة، فدرس المبدعين والقادة وذوي الإنجازات المتميّزة.
وقد نتجت عن نظرية "جاردنر" مجموعة مبادئ أساسية،هي:
يمتلك كل إنسان تسعة أنواع من الذكاء (ذكاءات) يُعبّر عنها بأشكال ومهارات مختلفة.
هذه الأنواع من الذكاء وراثية مكتسبة، أي تولد مع الإنسان، ثم يأتي دور البيئة المحيطة (الأسرة، المدرسة، التربية، المجتمع...) في تنمية هذه الأنواع.
لكل إنسان قدراته في الذكاءات المتعددة، وهذه الذكاءات تعمل معاً، وتختلف هذه القدرات في نموها داخل الإنسان، فإما أنْ تنمو وتزدهر بالتدريب والممارسة، وإما أنْ تتراجع وتتلاشى بالإهمال والتراخي.
يُمكن أنْ يُسهم تطوير أحد أنواع الذكاء في تطوير نوعٍ آخر من أنواعها.
يكمن وراء أي نشاطٍ بشري مجموعة ذكاءات تعمل بعضها مع بعض.
يُمكن تقييم القدرات العقلية والمعرفية التي تقف وراء كل نوع من أنواع الذكاءات المتعددة من خلال مجموعة مؤشرات تدل على وجودها.

أنواع الذكاء (الذكاءات التسعة):

الذكاء اللغوي: هو القدرة على اكتساب اللغة وتوظيفها في التعامل مع الآخرين من خلال استخدام الكفاءة العالية في صياغة العبارات، ويتصف أصحاب الذكاء اللغوي بقدرتهم على التلاوة الصحيحة للكلمات، مطالعة القصص والروايات مع إمكانية إعادة عرضها وفق الأسلوب الشخصي، الإحاطة والدراية بالأساليب البلاغية والمحسّنات الفنية، ويتمتع الإنسان الذي يمتلك الذكاء اللغوي بالقدرة العالية على الاتصال مع الآخرين، وذلك بما يمتلكه من مخزون جيد من الكلمات (وربما اللغات) مما يمنحه الجرأة في الحوار والتواصل.
 الذكاء المنطقي الرياضي: هو القدرة على استخدام الأرقام بكفاءة (كالمحاسب، المُبِرْمِج، الإحصائي)، والقدرة على التفكير المنطقي (العالم، أستاذ المنطق). ويتصف أصحاب الذكاء المنطقي بقدرتهم عل حساب المسائل الرياضية بسرعة والاستمتاع بها وببرامج الكومبيوتر، وطرق البحث العلمي، الإدراك الجيد للأسباب والنتائج، وكذلك قدرتهم على التفكير المنطقي في معالجة الموضوعات، من حيث جمع الأدلة ووضع الافتراضات.
 الذكاء المكاني (الصوري أو البصري): هو القدرة على إدراك العالم المكاني البصري بدقة، ويتضمّن القدرة على التعامل مع الصور الذهنية الموجودة على شاشة الحاسب، أو الورق، والقدرة على التعامل مع الأبعاد الثلاثية (المهندس،المصمم، الرسام، مهندس الديكور)، ويتصف أصحاب الذكاء المرئي/ المكاني بقدرتهم على الاستمتاع بالأنشطة الفنية واليدوية، والاهتمام بالرسم، والعروض السينمائية، والقدرة على الوصف الدقيق للمناظر والصور، وإمكانية رسم الوجوه بشكلٍ مميز، كذلك قدرتهم على بناء تركيبات ذات أبعاد ثلاثية.
 الذكاء الحركي الجسمي (العملي): وهو توظيف الجسم كلّه، أو أجزاء منه، لتشكيل منتج أو حل مشكلة معينة، ويتمتع الأشخاص الذين لديهم هذا النوع من الذكاء بالصفات التالية: التفوق في واحدة أو أكثر من الألعاب الرياضية، البراعة في تقليد ومحاكاة حركات الآخرين وسلوكياتهم، مهاراتهم العالية في الأنشطة اليدوية (الحياكة، العمل على الآلات...).
 الذكاء الموسيقي: وهو القدرة على إدراك الموسيقى، والتحليل الموسيقي، والتعبير الموسيقي، ويتضمّن هذا الذكاء الحساسية للإيقاع والألحان، والقدرة على العزف على آلة موسيقية أو أكثر.
 الذكاء البيئي: وهو القدرة على التعامل مع البيئة والتعرف على أجزائها وأنواعها (النباتات والحيوانات)، ومن مؤشرات الذكاء البيئي: الاستمتاع بدراسة الظواهر الطبيعية ومناقشتها مع الآخرين، حب دراسة علم الأحياء والجغرافيا، ودراسة الجيولوجيا وعلوم الوراثة، ملاحظة التغييرات التي تحدث في البيئة المحلية.
 الذكاء الاجتماعي: وهو القدرة على فهم الآخرين، وإدراك حالاتهم المزاجية ودوافعهم، وتوظيف هذه المعلومات في التعامل مع الآخرين سلباً أو إيجاباً.
 الذكاء الحقائقي: وهو القدرة على استيعاب الحقائق.
 الذكاء الإيحائي: وهو القدرة على الحدس والتنبؤ، وتفسير الظواهر، واستباط النتائج.
ووَضَعَ علماء آخرون تقسيمات أخرى لأنواع الذكاء، مثل: التحليلي، الفراغي، العملي، الفيزيائي، التواصلي، العاطفي، وهناك الذكاء المركّب وهو الإنسان الذي يمتلك أكثر من نوع من الذكاءات السابقة.

مراجع البحث :

 كتاب: أطر العقل ونظريات الذكاء المتعددة (  Frames of mind ) تأليف: هوارد غاردنر ( Howard Gardner ) ترجمة الدكتور: محمد طلال الجيوسي بتكليف من مكتب التربية العربي لدول الخليج . الناشر: مكتب التربية العربي لدول الخليج.
خمسة عقول من أجل المستقبل ( Five Minds For the Future ) تأليف هوارد غاردنر.
مقال (الذكاء أم ذكاءات ؟ رؤى مختلفة للقدرات الإدراكية) تأليف هان بيك.
كتاب: اختبارات نسبة الذكاء والقياس النفسي , تأليف فيليب كارتر.
بحث: الذكاء بين الوراثة وتأثيرات البيئة الاجتماعية, تأليف غريس فرح.
كتاب إعادة تأطير الذكاء, تأليف هوارد غاردن.
بحث عن الذكاءات المتعددة, الأستاذ خالد عاشور.


المصدر : الباحثون العدد 41 - تشرين الثاني 2010
  • Currently 20/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
6 تصويتات / 6221 مشاهدة

أحمد السيد كردي

ahmedkordy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

29,722,113

أحمد السيد كردي

موقع أحمد السيد كردي يرحب بزواره الكرام free counters