عبد الملك القاسم

لا تزال أعمال البر والخير تتواكب مع نمو النفس البشرية، ويزداد أمرها، ويكثر إنفاقها عند المسلم حين الاحتساب ورجاء موعود الله- عز وجل – من الثواب الجزيل والأجر العظيم.

ومنذ أن شرُفت هذه البلاد، وأكرمها الله -عز وجل- بالإسلام، ولها نصيب الأسد والقِدح المُعلَّى في رفادة إخوانها، وإعانتهم في مشارق الأرض ومغاربها، وهذا العمل الجليل الذي تفخر به، وترفع به رأساً لا تزال – بحمد الله – سائرةً في طريقة آمنة، لا تستوحش لها الغبراء، وحسبك بها سبّاقة إلى الخير! ومما يزيد القناعة بالعمل الخيري ما توَّجَهُ الأمر الملكي الكريم مؤخراً بإنشاء (الهيئة السعودية الأهلية للإغاثة والأعمال الخيرية في الخارج)، وفي الإعلان عن قيام هذا الهيئة بشارة باستمرار الدور القيادي والرائد للملكة في هذا المجال، الذي لها فيه اليد الطولى؛ حيث بزَّت به إخوانها وفاقت أقرانها.

وأهل هذه البلاد – أفراداً ثم مؤسسات – لهم جهود تُذكر فتُشكر، نفع الله بها البلاد والعباد، ها أنت حين تطأ قدمك أواسط إفريقية، تهتف بك منارة شامخة في جامع شيده الملك فيصل – رحمه الله – يحمل اسمه إلى اليوم في دولة السنغال، وإذا ضربت في متاهات ودروب الصحراء؛ إذا بأناس عطشى فتجد لك أثراً؛ بئراً تحمل اسم متبرع من هذه البلاد، وإن طوى بك المسير، وأدركتك الصلاة في مسجد وجدت مصحفاً حملته غاديات السحاب إلى تلك الديار من مجمع الملك فهد للطباعة! ومن المبشرات أن من المساجد التي بنيت هنالك ما يدعو لأئمة وولاة أمر هذه البلاد بالتوفيق والسداد! ومن سافر من الدعاة وطلبة العلم يعلم ذلك، ولما حمل المزن هذه الخيرات هطل الغيث على البلاد محبة ودعاءً، ثمرةً من ثمار المؤسسات الخيرية في دعمها لإخواننا المسلمين، ورفع ما نزل بهم من نكبات وويلات، وهذا أقل الواجب. وبنظرة استشرافية فإن مجموع أعمال المؤسسات الخيرية إمداد ومُعين للاتجاه الرسمي في العمق البشري، ورافد لدعم النظرة الإستراتيجية بعيدة المدى؛ وكثيراً – ولله الحمد – ما نسمع ولاة الأمر – وفقهم الله – يردِّدون أننا نقدم بلا مِنّة ولا ننتظر جميلاً من  أحد. ومن فضل الله أن سخَّر للمتبرع من يأخذ نفقته ليصل بها إلى المستحقين عبر قنوات رسمية، أولها استلام إيصال رسمي بالمبلغ ليرى بداية ونهاية ما تبرع به، وأما المحتسب من الدعاة والعاملين في المؤسسات الخيرية فقد هُيئت لهم الأسباب من نيل الأجور وانضباط العمل، تحت مرأى ومسمع الجهات المسؤولة، ناهيك عما يجنيه الشباب من استثمار أمثل للطاقات وخدمة المجتمع وحفظ الأوقات.

والفقراء والمحتاجون ليسوا نهاية المطاف من المستفيدين؛ فهناك الكثير، ولعلي أذكر أن الدكتور عبد الرحمن السميط زارني قبل سنوات، على غير موعد وعلى غير معرفة سابقة، بل قال: أتيت زيارة ومحبة لك – أنا فلان – ولما تشعّب الحديث ذكر حال إفريقية إبَّان الغزو العراقي على الكويت وانقطاع المساعدات والمؤونة عنهم وقال: "كنت متيقناً – بإذن الله – من عودة الكويت لأهلها؛ لأن كل بيت في الكويت له بيت يعوله ويصرف عليه في إفريقية، ولن يُضيِّع الله بيتين مسلمين"!

ومع طول الأيام لا يزال يجول بخاطري موقف من مئات المواقف التي تمر بذهني؛ فكلما أقبل شهر رمضان – ونحن نتقلّب في نعم الله – عادت بي الذاكرة إلى ذلك الموقف: ففي إحدى قرى القارة الإفريقية يجتمع – الناس رجالاً ونساء صغاراً وكباراً – من بعد صلاة الظهر في أرض جرداء وشمس محرقة، انتظاراً لوجبة الإفطار التي تقدمها إحدى المؤسسات الخيرية، ولَكَم يقطر القلب أسًى وصوت المؤذن يرتفع إيذاناً بغروب الشمس؛ ونصف من أتوا – أو يزيد – يعودون إلى رحالهم لم يحصلوا على تمرة واحدة!

ولا شك أننا في مرحلة دقيقة وهامة، وما تؤديه المؤسسات الخيرية من إعانة على أداء شعائر الإسلام وأخذ الزكاة من المتبرعين، من أعظم أنواع التنظيم المالي والأمني، فما بالك لو أُوقفت المؤسسات الخيرية، وكلُّ مسلم مطالب بأداء الزكاة سنوياً، فأين تذهب الأموال؟ وكيف نضمن عدم الانحراف في صرفها؟

وحسبك بعدم الاستطاعةِ إيقافَ ركن من أركان الإسلام وشعيرة من شعائر الدين، ألا وهي الزكاة المفروضة، ولن تجدي جميع المحاولات في منع منفق لسد حاجة فقير، أو رفد أرملة، أو إجراء سقاية، أو كفالة يتيم، أو بناء مسجد، أو إطعام جائع، أو كسوة عار! فهذه من خصال هذه الأمة العظيمة؛ ولهذه الصعوبة – بل والاستحالة – فإن توجيهها ضمن منظومة واضحة منضبطة في حفظ المال، ومن ثم صرفه، خير من أن تتشتت الأموال في الأيدي بعيداً عن السيطرة والمتابعة والمراقبة المؤسسية، ولا يخفى ما لذلك من مساوئ. وإذا ظهر في المؤسسات الخيرية بعض النقص والقصور؛ فتلك سمة البدايات وقِصَر الطريق، واكتساب الخبرة والنتاج  البشري يمر بمراحل متدرجة: والتسديد والتوجيه مطلوب وبإمكان اللجنة التي صدر بها أمر ملكي، أن تتفرّع منها لجان شرعية للفتوى، وأخرى إدارية لرفع الأداء، وثالثة مالية للمراقبة، كما أن من الضروري أن يكون ضمن هيكلتها إدارات للتنسيق والتقييم، ومراجعة الخطط ورسم الإستراتيجيات؛ يعزز ذلك متابعة خارجية ميدانية، وأظن أن في هذه الهيئة الإشرافية الخير الكثير الذي يدفع بالمؤسسات الخيرية إلى البعد عن المركزية والاتجاه نحو العمل المؤسسي المنظم.

وفي تعدد المؤسسات إثراء للساحة الخيرية، وإرضاء لرغبات المتبرعين مع إشاعة روح التنافس والتجديد، والتوجّه نحو التخصص، وهو ما تتطلبه المرحلة الراهنة من العمل الخيري. والضابط لذلك كله إيجاد نظام إداري متكامل وفعّال تُوضّح فيه الصلاحيات وتُحدّد المسؤوليات، يُتوِّج ذلك تسميةُ مرجعيةٍ قريبة وفاعلة لكل مؤسسة على حدة، مكونة من عدة مجالس، أبرزها مجلس إدارة قوي ومؤثر يضم نخباً من العاملين والجادّين وأصحاب الخبرات المتنوعة، بعيداً عن النمط المعتاد في الاختيار حتى لا يكون المجلس كَلاً على مولاه. وفي إيجاد إدارة للاستثمار ضرورة ملحة لتنمية موارد المؤسسات وتنوّع مصادر دخلها، على أن تبقى مستقلة بأعمالها مرتبطة بمجلس الإدارة مباشرة.

ونحن بهذه المعالجات لن نكون شمساً مشرقة، ولكن – بتوفيق الله – ضوءَ القمر الذي يهتدي به الساري. ومن استقرى التاريخ ظهر له جلياً أن كثرة المؤسسات الخيرية وتنوّع الجمعيات النفعية العامة من سمات المجتمع المدني المتحضر وليس المتديّن فحسب، قال ابن القيم – رحمه الله –: "وقد دل العقل والنقل والفطرة وتجارب الأمم على اختلاف أجناسها ومللها ونحلها، على أن التقرب إلى الله وطلب مرضاته والبر والإحسان إلى خلقه، من أعظم الأسباب الجالبة لكل خير...".

وتفتخر دولة مثل فرنسا أن لديها أكثر من ثمانين ألف منظمة خيرية، وإسرائيل -على الرغم من أنها ذات مساحة صغيرة واقتصاد عسكري- بها ما يقارب من ثلاثين ألف مؤسسة خيرية مسجلة رسمياً.

إننا في مرحلة حرجة من تاريخ الأمة، وقد خطت المؤسسات الخيرية خطوات إيجابية، ولهذا فإن حسن اختيار القيادات لها من أعظم أسس نجاحها، ومن مقومات استمرارها اختيارُ الكوادر المؤهلة، ومَن له قدم راسخة في العمل الدعوي، بعيداً عن أضواء الإعلام والتصريحات، مع سمة الهدوء والتعقل، وهما من متطلبات المرحلة القادمة، ومطلب أولي لمن تصدر لهذا العمل الخيري العظيم، ألا وهو النزاهة والأمانة والبعد عن التّخوّض في الأموال وترك التأوّل: (إن خير من استأجرت القوي الأمين). وبلادنا – فضلاً من الله ومِنّة – أرض معطاء، خيرها سابق وعطاؤها وافر، ارتبط البذل باسمها والسخاء بأهلها، فأنَّى لهم مفارقة ذلك؟!

لّما ارتفع أنين الجوعى والعطشى في الصومال؛ شُكلت لجنة عليا لجمع التبرعات للمنكوبين هناك، وحينما تنامَى إلى المسامع نداء الأرامل والأيتام في البوسنة والهرسك؛ صدر توجيه كريم بإنشاء الهيئة السعودية العليا للبوسنة والهرسك! وما هبّت له هذه البلاد حكومةً وشعباً لإعمار ونجدة إخواننا في غزة لأقرب مثل واقعي لذلك. إنها قبلة المسلمين، بلاد مقدامة في إغاثة الملهوف ونصرة المظلوم!

فصنائع المعروف تقي مصارع السوء، وصانع المعروف لا يقع، وإن وقع وُجِد متكئاً، والمؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضاً، ومن عمل صالحاً فلنفسه.

أسأل الله – عز وجل – أن يحفظ هذه البلاد، وأن يجعلها يداً عليا تنفق ولا تأخذ، تعطي ولا تَمُنّ، يُحبّها من في الأرض، ويحفظها من في السماء.

 

 

  • Currently 44/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
16 تصويتات / 900 مشاهدة

أحمد السيد كردي

ahmedkordy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

29,724,349

أحمد السيد كردي

موقع أحمد السيد كردي يرحب بزواره الكرام free counters