الحمد لله ملأ بنور الإيمان قلوب أهل السعادة ، فأقبلت على طاعة ربها منقادة ، فحققوا حسن المعتقد وحسن العمل وحسن الرضا وحسن العبادة . أحمده سبحانه وأشكره وقد أذن لمن شكره بالزيادة ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدة لاشريك له شهادة تبلغ صاحبها الحسنى وزيادة ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله المخصوص بعموم الرسالة وكمال السيادة . وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آلة وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين .
أما بعد :
فياأيها الناس أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل بتقواه خير زاد ، وهي نعم العدة ليوم الميعاد . يجد المتبصر في أمور الحياة وشئون الأحياء يجد فئات من الناس تعيش ألواناً من التعب والشقاء ، وتنفث صدورها أنواعاً من الضجر والشكوى ، ضجر وشقاء يعصف بالأمان والأطمئنان ، ويفقد الراحة والسعادة ، ويتلاشى معه الرضا والسكينة ، نفوس مغمسة في أضغانها وأحقادها ويؤسها وأنانيتها ، ويعود المتبصر كرة أخرى ليري فئات من الناس أخرى قد نعمت بهنيء العيش وفيوض الخير ، كريمة على نفسها ، كريمة على الناس ، طيبة القلب سليمة الصدر طليقة المحيا . ماالذي فرق بين هذين الفريقين ؟ وماالذي باعد بين هاتين الفئتين ؟ إنه الإيمان وحلاوة الإيمان .
ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً وبالإسلام دينماً وبمحمد صلى الله علية وسلم رسولاً بذلك أخبر الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام كما أخبر أن ( ثلاثاً من كُنّ فيه وجد حلاوة الإيمان : أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، وأن يحب المرء لايحبه إلا في الله ، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه ، كما يكره أن يقذف في النار )
أيها الأخوة : للإيمان طعم يفوق كل الطعوم ، وله مذاق يعلوا على كل مذاق ونشوة دونها كل نشوة .
حلاوة الإيمان حلاوة داخلية في نفس رضية وسكينة قلبية تسري سريان الماء في العود ، وتجري جريان الدماء في العروق . لا أرق ولا قلق ولاضيق ولا تضييق بل سعة ورحمة ، ورضا ونعمة : ( ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما ) ( النساء : 70 ) . ( ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ) ( الحديد : 12 ) .
الإيمان بالله هو سكينة النفوس ، وهداية القلب ، وهو منار السالكين وأمل اليائسين . إنه أمان الخائفين ونصرة المجاهدين . وهو بشرى المتقين ومنحة المحرومين ، الإيمان هو أب الأمل وأخ الشجاعة وقرين الرجاء . إنه ثقة النفس ومجد الأمة وروح الشعوب . وأول منافذ الوصول إلى حلاوة الإيمان وطعم السعادة والرضى بالله عز وتبارك رباً مدبراً فهو القائم على كل نفس بما كسبت ، رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما ، قيوم السموات والأرضيين ، خالق الموت والحياة والأكوان ، مسبغ النعم ، يجيب المضطر إذا دعاه وكاشف السوء . أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ، سوى الإنسان ونفخ فيه من روحه ، أطعمه من جوع ، وكساه من عري ، وأمنه من خوف ، وهداه من الضلاله وعلمه من بعد جهالة . إيمان بالله تستسلم معه النفس لربها ، وتنـزع إلى مرضاته ، تتجرد عن أهوائها ورغباتها ، تعبده سبحانه وترجوه وتخافه وتتبتل إليه ، بيده الأمر كله ، وإليه يرجع الأمر كله ، رضى بالله ويقين يدفع العبد أن يمد يديه متضرعاً مخلصاً : ( ألهم إني أعوذ برضاك من سخطك ، وبمعافاتك من عقوبتك ، وبك منك ، لاأحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ) .
ومذاق الحلاوة الثاني : الرضا بالإسلام ديناً ، دين من عند الله أنزله على رسوله ورضيه لعباده ولا يقبل ديناً سواه .
إلى هذا التجسيد العجيب للرضا بدين الله ، غضب عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – على زوجته عاتكة فقال لها : والله لأسوأنك . فقالت له : أتستطيع أن تصرفني عن الإسلام بعد إذ هداني الله إليه ؟ فقال : لا . فقالت : أي شيء تسؤني إذن ؟ ! الله أكبر إنها واثقة مطمئنة راضية مستكينة مادام دينها محفوظاً عليها حتى ولو صب البلاء عليها صباً . بل إن إزهاق الروح مستطاب في سبيل الله على أي جنب كان في الله المصرع . الإسلام منبع الرضاء والضياء ومصدر السعادة والإهتداء .
ومذاق الحلاوة الإيمانية الثالث : الرضا بمحمد صلى الله علية وسلم رسولاً نبياً ، محمد الناصح الأمين والرحمة المهداة والأسوة الحسنة فلا ينازعه بشر في طاعته ، ولايزاحمه أحد في حكم : ( فلا وربك لايؤمنون حتى يحكموك في ماشجر بينهم ) ( النساء : 65 ) .
الرضا بمحمد صلى الله عليه وسلم أهتداء وأقتداء وبسنته أستضاء وعملاً .
إذا صح الإيمان ووقر في القلب فاض على حياة ، فإذا مشى المؤمن على الأرض مشى سوياً ، وإذا سار سار تعباً ، ريحانة طيبة الشذى ، وشامة ساطعة الضياء . حركاته وسكناته إيمانية مستكينة : ( فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي عليها ، ولئن سألني لأعطينه ، ولئن أستعاذني لأعيذنه ) من ذاق حلاوة الإيمان طاب عيشه ، وعرف طريقه ، ومن عرف طريقه سار على بصيرة ، ومن سار على بصيرة نال الرضا وبلغ المقصد . نعم يمضي في سبيله لا يبالي بما يلقى ، فبصره وفكره متعلق بما هو اسمى وأرقى ( ياأيتها النفس المطمئنة أرجعي إلى ربك راضية مرضية ) ( الفجر : 27، 28 ) ( أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه ) ( الزمر : 22 ) .
هل رأيت – رحمك الله – زياً ومنظراً أحسن وأجمل من سمة الصالحين ؟! وهل رأيت – وفقك الله – تعباً ونصباً ألذ من نعاس المجتهدين ؟ وهل شاهدت – حفظك الله – ماءً صافياً أرق وأصفى من دموع النادمين على تقصيرهم والمتأسفين ؟ ! وهل رأيت – رعاك الله – جنة في الدنيا أمتع وأطيب من جنة المؤمن وهو في محراب المتعبدين ؟ إنه ظمأ الهواجر ومجافاة المضاجع فيالذة عيش المستأنسين هذه حلاوتهم في التعبد التحنث .
أما حلاوتهم في سبح الدنيا وكدها وكدحها ، فتلك عندهم حلاوة إيمانية تملأ الجوانح بأقدار الله في الحياة . إطمئنان بما تجري به المقادير ، رضا يسكن في الخواطر فيقبل المؤمن على دنياه مطمئناً هانئاً سعيداً راضياً . مهما أختلفت عليه الظروف وتقلبت به الأحوال والصروف . لاييأس على مافات ولايفرح بطراً بما حصل . إيمان ورضا مقرون بتوكل وثبات ، يعتبر بما مضى ويحتاط للمستقبل وبأخذ بالأسباب ولايتسخط على قضاء الله ، ولايتقاعس عن العمل ، يستفرغ جهده من غير قلق ، شعارة ودثاره : ( وماتوفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب ) ( هود : 88 ) . موقن أن ( ما أصابه لم يكن ليخطئه . وما أخطئه لم يكن ليصيبه ) . لو أجتمع أهل الأرض والسموات على نفعه بغير ماكتب له فلن يستطيعوا ، ولو أجتمعوا على منعه عما قدر له فلن يبلغوا ، لايهلك نفسه تحسراً ، ولايستسلم للخيبة والخذلان ، معاذ الله أن يتلمس الطمأنينه في القعود والذلة والتخاذل والكسل ، بل كل مسارات الحياة ومسالكها عنده عمل وبلاء وخير وعدل وميدان شريف للمسابقات الشريفة . جهاد ومجاهدة في رباطة جأش ، وتوكل وصبر ، ظروف الحياة وابتلاءاتها لاتكدر له صفاء ولاتزعزع له صبراً ( عجباً لأمر المؤمن أمره كله خير إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له ، ولا يكون ذلك إلا لمؤمن ) بالإيمان الراسخ يتحرر المؤمن من الخوف والجبن والجزع والضجر : ( قل لن لايصيبنا إلا ماكتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) ( التوبة : 51 ) . ( لامانع لما أعطى ربنا ، ولا معطي لما منع ، ولاينفع ذا الجد منه الجد ) .
و ( ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ) ( الإسراء : 30 ) .
حلاوة ورضا تقوم في حياة الكفاح على هذه الأصول والمبادئ ، إذا أعطي تقبل وشكر ، وإذا منع رضي وصبر ، وإذا أمر أئتمر وإذا نهي أزدجر ، وإذا أذنب أستغفر .
بهذا الإيمان وبهذا المذاق ينفك المؤمن من ربقة الهوى ونزعات النفس الأمارة بالسوء وهمزات الشياطين وفتن الدنيا بنسائها ومالها وقناطيرها ومراكبها وسائر مشتهياتها وزينتها ، سعادة وحلاوة ملؤها القناعة . سعادة وحلاوة يتباعد بها عن الشح والتقتير والبخل والإمساك ، وينطلق في معاني الكرم والإيثار والعطاء .
إن في حلاوة الإيمان ترطيباً لجفاف المادة الطاغية ، وحداً من غلواء الجشع والجزع ، وغرساً لخلال البر والمرحمة ، ومن ثم تتنزل السكينة على القلوب وتغشى الرحمة النفوس : ( أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون ) ( البقرة : 157 ) ( أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وايدهم بروح منه ) ( المجادلة : 22 ) . ( فمن اتبع هداي فلا يضل ولايشقى ) ( طه : 123 ) . ( من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ماكانوا يعملون ) ( النحل : 97 )