منهج البحث والتفكير الإسلامي

منهج البحث أو الطريقة التي يتبعها الباحث في تنظيم وإجراء بحوثه للحصول على النتائج التي يستهدف الوصول إليها ببحثه، تؤثّر تأثيراً مباشراً على النتائج والإنتاج العلميين، فبقدر ما يكون البحث قائماً على أساس منهج سليم، ومناسب للموضوع الذي يبحث فيه، يكون البحث منتجاً، وموصلاً إلى نتائج صحيحة سليمة من الناحية العلمية، ومساعداً على اكتشاف القواعد والأسس العلمية وصياغتها.
لقد عرّف منهج البحث العلمي بأنّه: ( الطريقة التي يتبعها العلماء في وضع قواعد العلم، وفي استنتاج معارفه على ضوء تلك القواعد) (31).
وللمنهج أثره ودوره الكبير في اصالة الفكر وسلامة الأفكار والمعلومات والنظريات والمفاهيم المستنتجة. فما لم يكن منهج البحث والتفكير إسلامياً او موافقاً لاتجاهه، فان النتائج لن تكون صحيحة ومنسجمة مع روح الإسلام.
إنّ مناهج البحث في العلوم والمعارف بصورة عامة تقسم بطبيعتها إلى قسمين هما:
1ـ المناهج العامة ( المناهج المنطقية): وهي الطرق العامة للبحث العلمي التي تشمل كل العلوم والمعارف البشرية.
2 ـ المناهج الخاصة ( المناهج الفنية): وهي الطرق الخاصة للبحث العلمي التي تختص بعلم معين، كالتاريخ والفيزياء والعقيدة والفلسفة وأصول الفقه. الخ.
إنّ من الواضح أن هناك مبادئ أساسية تشترك فيها العلوم والمعارف البشرية جميعها، وهي القواعد المنطقية الكلية التي يدرسها علم المنطق. لذا عرّف المنطق بأنّه: ( علم تُدرّس فيه القوانين العامة للتفكير السليم).
ومن الأساسيات في منهج التفكير العلمي المشترك بين كافة البحوث والدراسات العلمية هو الانطلاق من مبدأ التوقف في كل قضية حتى تثبت صحتها بالدليل، والتسليم بمبدأ السببية والتعليل القائم على أساس ان التفكير البشري بطبيعته يجري على أسس وقوانين منطقية.
وحينما نستخدم تلك القوانين _ قوانين المنطق أو التفكير السليم _ في البحث العلمي، وفي كل علم ومجال من مجالات التفكير، فستجري البحوث على أسس صحيحة وتعطي نتائج صحيحة.
كما أنّ من الواضح أيضاً أن لكل علم ومعرفة من العلوم والمعارف البشرية منهج بحث خاصاً به ومناسباً له، يستخدمه العلماء والباحثون في ذلك الموضوع، فمنهج البحث في العلوم المادية، كالطب والفيزياء والكيمياء يختلف في بعض جوانبه عن منهج البحث في التاريخ وعلم الاجتماع والفلسفة والعقيدة الخ.
ونحن عندما نبحث في الفكر الإسلامي، كالعقيدة والفقه وأصوله والتفسير والسياسة والاقتصاد والاجتماع وعلم الأخلاق والتاريخ والرواية، لابد وان نحدد الأسس العلمية، لمنهج البحث لنصل إلى نتائج علمية دقيقة من الناحية العلمية وسليمة من حيث صفتها الإسلامية، أي لابد من أن نحقق في البحوث والنظريات والدراسات الإسلامية جانبين هما:
1 ـ العلمية والواقعية.
2 ـ الالتزام والأصالة الإسلاميان.
وبعد هذا التقديم نعرف أن هناك أسساً علمية عامة تشترك فيها البحوث والدراسات والنظريات العلمية كافة؛ المادية منها كالفيزياء والطب والفلك والكيمياء، أو الإنسانية كالاقتصاد والأخلاق والفلسفة والعقيدة والاجتماع والفقه والقانون والتاريخ ... الخ.
فكل تلك العلوم تشترك في مبادئ ومسلّمات أساسية، كالتسليم بالسببية وقانون العلية، وكالتسليم بعدم التناقض، وكالانطلاق من مبدأ التوقف في كل قضية حتى تثبت صحتها بالدليل ... الخ.
فالعلوم والمعارف جميعها تنطلق من تلك المسلّمات والأسس، كبحوث الفيزياء والإيمان بالله والدراسات التاريخية والفقهية والهندسية والطبية... الخ.وقد أكد هذه الحقيقة جملة من العلماء والباحثين في علوم الطبيعة والعلوم الإلهية والإنسانية على حد سواء.
ننقل من هذه الآراء:
(حقيقة ان رجل العلوم يستخدم فكرة الآلية بوصفها إحدى وسائله أو أدواته، فهو يتكلم مثلاً عن آلية الجسم، ولكنه يجري بحوثه على أساس مبدأ السببية، مبدأ السبب والنتيجة، على أساس وحدة الكون وما يسوده من القانون والنظام، وهو كأي أنسان آخر يتخذ كل قرار، ويفكر في كل أمر على أساس مبدأ السببية) (32).(وليس من العجيب أن تجد أن قانون السببية الذي يعد أساساً في فهم ظواهر الكون المادي، والذي يتحكم في النبات والحيوان، والذي يتكون العقل الإنساني بمقتضاه، هو ذاته القانون الذي نستطيع أن نصل به إلى إدراك قيم القانون الأخلاقي الطبيعي القائم على المحبة والعدل والرحمة والحقوق والمسؤوليات والجمال، بل هو ذاته القانون الذي يوصلنا إلى إدراك وجود الله...) (33). ( أحب أن ألفت الأنظار إلى طريقة الأستدلال التي نستخدمها في علوم الرياضة، فمن المعروف في علم الهندسة، أنّنا نستطيع أن نبني كثيراً من النظريات على عدد قليل من البديهيات، أو تلك الفروض التي نسلّم بها، ونقبلها دون مناقشة أو جدال حول صحتها، فالعلماء يسلمون أولاً بالبديهيات، ثم يتتبعون مقتضياتها، أو النتائج التي تترتب عليها، وعند إثبات نظرية نجد أن برهانها يعتمد في النهاية على مسلمات أو أمور بديهية، وكذلك الحال فيما يتعلق بوجود الله، فوجوده تعالى أمر بديهي من الوجهة الفلسفية، والأستدلال بالأشياء على وجود الله ـ كما في الاثبات الهندسي ـ لا يرمي إلى إثبات البديهيات، ولكنه يبدأ بها، فإذا كان هنالك اتفاق بين هذه البديهية، وبين ما نشاهده من حقائق هذا الكون ونظامه يعد دليلاً على صحّة البديهية التي اخترناها...) (34).
(وهذه الحقيقة هي أن الأسس المنطقية التي تقوم عليها كل الاستدلالات العلمية المستمدة من الملاحظة والتجربة،هي نفس الأسس المنطقية التي يقوم عليها الاستدلال على إثبات الصانع المدبّر لهذا العالم عن طريق ما يتصف به العالم من مظاهر الحكمة والتدبير،فان هذا الاستدلال كأي استدلال علمي آخر ـ استقرائي بطبيعته ـ وتطبيق للطريقة العامة التي حددناها للدليل الاستقرائي.
فالإنسان بين أمرين: فهو إما أن يرفض الاستدلال العلمي ككل، وإما ان يقبل الاستدلال العلمي، ويعطي الاستدلال الاستقرائي على إثبات الصانع نفس القيمة التي يمنحها للاستدلال العلمي. وهكذا نبرهن على أن العلم والإيمان مرتبطان في أساسهما المنطقي الاستقرائي، ولا يمكن ـ من وجهة النظر المنطقية للاستقراء ـ الفصل بينهما)(35).
وهكذا نفهم أن منهج البحث والتفكير الإسلامي في شتّى المجالات يشترك مع العلوم الطبيعية والمادية في الأسس العامة ويبتني عليها.
فالباحث الإسلامي الذي يستهدف دراسة العقيدة الإسلامية أو اكتشاف نظرية في الأخلاق او الاقتصاد والفنّ والاجتماع والسياسة وعلم النفس والسلوك... الخ، عليه أن يسير:
1 ـ وفق الأسس العامة لمنهج البحث المنطقي.
2 ـ وفق الأسس الخاصة لذلك العلم وتلك المعرفة، كالتفسير والتاريخ والرواية والعقيدة.
فبالتنسيق بين الأسس العامة والخاصة، يستطيع أن يوفر لنفسه منهجاً سليماً للبحث والتحقيق العلمي، وبناء النظرية الإسلامية والفكر الإسلامي المستنتج على أسس علمية صحيحة.
إن منهج البحث والتفكير الإسلامي يبتني على الانطلاق من اساسين اثنين هما:
1ـ البديهات العقلية المسلّم بها.
2 ـ الأسس والكليات الإسلامية الثابتة لديه، كالآيات القرآنية أو السنة الصحيحة ... الخ.
إن المفكر الإسلامي والباحث في العلوم والمعارف الإنسانية على أسس إسلامية يجد أمامه المجالات والموضوعات الآتية:
1 ـ دراسة الواقع الإنساني والاجتماعي وما يحتاجه الإنسان في حياته الفردية والاجتماعية.
2 ـ الدين ( القرآن والسنة والاستنباط منهما)، وعليه أن يقيم دراسته وأبحاثه ونظرياته على أساس الرؤية الإسلامية الواردة في القرآن والسنة المعبرة عن الحقيقة العلمية للنظام والحياة الإنسانية، فبالتأمل في هذه الحقائق ودراستها، نجد أن الدين مجموعة من القوانين والأفكار والقيم والمفاهيم التي تنظم اتجاه التفكير والنفس والمجتمع، وتوجّه حركتها ونشاطاتها المختلفة.
إنّ الأفكار والنظريات والدراسات الإسلامية المتعلقة بالواقع الإنساني والاجتماعي كلّها تقع في دائرة الدين الإسلامي، وعلى ضوء الأسس والمقررات الفكرية التي يقرّرها هذا الدين العظيم.
وقد أسس علماء الإسلام المناهج العلمية، وطرق البحث والتفكير الموصلة إلى النتائج والأفكار الإسلامية الملتزمة.
وقد استخدم العلماء منهجي الاستقراء والقياس كأداة للاستنباط واكتشاف الأفكار والنتائج بشكل واسع ودقيق. ومن الجدير بالذكر أن هذين المنهجين ( الاستقراء والقياس ) هما المنهجان المتّبعان في العلوم والمعارف المادية والإنسانية كلّها.
وفيما يلي نذكر أمثلة تطبيقية لاستخدام الباحث والمفكر الإسلاميين منهجي الاستقراء والقياس للحصول على أفكار ومفاهيم إسلامية:
1 ـ الاستقراء القائم على اساس الملاحظة والتجربة.
2 ـ اكتشاف النتيجة العلمية والفكرية ( اكتشاف القانون العام).
3 ـ وبعد أن تتم عملية اكتشاف القانون العام تبدأ مرحلة استخدام المنهج القياسي، والمنهج القياسي هو عبارة عن تطبيق القانون العام على الحالات الجزئية المتماثلة.
فالخطوة الأولى هي الاستقراء، وقد مرّ علينا آنفاً كيف أن الاستقراء هو الأساس في منهج إثبات وجود الله سبحانه، القضية الأساسية في الفكر الإسلامي:
1 _ لو أخذنا مسألة إثبات وجود الله لوجدنا هذا الاثبات يعتمد على استقراء جزئيات الكون والموجودات عن طريق الملاحظة والتجربة، وهذا الاستقراء هو الذي يقود إلى اكتشاف نتيجة علمية أساسية وهي:( قانون السببية)، وبتطبيق القياس _ أي قياس الكون والعالم، ككل على جزئياته _ نصل إلى تفسير نشوء الكون والعالم وفق هذا القانون الكلي ( قانون السببية)، فنثبت بذلك أن للعالم والكون سبباً أول تنتهي إليه الأسباب وهو ( الله سبحانه).
2 _ وكما يستخدم منهجا الاستقراء والقياس في العقيدة والعلوم العقلية، يستخدمان كذلك في دراسات ونظريات العلوم الاقتصادية والنفس واكتشاف القوانين والعلوم والمعارف الاجتماعية والنفسية لتفسير المجتمع والتاريخ والسلوك البشري... الخ.
فإذا أردنا مثلاً أن نكتشف قوانين علم الاقتصاد السياسي، ونفسر الظواهر الاقتصادية في المجتمع الإسلامي ( الذي يطبق النظام الإسلامي) كقانون العلاقة بين العرض والطلب، والإنتاج والأسعار والأجور والبطالة...الخ، فعلينا أن ندرس هذه الظواهر الاقتصادية في المجتمع الإسلامي، الذي يظبق نظريات الاقتصاد الإسلامي ذلك لأنّه لا يمكن أن نكتشف قوانين علم الاقتصاد السياسي الإسلامي إلاّ في ظل التطبيق الإسلامي، لأنّها إفراز لوضع المجتمع بصيغته العامة ، الأخلاق والأحكام الإسلامية _ أي يعيش في ظلّ النظام الإسلامي _ فتتابع حركة السوق والمصانع وعلاقة العمال بربّ العمل وقضية الإنتاج والأسعار والبطالة... الخ، وندرسها على أساس الملاحظة والتجربة اليومية، عن طريق متابعة جزئياتها لنتمكن من اكتشاف القانون ثمّ تعميمه عن طريق ( القياس )، وبالتالي نحصل على القوانين المتعلقة بهذه الموضوعات، ونحدد قوانين علم الاقتصاد السياسي الإسلامي من خلال تطبيق منهجي الاستقراء والقياس العلميين.
3 _ وإذا أردنا أن ندرس المجتمع الإسلامي لنؤسس نظرية لعلم الاجتماع الإسلامي، وكيفية تفسير المجتمع والنشاطات الاجتماعية، مثلاً إذا أردنا أن نكتشف قانون التغيير والتحول الاجتماعي والحضاري والنمو والتطور والسقوط والاضمحلال في المجتمع والحضارات من وجهة النظر الإسلامية، فانّ الاستقراء القائم على أساس الملاحظة ودراسة الحوادث الاجتماعية الجزئية والفردية والجماعية هي الطريق إلى اكتشاف قوانين علم الاجتماع.
ففي مثل هذه المحاولة الاكتشافية علينا أن ندرس الوضعية الاجتماعية القائمة في المجتمع الذي يعيش في ظل تطبيق النظم الاجتماعية الإسلامية، وتحليل بنية ذلك المجتمع وعناصر تكوينه وتشكيله وظواهره وأنماط الحياة والعلاقات فيه، بملاحظة جزئيات الحوادث والممارسات والظواهر والعلاقات الاجتماعية، اعتماداً _ كما أوضحنا _ على منهج الاستقراء القائم على أساس الملاحظة والتجربة والاحصاء، ثم الاستنباط والاستنتاج، فالقياس والتعميم، وصياغة هيكل وقواعد النظرية في علم الاجتماع الإسلامي على أساس الرؤى والمفاهيم الإسلامية.

  • Currently 74/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
23 تصويتات / 4271 مشاهدة
نشرت فى 17 يناير 2011 بواسطة ahmedkordy

أحمد السيد كردي

ahmedkordy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

29,719,164

أحمد السيد كردي

موقع أحمد السيد كردي يرحب بزواره الكرام free counters