عدنان باحارث
إن البيئة الاجتماعية –مع كونها ضرورة لنمو الاستعدادات الوراثية- فإنها –مع ذلك- أهم العوامل المؤثرة في تشكيل الشخصية الإنسانية للفرد، حتى إنها قد تكون –عند البعض- العامل الوحيد المؤثر في شخصية الإنسان وكيانه، ومن المعلوم أن السمات الشخصية هي أكثر السمات الإنسانية تأثراً بالبيئة، والإنسان لا يستطيع أن يكوِّن شخصيته المستقلة، وذاته الخاصة إلا من خلال الاتحاد مع الجماعة، والوعي المستمر بها حتى يكمل له بناء نفسه، فالآخرون "هم الذين يسهمون في إعطائه تعريفاً لذاته، كما أنهم المرآة التي تنعكس فيها صورة هذه الذات"، فيقوم الفرد من خلال تفاعله الاجتماعي بتشرُّب "كل ما يجده من الآخرين؛ ليستخلص من هذا كله مفهوماً للذات".
إن شخصية الفرد الذاتية، والدور الخاص بكل نوع من نوعي الإنسان –الذكر والأنثى- يتحدد مع الوراثة من خلال البيئة الخاصة بكل جنس، فتنمو الذوات، وتُبنى الشخصيات على النَّمط الذي يرسمه المجتمع لطبيعة كل جنس، فالإنسان بنوعيه لا يعدو أن يكون نتاجاً لهذه التفاعلات الاجتماعية والثقافية التي يعيشها في البيئة من حوله، فالوسط الرجالي والنسائي يحدد للفتى وللفتاة من خلال التفاعل الاجتماعي، والاستعداد البيولوجي: ذاتهما، وشخصيتهما الذكورية والأنثوية المتميِّزتين.
إن الفرد الإنساني بطبعه اجتماعي، ولا وجود له بذاته دون غيره، فإن الإنسانية لا تُعطى للفرد – ذكراً كان أو أنثى- لمجرد كونه من البشر دون أن يكون نموه ضمن جماعة إنسانية، يقتبس منها حقيقته وطبيعته، فالمعالم الإنسانية التي يتفرَّد بها الكائن البشري عن سائر الحيوان: لا يمكن أن تظهر بعيداً عن الاجتماع الإنساني، فصفاته البشرية، واستمرار وجوده في الحياة: كلاهما مرهون بتفاعله مع الآخرين في وسط جماعي، والإنسان "بعكس الحيوان غرائزه محدودة، والهداية التكوينية لديه لا تستجيب لكل جوانب حياته، ولهذا السبب، ولكي يستمر في الحياة، يحتاج إلى إرث اجتماعي".
كما أن الإبقاء على النموذج المكوِّن لمجتمع ما: لا يتحقق إلا من خلال تربية اجتماعية متوارثة، يمارسها الأفراد المتقدمون تجاه الأفراد الصغار اللاحقين، فتكون الحاجة الإنسانية متبادلة بين الفرد والجماعة في صورة متوارثة متلاحقة عبر الأجيال، يقول الإمام الشاطبي ~ٍٍِِ: "فإن الواحد لا يقدر على إصلاح نفسه، والقيام بجميع أهله، فضلاً عن أن يقوم بقبيلته… فجعل الله الخلق خلائف في إقامة الضروريات العامة"، فلا بد للإنسان من وسط اجتماعي يحيا فيه، ويتفاعل مع متغيراته المختلفة.
وكما أن الطبيعة الإنسانية –عند الذكر والأنثى- لا تظهر إلا في المجتمع الإنساني: فإن القدرات والمواهب البيولوجية الموروثة هي الأخرى لا يمكن ظهورها وممارستها إلا من خلال التفاعل الاجتماعي بمتغيراته المتنوعة، ورغم أن الوراثة تشكل عاملاً مهماً في كيان الإنسان، إلا أن البيئة الاجتماعية قد تكون أهم منها، وأعمق في تأثيرها وسيطرتها على الإنسان؛ فإن "جميع الصفات الحيوانية تنتقل بالوراثة، إلا أن إتاحة الفرصة لهذه الصفات حتى تظهر: مسألة تتوقف على البيئة، وكلما كانت الوراثة تنطوي على صفات ممتازة وجيدة: ازداد عامل ملاءمة البيئة أهمية".
إن السلوك الإنساني في جوانبه المختلفة ينتج عن تفاعل عاملين: العامل البيولوجي الموروث، والعامل الاجتماعي التربوي، فعن هذين العاملين، ومن خلال تفاعلهما: يتكون سلوك الإنسان الاجتماعي، فبدون "الفرد البيولوجي لا يمكن أن يكون هناك سلوك، ومن ناحية أخرى لا يمكن أن يتصف هذا السلوك بالصفة الاجتماعية دون وجود أشخاص آخرين يتفاعل معهم هذا الفرد البيولوجي"، فاللغة –مثلاً- مع كونها استعداداً فطرياً بيولوجياً، وخاصية إنسانية من الدرجة الأولى: إلا أن الفرد مهما بلغت قدراته لا يمكن أن يكتشفها وحده إلا أن يقتبسها من وسط اجتماعي، والضحك أيضاً – الذي يُعد من خصائص الإنسان- مع كونه هو الآخر مرتبطاً باستعداد بيولوجي: إلا أنه لا يحصل إلا في بيئة إنسانية متفاعلة، فالبيئة الاجتماعية هي العامل الأساس الذي يسود كل العوامل الأخرى المؤثرة في السلوك الإنساني، وهي الميدان الوحيد لنمو القدرات والاستعدادات الوراثية عند الإنسان، فملكات الإنسان ومواهبه الموروثة لا تنمو، ولا تظهر إلا في البيئة الاجتماعية.
لما كانت الأطر المرجعية ضرورية لتقويم سلوك الإنسان في ضوئها فإن تكوين هذه الأطر لا يتحقق له في معزل عن البيئة الاجتماعية من حوله فهي "الأداة الموصلة إلى تثبيت المفاهيم الإسلامية، وتنشئة الأفراد عليها… حتى ينطبعوا بانطباعاتها، ويكونوا صدى ذاتياً للتفاعل معها، والتشرب بها"، فلا بدَّ أن يكون سلوك المجتمع المسلم بأفراده ومؤسساته صورة واقعية صادقة للمفاهيم والتصورات الأخلاقية المنبثقة عن هذه الأطر المرجعية، حتى تتهيأ البيئة الصالحة لنمو الشخصية الإسلامية السوية.
والإنسان في التصور الإسلامي "لا يكون شخصية إسلامية، ولا يحقق استخلافه المطلوب إلا في مجتمع إسلامي ذي كيان سياسي فاعل؛ لأن التطبيق الكامل لدلالات النصوص لا يتأتى للفرد إلا إذا كان في جماعة إسلامية تتبنى الإسلام طريقة في الحياة، وفكراً منهجياً تُربي على أساسه الناشئ، وتخاطب به المجتمعات الأخرى"، فمن العسير تصور وجود اتجاه خالص نقي من الانحرافات السلوكية" عند فرد يعيش في مجتمع تكتنفه المتناقضات والصراعات في القيم والأفكار"، وهذا يصدق على الإناث بصورة أكبر؛ إذ هن أكثر تأثراً بالمتغيرات الاجتماعية المختلفة من الرجال.
ومع أن بذور الأخلاق والقيم مبثوثة في كيان الإنسان، والوراثة تمدُّهُ بالمادة الخام من الغرائز، والإمكانات، والميول المختلفة: فإن تنمية هذه الاستعدادات الفطرية ، وضبط توجهها مرتبطة بالدرجة الأولى بالبيئة الصالحة المناسبة، التي تساعدها على النمو والازدهار، ويجد فيها المتربي مجالاً خصباً للممارسة والتطبيق، ويشاهد عن كثب تجسُّد المفاهيم الأخلاقية في السلوك الاجتماعي من حوله، فلا يكون المجتمع بسلوك أفراده فتنة للشباب المتربي، بحيث لا يجدون متنفساً كافياً في الحياة الاجتماعية لممارسة المفاهيم الإسلامية الصحيحة؛ فالضغوط الاقتصادية الشديدة التي يتعرَّض لها بعض أفراد المجتمع: تجعل من العسير عليهم التمسك بالقيم الاقتصادية الإيجابية التي يؤمنون بها، كما أن البذل والعطاء، والحرص على شعور الآخرين: لا ينبعث من الفرد تلقائياً؛ بل يتعلمه من خلال "حرص الآخرين على شعوره، واهتمامهم بشأنه"، وهكذا السلوك الإنساني صورة تعكس الواقع الاجتماعي، وتعبِّر بصدق عن مدى توافق البيئة الاجتماعية مع معايير الأطر الأخلاقية التي يؤمن بها المجتمع.