موضوع التنمية موضوع حديث ارتبط بالتجارب الاشتراكية في العالم الثالث علي الرغم من أنه كان مفهوما سابقا علي ذلك في النظم الرأسمالية والشيوعية علي حد سواء. وتداخل مع مفاهيم النهضة والتقدم والإصلاح والإحياء والتغير الاجتماعي والنمو. ولكل لفظ دلالته وسياقه. فالنهضة تعني الانتقال من مرحلة تاريخية إلي مرحلة أخري، وهو ما غلب علي الثقافة العربية الحديثة منذ القرن الماضي عندما يشار إلي فجر النهضة العربية الحديثة أو الفكر العربي في معركة النهضة. والتطور يشير إلي التغير علي مستوي الأحياء والعلوم البيولوجية كما هو الحال في نظرية التطور في علم الأحياء والطبيعة الحية وانتقالها بعد ذلك إلي علم الاجتماع كما هو الحال في الداروينية الاجتماعية، وتركز علي التواصل بين المرحلتين أكثر مما تركز علي الانقطاع. والتقدم لفظ يفضله الماركسيون ويعني التقدم الاجتماعي والتاريخي للنظم السياسية ومراحل التاريخ.


والإصلاح لفظ يفضله رواد الإصلاح الديني ويعنون به التغير في فهم العقيدة والشريعة فهما أكثر عقلانية وحرية دفاعا عن مصالح الناس. والإحياء مصطلح أصبح مستعملا في الأدب العربي الحديث لوصف مدرسة إحياء القصيدة العربية القديمة.التغير الاجتماعي هو التعبير الأثير لدي الاجتماعيين مع التركيز علي التنمية البشرية. والنمو مصطلح في الاقتصاد ويعني زيادة الإنتاج بصرف النظر عن البشر. وهو مفهوم أضيق من مفهوم التنمية الذي قد يشمل معاني هذه المصطلحات جميعها، تنمية الموارد وتنمية البشر.
وربط الإسلام بالتنمية هو محاولة كما هي العادة في الفكر العربي المعاصر لربط القديم بالجديد وإيجاد وحدة عضوية بين الموروث والوافد. وهو ما يؤكده حرف العطف (واو).


فالإسلام موروث من اجتهادات القدماء، والتنمية معروفة من نقل المحدثين، نقلا بنقل، مع اختلاف جهة النقل فحسب. والسؤال هو: ما الصلة بين هذين المصدرين للمعرفة؟ هل يقدمان معرفتين مستقلتين، مختلفتين متباعدتين أو متناقضتين أم أنهما يقدمان معرفتين متداخلتين متشابهتين متقاربتين وربما متماثلتين؟ وربما تكون المعرفتان متشابهتين من جانب، مختلفتين من جانب آخر كما هو الحال بين أي شيئين للمقارنة بينهما وإلا لما كان هناك داع لتفرد الأشياء وتمايز بعضها عن البعض الآخر حتي بين المترادفات في اللغة، والشبيهين بين البشر، والمتماثلين في الطبيعة.


كما تدل واو العطف بين الإسلام والتنمية علي المقارنة بين شيئين متخارجين، وحدتين موضوعتين والمقارن بينهما طرف ثالث محايد يرصد جوانب التشابه والاختلاف بينهما. وهو أمر مستحيل نظرا لاستحالة وجود الباحث المحايد الذي ينظر من علٍ وبتجرد تام علي موضوعين في آن واحد هما في الوقت نفسه جزء منه، الإسلام والتنمية. وقد يميل إلي الإسلام أكثر مما يميل إلي التنمية إذا كان سلفي الاتجاه. وقد يميل إلي التنمية المعاصرة أكثر مما يميل إلي الإسلام إذا كان عصري الاتجاه. وقد يميل إلي الجمع بين الاثنين، يقرأ الإسلام في أدبيات التنمية، ويؤول أدبيات التنمية من خلال الإسلام، إذا كان تحديثي الاتجاه. يجمع بين الاثنين علي نحو انتقائي دفاعي تقريظي وعظي. كما يستحيل تخارج موضوعين نظرا لأن منطق الهوية والاختلاف ينظم الأشياء، ويعم الكون، وتحتمه طبيعة الذهن وبنية العقل والقياس.


وقد تعني واو العطف، وهو ما يحدث بالفعل، قراءة طرف من خلال طرف آخر، قراءة الإسلام من منظور التنمية، وهو ما لا يمكن نفسيا وثقافيا نظرا لأن الإسلام وهو الموروث أقرب إلي ذهن القارئ من التنمية وهو الوافد. وقد يلعب الموروث لا شعوريا دور الأصل، والوافد دور الفرع بحثا عن الأصالة إذا ما كان الباحث إسلامي الاتجاه. لذلك لم يبق إلا قراءة التنمية من منظور الإسلام، وهو الأقرب نظرا لأن لثقافة الأنا الأولوية علي ثقافة الآخر، فهي الأصل وهو الفرع وفقا للتقريب. وحتي لو كان الباحث عالما موضوعيا أقرب إلي البحث عن الأشياء ذاتها بصرف النظر عن مصادرها المعرفية فإنه يحاول الحفر في الموروث لبحث مقومات التنمية أكثر مما يتجه نحو الوافد لنقله ونقده من أجل تجاوزه. إذ يصعب التخلي عن الوافد باعتباره ثقافة العصر والرؤية التي من خلالها يتم الحفر في الموروث. فالذهن لا يعمل إلا من خلال تصورات ورؤي يختلط فيها القديم بالجديد في فهم العصر.

تفسيرات واجتهادات

والآن: هل يمكن الحديث عن الإسلام ككل؟ ومن أي مصدر يؤخذ الإسلام؟ هل من نصوصه الأولي، الكتاب والسنة وقد تعددت التفسيرات والاجتهادات فيهما عبر العصور؟ هل من العلوم الإسلامية العقلية النقلية القديمة، الكلام والأصول والفلسفة والتصوف؟ ولكل علم نظراته التي تتعلق بموضوع التنمية مثل الآجال والأرزاق والأسعار والفقر والغني في علم الكلام، وحقوق الانسان والحاجات الأساسية والمصالح العامة في المقاصد الشرعية في علم أصول الفقه، والسياسات المدنية عند الفارابي، والرقي الروحي من خلال الرياضيات والمجاهدات عند الصوفية. هل يمكن الاعتماد علي العلوم النقلية الخالصة كالقرآن والحديث والتفسير والسيرة والفقه وهناك نظرات في كل علم تتعلق بموضوع التنمية، آيات القرآن والأحاديث النبوية الخاصة بالزراعة والأرض والماء والموارد والمعادن، ونظرات المفسرين في خلافة الانسان علي الأرض والسعي والكد والكدح والعمل والرزق، وحياة الرسول كنموذج إرشادي للزراعة والتجارة والصناعة، والفقه باعتباره تنظيرا للمعاملات من اجارة ومزارعة وصيد وذبح وغنائم وخراج وقضاء وأوجه الصرف من بيت المال؟ هل يمكن الاعتماد علي العلوم الانسانية القديمة، اللغة والأدب والجغرافيا والتاريخ، وبها أيضا نظريات تتعلق بالتنمية خاصة التحليل اللغوي الاشتقاقي للألفاظ وما زخر به الأدب العربي من حديث عن الحيوان والنبات والمعادن، وتصورات الأرض والطبيعة في الجغرافيا، وما تمد به الروايات من قدرة القدماء علي تنمية الموارد وطرق الزراعة والري ورفع المياه وإن لم تظهر التنمية كمفهوم نظري؟

التنمية ككل

وهل يمكن الحديث عن التنمية ككل؟ هناك مدارس عديدة في التنمية وأنواعها والتصورات التي تقوم عليها مثل التطورية Developmentalism التي تقوم عليها التنمية المادية، والارتقائية التي تقوم عليها التنمية الروحية أو التقدم الذي تقوم عليه التنمية البشرية. وهناك أنواع متعددة للتنمية، اقتصادية واجتماعية وثقافية ونفسية وذهنية بين قطبين رئيسيين، التنمية الطبيعية والتنمية البشرية، تنمية الموارد وتنمية القدرات. وهناك تنمية وقتية لغرض محدود، قصيرة الأجل وتنمية مستدامة طويلة الأمد. وهناك تنمية تقوم علي الاعتماد علي الخارج في التمويل والتخطيط والإشراف، وتنمية بالاعتماد علي الذات. وهناك تنمية أوتوقراطية أو بيروقراطية، وتنمية تقوم علي المشاركة الشعبية. فأي نوع من أنواع التنمية تقترن بالإسلام؟


وكما أن هذه الأنواع للتنمية لا تخلو من أيديولوجيات، بين الاشتراكية والرأسمالية، الوطنية والكوكبية، الأقليمية والعولمة كذلك لا يخلو فهم الإسلام من تيارات اعتزالية أو أشعرية في العقيدة، عقلية أو اشتراكية في الفلسفة، حنفية أو شافعية أو مالكية في الفقه، وسلبية أو ايجابية في التصوف، إسلام في صالح الحكام، إسلام فقهاء الحيض والنفاس وفقهاء السلطان، وإسلام في صالح المحكومين، إسلام فقهاء الشعب والمضطهدين، فقهاء المقاومة والثورة والمعارضة والخروج علي الحاكم علي الظالم. فأي أنواع التنمية يتم عطفها علي أي مدارس الإسلام وتياراته الفكرية ومذاهبه الفقهية واتجاهاته الفلسفية وطرقه الصوفية؟ ولما كان الإسلام والتنمية معا يتعاملان مع المجتمع وطبقاته فإن كليهما يخضع لنفس البنية الاجتماعية. فالتنمية الرأسمالية مثل التفسير الرأسمالي للدين، والتنمية الاشتراكية مثل التفسير الاشتراكي للدين، والتنمية الأوتوقراطية مثل تصور فقهاء السلطان للدين، والتنمية الشعبية مثل إجماع الأمة، والتنمية الوطنية مثل الإسلام الوطني، والتنمية الدولية المتعددة الجنسيات مثل الإسلام العقائدي الشعائري الذي يتجاوز حدود الأوطان والإرادات الوطنية المستقلة للشعوب.

 

إن ايديولوجية التنمية تكرّس تناقضاً واضحاً نوعاً ما مع نمط التأريخية المقرر من جانب الأديان، وعلى العموم، من قبل الثقافات التقليدية.
إن الفكر لم يعد يكتفي "بتفسير العالم"، بل قرر تحويله: إن النظرة الواقعية والعلاقة المعاشة مع الواقع هما اللذان يتغيران.
قد يجد المسلمون الداعون إلى الحداثة أننا نبالغ في اعطاء الأهمية للخط المتشدد الذي يمثله المناضلون المنادون بالعودة إلى الجذور. ونكرر القول بأن هدفنا لم يكن درس فكر المنادين بالتكامل كفكر، بل هو استخلاص الثوابت التي تقوم عليها الشخصية الإسلامية الركيزية، من خلال الخطاب الاسلامي الأكثر فاعلية اجتماعية والأقل مدعاة للاعتراض عقائدياً.
ولتوضيح حالة مبهمة، مشوشة نذكّر بأهم التعابير أو الحدود المطروحة حالياً في مشكلة التنمية، ونحاول فيما بعد وصف العلاقات الحقوقية والعلاقات الواقعية بين الاسلام والتنمية.

 

1_ الاشكالية التنموية

إن التجربة التي عاشتها المجتمعات الأكثر تطوراً تثبت أنه انطلاقاً من حدٍ بنيوي جديد، تبدو كل النماذج التنموية، غير كافية وحتى خطرة، وقد ساعدت أزمة الطاقة أكثر من كل النظريات "العلمية" على اغناء المشاكل الانمائية. في الغرب الليبرالي، ارتبطت النماذج والممارسات التنموية، حتى الستينات، بمفاهيم القرن التاسع عشر أكثر من ارتباطها "بالنظام العالمي الجديد" الذي بُدءَ بالكلام حوله. والنماذج الاشتراكية لا تقل عجزاً _رغم فعّاليتها الكبيرة _ خصوصاً عندما يُنظَر إليها من ناحية كلفتها البشرية.
في مواجهة النموذجين الأكبرين المتزاحمين، تحاول المجتمعات الاسلامية أن تفرض "الخصوصية النوعية" وعلو المكانة "الاسلامية" التي تدمج بين المشروع الحر واحترام الملكية الخاصة، وعدالة توزيع الثروات بين الجميع (بفعل منع الفائدة) والغائية الروحانية الكامنة في كل عمل بشري (إذ كل شيء ملك لله والانسان يحمل مسؤولية الافادة من ريع الأموال التي تقع بين يديه من أجل خدمة الجماعة. هذه الرؤية النظرية، غالباً ما تعرض في أدب غزير حول موضوع: "الاسلام والاشتراكية"، "الاسلام والرأسمالية"، "العدالة في الاسلام". الخ. وتذكر نفس الآيات ونفس الأحاديث إلاّ أنه قلّما تجري المقارنة بين المبادىء المغرية حقاً، والواقع الاقتصادي المعاش في كل بلد، ولا يجري أيضاً التوغل في درس الظروف المحددة _في عالم كعالمنا الحاضر _ لامكانية وجود نظام تقوم وتستمر فيه علاقة عادلة بين حدود ثلاثة: الضغط السكاني، الموارد المتاحة، أو الممكنة، والتوزيع.

 

1_ الاسلام والتنمية

لقد احتكرت الأديان حتى الآن امتياز مراقبة سرد أحداث التاريخ. لقد حددت نظاماً للعالم وذلك بأن حددت للانسان مكانة ومسؤولياته. وقد تترجم هذا التحديد وهذا الاحتكار بمعانٍ مستقرة أسست وبنيت على جذور "اونطولوجية" أي على احساس بالطمأنينة إلى استمرارية وصلاح العمل الانساني المتمشي مع "التعاليم الإلهية".
والاسلام الذي يُقدَّمُ "كدين ودنيا" _أي بمثابة نظرية وتطبيق تاريخي _ مستهدف بصورة خاصة بالانشقاقات التي تتعمّق وتتكاثر. إن القيمين على التراث الحي يتكلمون (ولكن هل يتصرفون دوماً؟) كما لو أن الكيان المعرفي للدين المنزل الموحى به) يحتفظ، قانوناً، بمزاياه التجاوزية وبفوقيته التاريخية. وبالتالي فالقيمون يرفضون بشدة تسميتهم "دعاة الماضي" التي يطلقها بعض علماء الاجتماع عليهم، في مقابل "منظمي المستقبل". ومن أجل توضيح وضع دقيق ومغبش، من المهم إذاً تفحص علاقات الاسلام والتنمية في القانون وفي الواقع.

 

أ_العلاقات القانونية:

في المجتمعات الاسلامية التي استردّت استقلالها السياسي، نشاهد عودة إلى الممارسات وإلى النظم وإلى التجمعات الاسلامية. وأغلب الحكومات خصصت وزارة بعينها للشؤون الدينية. والاتجاه الديني المحافظ يتأكّد في كل مكان ويبرز بوضوح أكثر مما كان يفعل في زمن كان الفكر الليبرالي، العلماني المتعقلن يجد مدافعين عنه، من الدرجة الأولى، أمثال طه حسين وأحمد أمين، وسلامة موسى الخ. وننتقل بهذا، وبسهولة من النهضة الاجتماعية السياسية إلى عودة التأكيد على حقيقة ميتافيزيقية تعود أخيراً إلى حقوقها المغتصبة "بالغزو الفكري الغربي". ولا تُرفضُ المنجزاتُ الايجابية للفكر الليبرالي. ولكن يتم التركيز على النقص فيها، وعلى المثالية، وعلى السذاجة، وخصوصاً على التسويات المشبوهة مع الايديولوجية الاستعمارية التي ينادي بها المغتصبون.


إن تراجعات طه حسين وأمثاله في الخمسينات، وسكوت الكثير من المثقفين أثناء صعود الحركة الناصرية، وانتشار الكتابات "الثورية" التي لا تقل رومانطيقية واستلابية عن كتابات البورجوازيين الليبراليين من أيام "النهضة"، تدل على معطى أساسي هو: أن المجتمعات المسلمة خضعت لعنف بنيوي متزايد بفعل العوامل الداخلية والخارجية مجتمعة. إن شروط التحليل الواقعي، الجدي مع النفس، العاري من أي حسابات ايديولوجية، لهذه العوامل لم تتحقق بعد. إن مهمات التنمية الاقتصادية، كما الصراعات من أجل التحرر السياسي، تجعل الأفضلية لفضح العدو الامبريالي، على التحليل الانتقادي للتناقضات الداخلية المتراكمة منذ ثلاثين سنة.
من هذا نفهم لماذا إن العلاقات الحقوقية بين الاسلام والتنمية يجب أن تشكل بالنسبة إلى الفكر الاسلامي القائم، مجال بحث أفضل.
بالنسبة إلى المؤمن، جوهر الانسان كامن في العلاقات بين المخلوق والخالق، الطاعة والأمر، وغرور الحياة الدنيا وكمال الحياة الآخرة الخالدة هذه العلاقة تنتظم نظرياً بعلم الأصول: الأصول التي هي في أساس كل فكر، وكل قرار، وكل سلوك تاريخي يسلكه المؤمن. هذا العلم يطرح أفضلية وأسبقية علم القواعد، وعلم المنطق السليم، على التاريخ، والوحدة والاستمرارية والدلالية "للكتب"، وتنظيم العالم والتاريخ بفضل منطق التضمين، (داخل نظام المعتقدات)، والاستثناء (نظام الانكار) والتكريس والتقديس، والتسامي بالمبادرات الانسانية الأكثر ضعة.

 

ب_العلاقات الواقعية:

في كل المجتمعات المسلمة المعاصرة، يعمل عدد من المعطيات القديمة والجديدة على سيادة العلاقات الواقعية فوق العلاقات القانونية، في ما بين الدين والتنمية، وليس بالامكان اعطاء وصف دقيق لهذه المعطيات في كل مجتمع. إنما من الممكن تجميع بعض الملاحظات حول الوضع العام.
ننظر، بادئ ذي بدء، إلى الضغط الديمغرافي، لأنه يجعل دون جدوى، الجهود الأكثر تقدماً، والأكثر "ايغالاً في الاشتراكية" من أجل تحسين النوعية المادية والثقافية لحياة الطبقات الشعبية.
في مثل هذا الاطار، يؤمن الدين التقليدي وظيفة فريدة من حيث التوازن السيكولوجي الاجتماعي. ولكن بمقدار ما توظّف السلطة السياسية هذا الدين لغايات سياسية يقع الالتباس بين القصدية الروحية والغائية الايديولوجية. وينتج عندئذ تمزق فعلي في الوجدان الديني المرتبط بلغة تقليدية وببعض الطقوس التقليدية، إلاّ أنه يصرف كل حماسة في أعمال تاريخية آنية، محتملة وبالتالي منفصلة عن "تاريخ الخلاص" الذي بدونه، كما في القرآن، لا يوجد سلوك روحاني قويم.
ومن الجدير بالتوضيح الدور المتصاعد للبنية التقنية من وجهة النظر التي تهمنا. والمخططون سواء كانوا خبراء أجانب أم مسؤولين وطنيين، وكذلك المهندسون من كل اختصاص يتميزون، بتكوين تقني مثاله الأعلى ماثل في معهد ماساشوست التكنولوجي. هؤلاء "المتمسكون بالعلم" يقررون بطمأنينة تتعارض مع التواضع، ومع الشكوكية اللذين يعتريا الباحثين في مجالات العلوم الانسانية. إنهم لا يتصرفون فقط في الحاضر. إنهم يفكرون المستقبل وكأنه مجموعة اجراءات تقنية ومنتجة، حابسين الأجيال القادمة ضمن مسارات ضاغطة. والمؤرخ للاسلام، وعالم الاجتماع، والفيلسوف، واللاهوتي ليس لهم أيّ نصيب في هذه البرمجة لمصير الانسان. بل إنهم عرضة للهزء لأن أعمالهم تعتبر "غير ذات فائدة". هذا الوضع يدل عليه نجاح أيّ كتاب ينشره "رجل علم" حول المسائل الدينية: اثبات أنّ الاسلامَ يتفقُ مع العلم يُصَدقُ أكثر عندما يقوم به مهندس أو طبيب. الواقع أن "رجل العلم" المزوّد باحساس ديني، يتكلم عن الدين بحماس عفوي مثله مثل كل الذين هم بعيدون عن المعرفة التاريخية والفلسفية واللاهوتية.
إن التفوق الاجتماعي والسياسي لجماعة التكنوقراط، على أهل الفكر يتأكّد كل يوم أكثر بفعل الانشقاقات التي تتكاثر عند كل المستويات في العالم الرموزي semiotique المرتبط بالاسلام. وقلّما تدعو الضرورة للكلام عن تحول اللغات الاسلامية إلى لغات تقنية مقتبسة عن اللغات التكنولوجية الكبرى، دون أن تمرّ بالمسارات الفكرية التي تؤدي إلى اكتشاف المفهوم، وإلى لغة في الحياة اليومية تحيل إلى نواحي جزئية من واقع شامل محطم. وفي المرحلة الراهنة، إن الانشقاق الأكثر خطورة بالنسبة إلى الفكر الاسلامي هو الانشقاق الذي يتفاقم بين المقولة الدينية التقليدية المسيطرة بشكل واسع ومقولة العلوم الانسانية التي يتأخر استخدامها بفعل الحاجة إلى اعادة النظر في اللغات القومية.


لا يوجد حتى الآن في العالم الاسلامي المعاصر، فكر، يجاري الفكر الكلاسيكي، في مواجهة مشاكل العصر، وفقاً لتناسق داخلي، مع اهتمام دائم بالعمق، ومتابعة خالصة من شوائب الفائدة، ورغبة مصممة على اختراق "حقيقة الأشياء" مع احترام حق المعرفة ومصالح الجماعة بآنٍ واحد. المسلمون _كما جميع أعضاء المجتمعات المتخلفة _ يعيشون عملياً كل أنواع التيارات الوافدة، ولكنهم عاجزون، حتى الآن، عن التعبير عن تجربتهم التاريخية، بغير اللغات المتجزئة والمسهبة الزائدة: سواء كانت اللغات الكلاسيكية الاسلامية، بأشكالها المبتورة نوعاً ما، أو اللغات الايديولوجية، المقولبة في الخارج والتي قد تتناسب وتتلاءم مع أوضاع وحالات خاصة. ولا تنعدم الجهود والمحاولات من أجل تجاوز القصور الذي يحس به الجميع. ولكن المصاعب البنيوية التي وصفناها، تحد كثيراً من الجرأة، وتفشل الكثير من الانجازات.

المصدر: المنتدى العربى للموارد البشرية .
ahmedkordy

خدمات البحث العلمي 01009848570

  • Currently 80/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
26 تصويتات / 2896 مشاهدة

أحمد السيد كردي

ahmedkordy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

29,830,477

أحمد السيد كردي

موقع أحمد السيد كردي يرحب بزواره الكرام free counters