الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده، نبينا محمد وعلى آله وصحبه: أما بعد:
فمما تكثر وتتكرر الدعوة إليه في أحيان متفرقة: الدعوة لتدريب النساء على التمريض في المستشفيات، ومن كان مدركا لحاجة المستشفيات لهذا النوع من الوظائف يتبين له أن الحاجة قائمة فعلا للنساء العاملات في التمريض.
بل إن نقص الممرضات ليعد مشكلة على المستوى الدولي.
وهذا التوجه قد كثر اليوم من خلال التوسع في افتتاح المعاهد والكليات الصحية الحكومية والأهلية.
ولكن الناس وخاصة في المجتمعات الإسلامية المحافظة ما زالوا يمتنعون عن الزج ببناتهم في هذه المهنة، وهذا راجع إلى علمهم بطبيعة العمل بالمستشفيات، من جهة اختلاط الممرضات بالعاملين من
الرجال أطباء وغير أطباء، وكذلك إلزام بناتهم في كثير من الأحيان بتمريض الرجال.
وعند النظر في هذا الامتناع وأسبابه، سنجد أن الواقع الذي عليه عمل الممرضات في المستشفيات هو السبب الأوحد، والذي جعل المرء العاقل يدرك أن امتناع الفتيات وأهاليهن عن التوجه لتخصصهن في التمريض يبدو سببا وجيها في العزوف عن هذه المهنة، وذلك لما فيها من محظورات مؤسفة، وتتمثل تلك المحظورات في مشكلتين كبيرتين:
الأولى: إلجاء الممرضات لتمريض الرجال، وهذا يعرضها للاختلاط بهم، بما يتضمنه ذلك من أنواع المخالفات الشرعية، والتي منها مباشرتها للمريض ومس بدنه، وربما في بعض الأحوال الاطلاع على عورته، وغير ذلك مما يستلزمه التمريض.
الثانية: اختلاطها بالرجال العاملين من الأطباء والممرضين والفنيين وغيرهم، وهذا الاختلاط باب لأنواع من الشرور التي لا تقف عند حد معين، بما يعرضها للفتنة في دينها والإخلال بعرضها.
وبهذا يعلم أن امتناع الفتيات وأهاليهن عن الزج ببناتهم في تخصص التمريض يعد خيارا طبيعيا، نتيجة الوضع القائم للتمريض في معظم المستشفيات.
والحل لهذه المشكلة القائمة من جهة نقص أعداد الممرضات، ومع وجود الحاجة الملحة أيضا لأن يتولى تمريض النساء المريضات ممرضات من النساء، فإنه لا مناص من السعي النظامي لأن يكون تمريض الممرضات مقصورا على النساء المريضات، وأن يكثف القبول في معاهد التمريض في أقسام الذكور وتوجد الحوافز المشجعة لهم وظيفيا ليتم سد النقص في جانب تمريض الرجال.
ومتى اطمأن الناس إلى بناتهم المتخرجات من معاهد التمريض سيكون عملهن في المحيط النسائي، ولن يتعرضن للاختلاط بالرجال، فإن ذلك سيسهم في توفير الأعداد الكافية من الممرضات لتمريض المريضات والعناية بهن.
ويجدر التنبيه هنا إلى أن ما يحتج به بعض الناس من إيرادهم لبعض النصوص الشرعية التي يتوهمون أنها تجيز مداواة المرأة للرجل وتمريضه، ليس احتجاجا صحيحا، بل لتلك النصوص محاملها عند العلماء، وبيان هذا:
أنه قد روى البخاري ـ رحمه الله ـ في صحيحه عن الربيع بنت مُعوذ ـ رضي الله عنها ـ قالت: " كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم نسقي، ونداوي الجرحى، ونرد القتلى إلى المدينة"(1).
ثم اسند البخاري ـ أيضا ـ عن الربيع بنت معوذ ـ رضي الله عنها ـ قالت: كنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم فنسقي القوم، ونخدمهم، ونرد الجرحى والقتلى إلى المدينة"(2).
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني ـ رحمه الله ـ في سياقه فوائد حديث الربيع بنت معوذ المتقدم:
فيه جواز معالجة المرأة الأجنبية الرجل الأجنبي للضرورة.
قال ابن بطال ـ رحمه الله ـ: ويختص ذلك بذوات المحارم، ثم بالمتجالات(3) منهن، لأن موضوع الجرح لا يلتذ بلمسه، بل يقشعر منه الجلد، فإن دعت الضرورة لغير المتجالات، فليكن بغير مباشرة ولا مس، ويدل على ذلك: اتفاقهم على أن المرأة إذا ماتت ولم توجد امرأة تغسلها، أن الرجل لا يباشر غسلها بالمس، بل يغسلها من وراء حائل في قول بعضهم كالزهري، وفي قول الأكثر: تُيمم، وقال الأوزاعي: تُدْفنُ كما هي(4).
قال ابن المنير: الفرق بين حال المداواة وتغسيل الميت: أن الغسل عبادة، والمداواة ضرورة، والضرورات تبيح المحظورات (5).
ثم خرج البخاري ـ رحمه الله ـ هذا الحديث في كتاب الطب من "صحيحه" عن رُبيع بنت معوذ بن عفراء قالت: "كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم : نسقي القوم ونخدمهم ونرد القتلى والجرحى إلى المدينة"(6).
وقد بوب البخاري ـ رحمه الله ـ في "صحيحه" على هذا الحديث فقال:
"باب هل يداوي الرجل المرأة والمرأة الرجل؟!".
قال الحافظ ابن حجر ـ رحمه الله ـ: وإنما لم يجزم بالحكم لاحتمال أن يكون ذلك قبل الحجاب، أو كانت المرأة تصنع ذلك بمن يكون زوجا لها أو محْرما.
وأما حكم المسألة: فتجوز مداواة الأجانب عند الضرورة، وتقدر بقدرها فيما يتعلق بالنظر والجس باليد وغير ذلك، هذا في حكم مداواة المرأة الرجل، وأما مداواة الرجل للمرأة فيؤخذ حكمها بالقياس (7).
وقد علق الإمام النووي ـ رحمه الله ـ على مسألة مداواة النساء للرجال في حال ضرورة الحرب فقال: وهذه المداواة لمحارمهن وأزواجهن، وما كان منها لغيرهم لا يكون فيه مس بشرة إلا موضع الحاجة (8).
وفي هذا السياق يقول سماحة شيخنا العلامة عبدالعزيز بن عبدالله بن باز ـ رحمه الله ـ في لفتة مهمة لما يتعلق به البعض مبينا خطأ منهجهم ووهاء ادعاءاتهم، يقول ـ رحمه الله ـ: " وقد يتعلق دعاة الاختلاط ببعض ظواهر النصوص الشرعية التي لا يدرك مغزاها إلا من نور الله قلبه وتفقه في الدين وضم الأدلة الشرعية بعضها إلى بعض، وكانت في تصوره وحدة لا يتجزأ بعضها عن بعض.
ومن ذلك: خروج بعض النساء مع الرسول صلى الله عليه وسلم في بعض الغزوات.
والجواب عن ذلك: أن خروجهن كان مع محارمهن لمصالح كثيرة لا يترتب عليها ما يُخشى عليهن من الفساد لإيمانهن وتقواهن وإشراف محارمهن عليهن، وعنايتهن بالحجاب بعد نزول آيته، بخلاف حال الكثير من نساء العصر.
ومعلوم أن خروج المرأة من بيتها إلى العمل يختلف تماما عن الحالة التي خرجن بها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في الغزو، فقياس هذه على تلك يعتبر قياسا مع الفارق.
وأيضا: فما الذي فهمه السلف الصالح حول هذا ـ وهم لا شك أدرى بمعاني النصوص من غيرهم، وأقرب إلى التطبيق العملي لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ـ فما هو الذي نقل عنهم على مدار الزمن؟
هل وسعوا الدائرة، كما ينادي دعاة الاختلاط ، فنقلوا ما ورد في ذلك إلى أن تعمل المرأة في كل ميدان من ميادين الحياة مع الرجال، تزاحمهم ويزاحمونها، وتختلط معهم ويختلطون معها؟
أم أنهم فهموا أن تلك قضايا معينة لا تتعداها إلى غيرها، وإذا استعرضنا الفتوحات الإسلامية والغزوات على مدار التاريخ لم نجد هذه الظاهرة " انتهى (9).
وفي ضوء ما تقدم يتبين أن عمل نساء السلف من الصحابيات ومن بعدهن في التمريض إنما كان في حدوده المأذون به شرعا، فيمرضن النساء، وأما تمريضهن للرجال فمحظور وغير معروف في تلك المجتمعات الزاكية، اللهم إلا ما كان في حال الضرورة حين يستنفر المجتمع المسلم كله جراء الحروب أو الكوارث والأوبئة، وذلك داخل في عموم النصوص المبيحة لارتكاب المحظور لوجود الضرورة، كما قال سبحانه: {...وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه ..} [الأنعام: 119].
وبعد:
فإن المأمول من المنظرين والمخططين للسياسات الصحية والتنظيمات الطبية في وزارات الصحة وكليات الطب والكليات الصحية في بلاد المسلمين أن يكون لهم عناية بهذه المسألة، والتي لا تزال تمثل مصدر قلق لدى أهل الإسلام، حيث يتعين عليهم السعي في إيجاد التخصصات الطبية النسائية من مثل عمل الممرضات والقابلات والفنيات اللاتي يتولين شؤون النساء في المستشفيات، ويتواكب مع ذلك وضع التنظيمات الشرعية في المستشفيات بحيث تخصص الأقسام المستقلة للنساء حتى لا يُحوجْن للاختلاط، والذي باتت مساوئه تنخر في المجتمعات بأسرها كما هو بين وظاهر.
ومتى صحت النيات وعلت الهمم فسيجدون من النجاحات في هذا الباب بإذن الله ما تحمده لهم أجيال المسلمين، وما سيكون سببا لقرة أعينهم عند لقائهم الله جل وعلا، وقد أدوا الأمانة كما استرعوا عليها.
كما أنني أوصي أخواتي العاملات في مجال التمريض أن تكون لهن المساعي التي تهيئ لهن العمل الطبي بعيدا عن الاختلاط وفتنته، وأن يحذرن من التساهل بالاختلاط والخلوة المحرمة فذلك مما يضمحل معه الإيمان ويؤدي بصاحبته لضنك العيش في الحياة وبعد الممات.
والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا به سبحانه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
المصدر: الشيخ خالد بن عبدالرحمن الشايع
نشرت فى 3 يوليو 2010
بواسطة ahmedkordy
أحمد السيد كردي
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
30,682,870