الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وبعد:
قال ابن القيم رحمه الله ولا ريب أن حسن الظن بالله إنما يكون مع الإحسان، فإن المحسن حسن الظن بربه، أنه يجازيه على إحسانه، ولا يخلف وعده، ويقبل توبته، وأما المسيء المصر على الكبائر والظلم والمخالفات فإن وحشة المعاصي والظلم والحرام تمنعه من حسن الظن بربه، وهذا موجود في الشاهد فإن العبد الآبق المسيء الخارج عن طاعة سيده لا يحسن الظن به، ولا يجامع وحشة الإساءة إحسان الظن أبداً، فإن المسيء مستوحش بقدر إساءته، وأحسن الناس ظناً بربه أطوعهم له. كما قال الحسن البصري: ( إن المؤمن أحسن الظن بربه فأحسن العمل، وأن الفاجر أساء الظن بربه فأساء العمل ).
وكيف يكون محسن الظن بربه من هو شارد عنه، حال مرتحل في مساخطه وما يغضبه، متعرض للعنته، قد هان حقه وأمره عليه فأضاعه، وهان نهيه عليه فارتكبه وأصر عليه، وكيف يحسن الظن بربه من بارزه بالمحاربة، وعادى أولياءه، ووالى أعداءه، وجحد صفات له، وأساء الظن بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله وظن بجهله أن ظاهر ذلك ضلال وكفر.
وكيف يحسن الظن بمن يظن أنه لا يتكلم ولا يأمر ولا ينهى ولا يرضى ولا يغضب، وقد قال الله تعالى في حق من شك في تعلق سمعه ببعض الجزئيات، وهو السر من القول وَذَلِكُمُ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُم أَردَاكُم فَأَصبَحتُم مِنَ الخَاسِرِينَ [فصلت:23].
فهؤلاء لما ظنوا أن الله سبحانه لا يعل
م كثيراً مما يعلمون كان هذا إساءة لظنهم بربهم، فأرداهم ذلك الظن. وهذا شأن كل من جحد صفات كماله ونعوت جلاله، ووصفه بما لا يليق به، فإذا ظن هذا أنه يدخله الجنة كان هذا غروراً وخداعاً من نفسه، وتسويلاً من الشيطان، لا إحسان ظن بربه.
فتأمل هذا الموضع، وتأمل شدة الحاجة إليه، وكيف يجتمع في قلب العبد تيقنه بأنه ملاق الله، وأن الله يسمع كلامه ويرى مكانه، ويعلم سره وعلانيته، ولا يخفى عليه خافية من أمره، وأنه موقوف بين يديه ومسئول عن كل ما عمل، وهو مقيم على مساخطه مضيع لأوامره معطل لحقوقه، وهو مع هذا يحسن الظن به.
وهل هذا إلا من خدع النفوس وغرور الأماني. وقد قال أبو سهل ابن حنيف: ( دخلت أنا وعروة بن الزبير على عائشة رضي الله عنها فقالت: لو رأيتما رسول الله في مرض له، وكانت عنده ستة دنانير، أو سبعة دنانير. فأمرني رسول الله أن أفرقها، فشغلني وجع رسول الله حتى عافاه الله، ثم سألني عنها { ما فعلت أكنت فرقت الستة دنانير }، فقلت لا والله، لقد كان شغلني وجعك، قالت: فدعا بها فوضعها في كفه، فقال: { ما ظن نبي الله لو لقي الله وهذه عنده }، وفي لفظ { ما ظن محمد بربه لو لقي الله وهذه عنده } ).
فبالله ما ظن أصحاب الكبائر والظلمة بالله إذا لقوه ومظالم العباد عندهم، فإن كان ينفعهم قولهم: حسناً ظنوننا بك إنك لم تعذب ظالماً ولا فاسقاً، فليصنع العبد ما شاء، وليرتكب كل ما نهاه الله عنه، وليحسن ظنه بالله، فإن النار لا تمسه، فسبحان الله، ما يبلغ الغرور بالعبد، وقد قال إبراهيم لقومه: أَئِفكاً ءَالِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ العَالَمِينَ [الصافات:87،86] أي ما ظنكم به أن يفعل بكم إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره.
ومن تأمل هذا الموضع حق التأمل علم أن حسن الظن بالله هو حسن العمل نفسه، فإن العبد إنما يحمله على حسن العمل حسن ظنه بربه أن يجازيه على أعماله ويثيبه عليها ويتقبلها منه، فالذي حمله على حسن العمل حسن الظن، فكلما حسن ظنه بربه حسن عمله.
وإلا فحسن الظن مع اتباع الهوى عجز، كما في الترمذي والمسند من حديث شداد ابن أوس عن النبي قال: { الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني }.
وبالجملة فحسن الظن إنما يكون مع انعقاد أسباب النجاة، وأما مع انعقاد أسباب الهلاك فلا يتأتى إحسان الظن.
فإن قيل: بل يتأتى ذلك، ويكون مستند حسن الظن على سعة مغفرة الله ورحمته، وعفوه، وجوده، وأن رحمته سبقت غضبه، وأنه لا تنفعه العقوبة، ولا يضره العفو.
قيل: الأمر هكذا، والله فوق ذلك وأجل وأكرم وأجود وأرحم، ولكن إنما يضع ذلك في محله اللائق به، فإنه سبحانه موصوف بالحكمة والعزة والانتقام وشدة البطش، وعقوبة من يستحق العقوبة، فلو كان معول حسن الظن على مجرد صفاته وأسمائه لشترك في ذلك البر والفاجر، والمؤمن والكافر، ووليه وعدوه.
فما ينفع المجرم أسماؤه وصفاته وقد باء بسخطه وغضبه وتعرض للعنته، ووقع في محارمه وانتهك حرماته، بل حسن الظن ينفع من تاب وندم وأقلع، وبدل السيئة بالحسنة، واستقبل بقية عمره بالخير والطاعة. ثم أحسن الظن بعدها فهذا هو حسن الظن، والأول غرور والله المستعان.
يفرق بين حسن الظن بالله وبين الغرور به قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرجُونَ رَحمَتَ اللَّهُ [البقرة:218]، فجعل هؤلاء أهل الرجاء، لا البطالين والفاسقين، وقال تعالى: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ [النحل:110] فأخبر سبحانه أنه بعد هذه الأشياء غفور رحيم لمن فعلها، فالعالم يضع الرجاء مواضعه، والجاهل المغتر يضعه في غير مواضعه.
قال رسول الله : { إياكم والظن فإنه أكذب الحديث } [البخاري ومسلم].
إن استمراء ظن السوء وتحقيقه لا يجوز، وأوّله بعض العلماء على الحكم في الشرع بظن مجرد بلا دليل.
روى الترمذي عن سفيان: الظن الذي يأثم به ما تكلم به، فإن لم يتكلم لم يأثم. وذكر ابن الجوزي قول سفيان هذا عن المفسرين ثم قال: وذهب بعضهم إلى أنه يأثم بنفس الظن ولو لم ينطق به.
قال القاضي أبو يعلى: إن الظن منه محظور ( وهو سوء الظن بالله ) والواجب حسن الظن بالله عز وجل.
والظن المباح كمن شك في صلاته إن شاء عمل بظنه وإن شاء باليقين. وروى أبو هريرة مرفوعاً: { إذا ظننتم فلا تحققوا } وهذا من الظن الذي يعرض في قلب الإنسان في أخيه فيما يوجب الريبة.
قال ابن هبيرة الوزير الحنبلي: لا يحل والله أن يحسن الظن بمن ترفض ولا بمن يخالف الشرع في حال.
وقال : { ما أظن فلاناً وفلاناً يعرفان من ديننا شيئاً } وفي لفظ { ديننا الذي نحن عليه } [البخاري]. قال الليث بن سعد: كان رجلين من المنافقين.
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : { حسن الظن من حسن العبادة } [أحمد وأبو داود].
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا يحل لامرىء مسلم يسمع من أخيه كلمة يظن بها سوءاً وهو يجد لها في شيء من الخير مخرجاً. وقال أيضاً: لا ينتفع بنفسه من لا ينتفع بظنه.
وقال أبو مسلم الخولاني: اتقوا ظن المؤمن فإن الله جعل الحق على لسانه وقلبه.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لله درُّ ابن عباس إنه لينظر إلى الغيب عن ستر رقيقه.
وقال ابن عباس رضي الله عنه: الجبن والبخل والحرص غرائز سوء يجمعها كلها سوء الظن بالله عز وجل.
وفي الصحيحين أن صفية أتت النبي تزوره وهو معتكف، وأن رجلين من الأنصار رأياهما فأسرعا فقال النبي : { على رسلكما إنها صفية بنت حيي } فقالا: سبحان الله يا رسول الله. قال: { إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم وخشيت أن يقذف في قلوبكما شيئاً }، أو قال: { شراً }.
قال أبو حازم: العقل التجارب والحزم سوء الظن. وقال الحسن: لو كان الرجل يصيب ولا يخطىء ويحمد في كل ما يأتي داخله العجب.
حسن الظن بالله عبادة قلبية جليلة لا يتم إيمان العبد إلا به لأنه من صميم التوحيد وواجباته ، حسن الظن بالله هو ظنّ ما يليق بالله تعالى واعتقاد ما يحق بجلاله وما تقتضيه أسماؤه الحسنى وصفاته العليا مما يؤثر في حياة المؤمن على الوجه الذي يرضي الله تعالى ، تحسين الظن بالله تعالى أن يظن العبد أن الله تعالى راحمه وفارج همه وكاشف غمه وذلك بتدبر الآيات والأحاديث الواردة في كرم الله وعفوه وما وعد به أهل التوحيد ، حقا .. إنه مسلك دقيق ومنهج وسط بين نقيضين لا يسلكه إلا من وفقه الله وجعل قلبه خالصاً له سبحانه ، لذلك ينبغي أن يكون سمة لازمة يتجلى في حياة المؤمن وعند احتضاره وقرب موته .
[ أنا عند ظن عبدي بي ] قال العلماء :
ـ قال ابن حجر رحمه الله في الفتح " أي قادر على أن أعمل به ما ظن أني عامل به " [ 17 / 397 ]
ـ قال النووي في شرح صحيح مسلم " قال العلماء : معنى حسن الظن بالله تعالى أن يظن أنه يرحمه ويعفو عنه " [ 14 / 210 ]
ـ قال النووي " قال القاضي : قيل معناه بالغفران له إذا استغفر ، والقبول إذا تاب ، والإجابة إذا دعا ، والكفاية إذا طلب ، وقيل : المراد به الرجاء وتأميل العفو وهو أصح " [ شرح صحيح مسلم 14 / 2 ]
وعموما فحسن الظن بالله عز وجل ظن ما يليق بالله سبحانه وتعالى من ظن الإجابة والقبول والمغفرة والمجازاة وإنفاذ الوعد وكل ما تقتضيه أسماؤه وصفاته جل وعلا .
لماذا نحسن الظن بالله ..؟
1. لأن فيه امتثالا واستجابة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم " يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ " [ الأنفال : 24 ]
2. له ارتباط وثيق بنواحي عقدية متعددة ومن ذلك مثلا :
أ . التوكل على الله تعالى والثقة به ، قال بن القيم رحمه الله : " الدرجة الخامسة [ أي من درجات التوكل ] حسن الظـن بالله عز وجل فعلى قدر حسن ظنك بربك ورجائك له يكون توكلك عليه " [ تهذيب مدارج السالكين ص 240 ] .
ب . الاستعانة بالله والاعتصام به واللجوء إليه سبحانه ، قال بعض الصالحين " استعمل في كل بلية تطرقك حسن الظن بالله عز وجل في كشفها ؛ فإن ذلك أقرب إلى الفرج "
ج . الخوف منه سبحانه وتعالى ، يقول أبو سليمان الداراني رحمه الله " من حَسُنَ ظنه بالله عز وجل ثم لا يخاف الله فهو مخدوع " [حسن الظن بالله ص 40 ]
3. لأن العبد من خلاله يرجوا رحمة الله ورجائه ويخاف غضبه وعقابه ، يقول بن القيم رحمه الله "ويكون الراجي دائماً راغباً راهباً مؤملاً لفضل ربه حسن الظن به " [ زاد المعاد ص ]
4. حثت عليه النصوص النبوية ودعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم " لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل " " أنا عند ظن عبدي بي " " من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه " .
5. معرفة واقع الناس وحالهم مع حسن الظن بالله ، يقول بن القيم رحمه الله " فأكثر الخلق بل كلهم إلا من شاء الله يظنون بالله غير الحق ظن السوء ؛ فإن غالب بني آدم يعتقد أنه مبخوس الحق ، ناقص الحظ ، وأنه يستحق فوق ما أعطاه الله ، ولسان حاله يقول : ظلمني ربي ومنعني ما أستحق ، ونفسه تشهد عليه لذلك ، وهو بلسانه ينكره ولا يتجاسر على التصريح به ومن فتش نفسه وتغلغل في معرفة دفائنها وطواياها ، رأى ذلك فيها كامناً كمون النار في الزناد ، فاقدح زناد من شئت ينبئك شَراره عما في زناده ، ولو فتشت من فتشته ، لرأيت عنده تعتباً على القدر وملامة له ، واقتراحاً عليه خلاف ما جرى به ، وأنه ينبغي أن يكون كذا وكذا ، فمستقل ومستكثر ، وفتش نفسك هل أنت سالم من ذلك :
فإن تنـجُ منها تنجُ من ذي عظيمة وإلا فإني لا إخالك ناجياً " [ زاد المعاد 3 / 235 ]
6. لأن مَنْ أحسن الظن بربه عز وجل فأيقن صدق وعده وتمام أمره وما أخبر به من نصرة الدين والتمكين في الأرض للمؤمنين ، اجتهد في العمل لهذا الدين العظيم والدعوة إلى الله والجهاد في سبيله بماله ونفسه .
7. أثره الإيجابي على نفس المؤمن في حياته وبعد مماته ، فمن أحسن الظن بربه وتوكل عليه حق توكله جعل الله له في كل أمره يسراً ومن كل كرب فرجاً ومخرجاً ، فاطمأن قلبه وانشرحت ونفسه وغمرته السعادة والرضى بقضاء الله وقدره وخضوعه لربه جلا وعلا .
8. المبادرة إلى طلب عفو الله ورحمته ورجائه ومغفرته ليطرق بعد ذلك العبد باب ربه منطرحاً بين يديه راجياً مغفرته تائبا من معصيته " إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها " [ رواه مسلم ] .
9. فيه النجاة والفوز بالجنان ورضى الرحمن " لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل " روى أبو بكر بن أبي الدنيا عن إبراهيم قال : كانوا يستحبون أن يلقنوا العبد محاسن عمله عند موته لكي يحسن ظنه بربه عز وجل "
10. يعين على التدبر والتفكر في أسماء الله وصفاته وما تقتضيه من معاني العبودية والإخلاص ، يقول ابن القيم رحمه الله تعالى " والأسماء الحسنى ، والصفات العلى مقتضية لآثارها من العبودية والأمر اقتضاءها لآثارها من الخلق والتكوين ؛ فلكل صفة عبودية خاصة هي من موجباتها ومقتضياتها ، أعني من موجبات العلم بها ، والتحقق بمعرفتها وهذا مطّرد في جميع أنواع العبودية التي على القلب والجوارح " [ مفتاح دار السعادة ص 424 ]
السلف وحسن الظن بالله .
1. كان سعيد بن جبير يدعوا ربه فيقول " اللهم إني أسألك صدق التوكل عليك وحسن الظن بك "
2. وكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول " والذي لا إله غيره ما أُعطي عبد مؤمن شيئاً خير من حسن الظن بالله عز وجل ، والذي لا إله غيره لا يحسن عبد بالله عز وجل الظن إلا أعطاه الله عز وجل ظنه ؛ ذلك بأن الخير في يده "
3. وسفيان الثوري رحمه الله كان يقول : ما أحب أن حسابي جعل إلى والدي ؛ فربي خير لي من والدي "
4. وكان يقول عند قوله تعالى " وَأََحْسِنُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ " أحسنوا بالله الظن .
5. وعن عمار بن يوسف قال : رأيت حسن بن صالح في منامي فقلت : قد كنت متمنياً للقائك ؛ فماذا عندك فتخبرنا به ؟ فقال : أبشر! فلم أرَ مثل حسن الظن بالله عز وجل شيئاً "
المعاصي وحسن الظن بالله .
حسن الظن بالله هو حسن العمل نفسه ، فإن العبد إنما يحمله على حسن العمل حسن ظنه بربه أن يجازيه على أعماله ويثيبه عليها ويتقبلها منه ، فالذي حمله على حسن العمل حسن الظن ، فكلما حسن ظنه بربه حسن عمله ، لكن كثيرا من خلق الله تعالى قد تعلق بنصوص الرجاء واتكل عليها ، فترى الواحد منهم إذا ما عوتب على وقوعه في الخطأ أو الزلل سرد لك ما يحفظ من أدلة في مغفرة الله ورحمته وعفوه وجوده وكرمه وأن رحمته سبقت غضبه ، وكأن حال لسانه :
وكثّر ما استطعـت من الخطايــا إذا كـان القـدوم علـى كريـم
أو كقول الآخر : التنزه من الذنوب جهل بسعة عفو الله ، قال ابن القيم رحمه الله " ولا ريب أن حسن الظن بالله إنما يكون مع الإحسان ، فإن المحسن حسن الظن بربه ، أنه يجازيه على إحسانه ، ولا يخلف وعده ، ويقبل توبته ، وأما المسيء المصر على الكبائر والظلم والمخالفات فإن وحشة المعاصي والظلم والحرام تمنعه من حسن الظن بربه ... وبالجملة فحسن الظن إنما يكون مع انعقاد أسباب النجاة ، وأما مع انعقاد أسباب الهلاك فلا يتأتى إحسان الظن "
سوء الظن بالله تعالى .
لقد ذم الله تعالى من أساء الظن به ، فأخبر عن المشركين أنهم يظنون به ظن السوء ، قال تعالى " ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا " [ الفتح : ] ووصف المنافقين بأنهم يظنون به غير الحق فقال تعالى " يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر شئ قل إن الأمر كله لله " [ آل عمران : ] قال الألوسي رحمه الله : أي ظن الأمر الفاسد المذموم وهو أن الله عز وجل لا ينصر رسوله صلى الله عليه وسلم ، وقيل المراد به : ما يعم ذلك وسائر ظنونهم الفاسدة من الشرك وغيره " [ روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني 9 / 95 ] وهذا الظن مما لا يليق بالله تعالى وحكمته ووعده الصادق ، فمن ظن أن الله يديل الباطل على الحق إدالة مستمرة يضمحل معها الحق أو أنكر أن يكون ما جرى بقضائه وقدره ، أو أنكر أن يكون قدره لحكمة بالغة يستحق عليها الحمد ، فذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار .
صور من إساءة الظن بالله تعالى .
1. من قنط من رحمته وأيس من روحه فقد ظن به ظن السوء .
2. من ظن به أن يترك خلقه سُدى ، معطلين عن الأمر والنهي ، ولا يرسل إليهم رسله ولا ينزل عليهم كتبه بل يتركهم هملاً كالأنعام فقد ظن به ظن السوء .
3. من ظن أنه لا سمع له ولا بصر ، ولا علم له ولا إرادة ، وأنه لم يكلم أحداً من الخلق ولا يتكلم أبداً ، وأنه ليس فوق سماواته على عرشه بائناً من خلقه أي بلا كيف وكما وصف الله به نفسه فقد ظن به أقبح الظن وأسوأه .
4. من ظن أنه لن يجمع عبيده بعد موتهم للثواب والعقاب في دار يجازي المحسن فيها بإحسانه ، والمسيء بإساءته ، ويبين لخلقه حقيقة ما اختلفوا فيه ، ويظهر للعالمين كلهم صدقه وصدق رسله وأن أعداءه كانوا هم الكاذبين ، فقد ظن به ظن السوء .
5. من ظن أن له ولداً أو شريكاً أو أن أحداً يشفع عنده بدون إذنه ، أو أن بينه وبين خلقه وسائط يرفعون حوائجهم إليه ، أو أنه نصب لعباده أولياء من دونه يتقربون بهم إليه ، ويجعلونهم وسائط بينهم وبينه فيدعونهم ويحبونهم كحبه ويخافونهم كخوفه فقد ظن به أقبح الظن وأسوأه .
6. من ظن بالله تعالى أن يخيب من تضرع إليه وسأله رغبة ورهبة واستعان به وتوكل عليه ولا يعطيه ما سأله ، فقد ظن به ظن السوء ، وظن به خلاف ما هو أهله .
7. من ظن به سبحانه وتعالى أن يسلط على رسوله محمد  أعدائه دائماً في حياته وبعد مماته ، وأنه ابتلاه بهم لا يفارقونه ، فلما مات استبدوا بالأمر دون وصيه ، وظلموا أهل بيته وسلبوهم حقهم ، وكانت العزة والغلبة والقهر لأعدائه وأعدائهم دائماً من غير ذنب لأوليائه وأهل الحق ، وهو يرى قهرهم لهم وغصبهم إياهم حقهم وتبديلهم دين نبيهم ، وهو يقدر على نصرة أوليائه وحزبه ولا ينصرهم ، أو أنه لا يقدر على ذلك ، بل حصل هذا بغير مشيئته ولا قدرته ، ثم جعل المبدلين لدينه مضاجعيه في حفرته ، تسلم أمته عليه وعليهم كل وقت فقد ظن به أقبح الظن وأسوأه [ زاد المعاد 3 / 922 ]
حسن الظن بالمؤمنين .
حسن الظن خلق فريد وأمر حض عليه الإسلام ، وهو من أبرز أسباب التماسك الاجتماعي على مستوى الفرد والأسرة والمجتمع ، حسن الظن راحة للفؤاد وطمأنينة للنفس وسلامة من أذى الخواطر المقلقة التي تفني الجسد ، وتهدم الروح ، وتطرد السعادة ، وتكدر العيش ، بفقده وتلاشيه تتقطع حبال القربى وتزرع بذور الشر وتلصق التهم والمفاسد بالمسلمين الأبرياء ، لذلك كان أصلاً من أصول أخلاق الإسلام ، وعليه فلا يجوز لإنسان أن يسيء الظن بالآخرين لمجرد التهمة أو التحليل لموقف ، فإن هذا عين الكذب " إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث " [ رواه البخاري ] وقد نهى الرب جلا وعلا عباده المؤمنين من إساءة الظن بإخوانهم فقال " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ " وما ذاك إلا لأن الظن سيئة كبيرة موقعة لكثير من المنكرات العظيمة إذ هو ذريعة للتجسس ، كما أنه دافع إلى الوقوع في الغيبية المحرمة " ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا " فما أحوجنا إلى هذا الخلق العظيم لتدوم بيننا المحبة والوئام ، وتصفوا القلوب والصدور ، وتزول الشحناء والبغضاء ، ورحم الله القائل :
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.